دور المثقفين العرب في العمل السياسي
باتريك سيل
يتم شن معركة أقلّ علانيةً، وسط الغضب العارم واستباحة الدماء في الشرق الأوسط المتمثلة في المجازر في العراق، والاقتتال بين الاخوة على الأراضي الفلسطينية، وجراح لبنان غير المندملة، هي معركة المثقفين العرب المتنورين ضد المحرّمات وتسلط الأنظمة الذي يعيش معظم هؤلاء في ظله.
كان يوسف شاهين، المخرج المصري الكبير الذي توفي في 27 تموز (يوليو) الماضي عن عمر 82 سنة، فنانا لامعا. إلا أن بعضاً من أفلامه التي تخطى عددها الأربعين، يوجه ضربة قاتلة ضد الرياء والتعصب الديني الأعمى وضد الحكم الاستبدادي. كما أنه دعم الحركة الاحتجاجية الشعبية المصرية «كفاية» التي تعارض حكم الرئيس حسني مبارك.
وأحدث فيلم «باب الحديد» صدمة لدى الجمهور إذ قدّم صورة محببة لـ «امرأة عاهرة» وللعنف الذي استخدم في قتلها. وتجرأ فيلم «العصفور» (سنة 1973) على القول إن سبب هزيمة مصر في حرب 1967 يكمن في الفساد في البلد. وأثار فيلم «المهاجر» عام 1994 غضب الأصوليين لأنه تناول قصة شخصية النبي يوسف ابن يعقوب.
ولا يعي الغرب أحيانا أن أكثر النقاد قساوة للظلامية الدينية هم من أصل عربي مثل الأستاذ الفرنسي التونسي عبدالوهاب ميديب الذي يُدرّس الأدب المقارن في جامعة باريس والذي أثار كتابه بعنوان «مرض الإسلام» (2002)، موجة غضب في الأوساط الإسلامية المحافظة.
كتب ميديب: «إذا كان التعصب مرض الكاثوليكية، وإذا كانت النازية مرض ألمانيا، فالأصولية هي مرض الإسلام».
وينتقد كتاب حمادي الرديسي أستاذ العلوم السياسية في جامعة تونس، بعنوان «الاستثناء الإسلامي» (2004)، المجتمعات الإسلامية الراكدة. فيعزو السبب إلى الأنظمة الاستبدادية وإلى حكم الشخص الواحد وإلى بروز «الأرستقراطية العسكرية» في عدد من البلدان العربية وإلى استغلال الدين لضمان الطاعة الشعبية. أما الحل الذي يقترحه فهو تعزيز إمكانية الوصول إلى المعرفة وتوفير حريات سياسية أكبر وتحقيق مشاركة أوسع للنساء في كلّ أوجه الحياة العامة.
أما الشخص الآخر الذي يعارض بدوره التطرف الديني فهو خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز. فقد أدت دعوته خلال شهر آذار (مارس) الماضي إلى «إطلاق حوار أخوي وصادق بين من يعتنقون الأديان كافة» إلى عقد مؤتمر حوار الأديان التاريخي في مدريد، الذي لم يحضره المسلمون فحسب بل المسيحيون واليهود والسيخ والهندوس وسواهم. ولم يكن مستغرباً أن يندد تنظيم «القاعدة» المعروف باتجاهاته التكفيرية المتطرفة بهذا المؤتمر وبالداعين اليه.
كما عانى المثقفون الليبيون خلال السنوات التسع والثلاثين الماضية بسبب حكم العقيد معمر القذافي. وبرز حدث أخيراً، ساهم في إلقاء الضوء على طبيعة هذا النظام الغريب وهو حدث غير مشرّف له. فتم اتهام أحد أبناء القذافي، هنيبعل البالغ الثلاثين من عمره، وزوجته الحامل ألين، في 15 تموز (يوليو) الماضي بضرب خادمين يعملان لديهما في فندق فخم في جنيف وبالتسبب بأعمال شغب. وأوقفت الشرطة السويسرية هنيبعل لمدة يومين.
ومعروف عن ابن القذافي انه مشاغب. ففي عام 2001 اصطدم مع الشرطة في روما فأدخل ثلاثة منهم إلى المستشفى. وفي عام 2005، قاد سيارته من طراز «بورش» بسرعة 140 كيلومتر في الساعة في جادة الشانزيليزيه وسط باريس، وفي عام 2006 انهال بالضرب على صديقته الحامل في فندق إنتركونتيننتال في باريس ومن ثم شهر المسدس في وجه حراس الفندق. وصدر بحقه حكم بالسجن لمدة أربعة أشهر مع وقف التنفيذ بتهمة ممارسة «العنف المتعمّد ضد شخص ضعيف» وفرضت عليه غرامة بقيمة 500 يورو.
وعوضا من دعوة ابنه المتهوّر إلى المنزل بسبب الحكم الذي صدر بحقه بعد الحادث العنيف الأخير في جنيف، قرر العقيد أن ينتقم. فهددت ليبيا بقطع إمدادات النفط عن سويسرا ومنعت السفن السويسرية من دخول مرافئها وعلقت إصدار تأشيرات دخول إلى المواطنين السويسريين وطلبت إغلاق فروع الشركات السويسرية في ليبيا مثل شركة «نستله» واعتقلت الموظفين السويسريين وطالبت جنيف بالاعتذار. ولا شك أن العقيد يظن أن ضرب الخدم هو سلوك مقبول من قبل أفراد عائلته.
ويذكّرنا ذلك بقصة أبناء الأشخاص النافذين في عدد من البلدان العربية، الذين يقال انهم يدخلون غرفة الامتحانات يرافقهم الحراس، ليس لحمايتهم بل لتذكير الممتحنين بالقصاص الذي سينالونه في حال وضعوا لهم علامات سيئة.
أما القضية الأكثر صعوبة وجدلية فهي قضية الرئيس عمر البشير في السودان الذي اتهمه المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو بارتكاب اعمال إبادة في دارفور. وهي أول مرة تتم فيها مقاضاة رئيس دولة خلال ولايته الرئاسية.
ولا شك أن اقليم دارفور المعزول والذي يقع غرب السودان شهد أحداثاً مفجعة منذ اندلاع اعمال تمرد فيه ضد النظام السوداني في العام 2003، حيث قضى 300 ألف شخص ونزح أكثر من مليوني شخص من قراهم المنكوبة. واتهمت المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان القوى الحكومية والجنجاويد، وهي ميليشيا تدعمها الحكومة، بارتكاب معظم الأعمال الوحشية.
لكن كيف يمكن إرساء توازن بين تحقيق العدالة والمصلحة السياسية؟ يُعتقد أن الرئيس البشير هو الأكثر اعتدالا بين بعض من زملائه المتشددين. وهناك مخاوف من أن تساهم إطاحته في إغراق السودان في الفوضى.
فقد يمنع ذلك من تطبيق اتفاقية السلام الشامل التي أبرمت في العام 1995 بين الحكومة المركزية والمتمردين الجنوبيين والتي نصت على إجراء انتخابات في العام 2009 واستفتاء حول استقلال جنوب السودان في العام 2011. كما قد يعطي ذلك تنظيم «القاعدة» فرصة للعودة إلى قاعدته القديمة في السودان. ويمكن أن ينسف قانون الانتخاب الجديد الذي وافق عليه المجلس الوطني والذي يعد بإنشاء أول حكومة منتخبة بحرية في السودان منذ 20 سنة.
وفي هذا الوقت، يبدو أن اتهام المحكمة الجنائية الدولية قد دفع بالحكومة السودانية إلى التحرك. فجال الرئيس البشير على دارفور، وهي أول زيارة له منذ أن تسلم مقاليد السلطة في العام 1989 ووعد بتقديم مساعدات اقتصادية. ويبدو أنه قد يتم اعتقال كلّ من وزير الداخلية الأسبق أحمد هارون وأحد قادة الجنجاويد علي قشيب، وقد تتم محاكمتهما لارتكاب أعمال وحشية في الإقليم.
وينظر عدد كبير من السودانيين والعرب إلى اتهام البشير على أنه تحدّ للسيادة السودانية ويعتبرونه دليلاً آخر على المعايير الغربية المزدوجة. ويتساءلون متى ستقاضي المحكمة الرئيس الأميركي جورج بوش الذي تسبب بدمار العراق أو رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بسبب جرائم الجيش الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟
لا يحتاج العالم العربي وحده إلى تنظيم أموره الداخلية ولا يحتاج وحده إلى الاستماع بشكل خاص إلى أصوات المفكرين المتنورين.
* كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط
الحياة – 01/08/08