صوتُ محمد دريوس، أو شعريّةُ الحواف المتهدمة
علي جازو
عن وزارة الثقافة في (الجمهورية العربية السورية ـ الهيئة العامة السورية للكتاب) صدر، بعد تلكؤ وتباطؤ عامرَيْن داما أكثر من أربع سنين، الديوانُ الأول “خَطُّ صوتٍ منفلش” للشاعر محمد دريوس. لا شك أنه عمل مهم لأنه مختلف إن لم نقل متفرد بأسلوبه وصياغاته غير المألوفة في عموم الشعر السوري على الخصوص. ما يلفت الانتباه في عمل محمد دريوس ـ وهو باكورة شعره مطبوعاً وموزعاً في 1000 نسخة، قياس 20 سم، على 96 صفحة بها 20 قصيدة، دون ذكر اسم مصمم الغلاف ـ أنه وليدُ النضج والسخرية والمهارة معاً. قصائدُ هي بنْتُ العينِ واللّسان ؛حذرة، وتمنحُ خفّةَ وبهاءَ آلَتَيْ شِعْرٍ أصيلتين. ثمة حرصٌ على تتبع الصوت موارَباً وفطناً ومرحاً! الشاعر لا يسير على استقامة لونية واحدة، لا في اللغة فماً ناطقاً وجافاً، ولا في التصور عيناً واحدة مكتفية.
إنه يتخبط وينحرف لأن عينيه مفتوحتان مسكونتان وبريئتان. إنه يتكلم كما لو أنه لم يتكلم من قبل، كما لو أن الحياة العادية، على عبثها وفتنتها طليقتين آسرتين، لم تجد لسانها داخل فمِهِ اليوميّ المعتم . تبدو العبارة صادرة ـ تغادرُ وتعودُ إلى نفسها ـ كما لو أنها مبثوثة وسريّةٌ من فمٍ يفكّرُ وعينٍ تراقبُ وقلبٍ يتخفّى وهو في أقصى ما يحمل من تَذَكُّرٍ وتَوْقٍ. صوتيةُ القصائد ـ بلا خلطِ قدرتها الكامنة على لفظها الواضح ـ تتعزَّزُ من فرط حيائها القلبيّ، صوتيَّتُها من زحامها الممتلئ غيظاً وأسفاً، لكنْ ساخراً كما يسخر العارف العاجز، وكما يحقد الحالم الكئيب! الصوتُ لا يرضخُ ولا يثورُ، لأنه لا يعبدُ ولا يطمحُ. القلب لا يسفح على ما عهدناه من رومانسيات فجة، ولا يتغذَّى من جُرْآتٍ لفظية ـ هي مزيجٌ من اللامبالاة والسخف ـ كما دالة على ركاكة تسيَّدَتْ واستشرت ورُوِّجَتْ. القلبُ يخجلُ، يحيا كأنما يختنق، ويتوارى ليخلف في فراغه ما لم تره سوى العين التي لا تتوقف عن النظر والتذكر والخسارة. الشاعرُ ابنُ العبث والدمار، وهو في الآن دراميُّ حياته على سَوْقٍ مختلفٍ لعبارة عباس بيضون: لم أعد بستاني حياتي. يبدو محمد دريوس بلا سلف في الشعر السوري. ربما نرى تأثيراً لشعراء لبنانيين وبالأخص عباس بيضون وبسام حجار؛ لجهة تعميق العبارة على منحىً ماديّ عضوي، وخلخلة سياقها المفاجئ بتذكُّرٍ ذي طاقة شعورية نافذة. لكنّ دريوس، رغم تأثره الذكي والمعاند، قريبُ الصلة بشاعر ذي تجربة وحنكة، هو ابن مدينة دريوس نفسها، اللاذقية حيث ولد محمد عام 1973 ليحصل في ما بعد على إجازة في الاقتصاد من جامعتها الـ(تشرين). ثمة ما يسترعي النظر هنا، فالجيل السوري الشعري الجديد في مجمله من أبناء وبنات الجامعات: أطباء (جولان حاجي، محمد رشو، فايز حمدان) ومهندسات (هنادي زركا) ومحامون (محمد عارف حمزة) ومحاميات (شهناز شيخة) على الأمثلة ليس إلا، وهي ـ أي الجامعات السورية ـ على ما هي عليه!! ثمة ما يدفعنا بداية للتعثر بخطوات الشاعر منذر مصري على مجمل فضاء الديوان. لكننا في قراءة تالية نرتابُ في العلاقة ونعيد تصويبها ومساءلتها، لأنها شائكة ملتبسة قوية، ومتنافسة في ذرى متألقة. ربما يكون محمد دريوس أكثر صرامة من منذر مصري، أكثر سخاء وتلبكاً وتحاوراً بانفعالاته المتراكبة المختلطة؛ فالأخير، على أناقته الشعرية الصريحة، مرح ورقيق وطيّع حد الهشاشة، وهي ـ أي الهشاشة ـ عنوان ألم صامت وحنين عميق. الشاعر يرى، لا يصمت، يتكلم لأنه يحتاج إلى “صوته” صوته هو “الضائع” بين الحشود : “الهواءُ منحرفٌ/ ويتجاسرُ، منحرفاً، على العربة والعجلات/ والحوذيُّ يقامر بالشوارع وعمدة المدينة/ ويظنُّ بهم أمراً/ ويتجرأ/ وإذا استرجعْتَ بِنْساً من أحاديث ذلك الزمان/ فلأنّ الوقتَ وقتُ دمارٍ/ ولأني هاوٍ بعْدُ وضعيفٌ/ والعبارةُ التي عُرِفْتُ بها/ عبرَتْ/ وانتهتْ، بين الحشود…”.
الشاعر منتهياً ومسكوتاً ومدمراً من قبل الحشود، لا ينسى أن جزءاً من الشعر تسلية. محمد دريوس يتسلى في وقت لا يجرؤ فيه كثيرون من مجايليه على إعادة الشعر إلى اللذة والحلم إلى الكلام والرغبة ـ مشعة وأليفة ـ إلى بؤبؤ العين. على الغلاف الأخير نحظى بقراءة مكثفة ـ هي بمثابة تقديم متأخر صاغه الشاعرُ منذر مصري جوهراً سائلاً كما يُصاغُ الماءُ من الماء ـ.
ليست فرادةُ واختلاف شعر محمد دريوس، ما راح يفاجئني كلما قرأته، بل تطوُّرُ أدائه الشعري خلال السنين الأخيرة إلى ذلك المستوى الذي يستحق وصفه بالرفيع، ومن ثمَّ وصولُهُ إلى قصيدة ذات حساسية لغوية ومزاجية شخصية، تكاد تخلو من كل ما تزدحمُ به قصيدةُ النثر الرائجة من عيوب معممَّة، مكتفية بعيوبها الخاصة فحسب. كلماتُ دريوس ليست سوى موتها الفردي، ليست سوى انبعاثها الخاص والمنفرد. القصيدة ليست سهلةً ولا غامضةً، لكنها ـ بتخلصِّها الصَّعبِ من السهولةِ والغموضِ في آن ـ تزحفُ تحت ضغط إرجاءٍ مُلِحٍّ، كلماتٍ ملحَّةٍ. صوتٌ منحرفٌ، جسور بلا ضجيج، وعميق بلا استعراض. ثمة من يخجل لأنه يعرف، ويصمت لأنه يرى، ويتكلم لأنه لا يستطيع إلا أن يتذكر ويقول. الصوتُ منحرفٌ لأن طاقتَهُ على تتبّعِ ما سلفَ وما استقرَّ هي طاقةُ الهاربِ الرافضِ، ورشاقتُهُ في السبك من رشاقة الراقص الخفيف. الكثيرُ من الكلام شُطِبَ وأُخفيَ وتستَّرَ؛ فاللغةُ ـ على ما عهدناها من بلاغة تجزي وتخرس متكلَّمَها الفصيحَ ـ تضمحلُّ ولا يبقى منها سوى توهّجٍ نفسيّ، وشغفٍ شفيف “كحنين الندى”. أنْ “ينحرف” الشاعرُ، أن “ينزوي”، هو من الجوهرِ ـ كما أنارَهُ محمد باقتدار في غير محل من عمله الأول ـ الجوهرِ الذي كان بديهةً تكلَّفُ النسيانُ العموميُّ الكسولُ بكتْمِ غموضِها المغري. الشِّعرُ كذلك تذَكُّرٌ موارَبٌ، سِجلُّ مدفونين، ومن جديدٍ، بديهةٌ طريّةٌ؛ كما لو أنها ولدتْ للتوّ. تتقسَّمُ القصيدة من ذاتها، تتضاءلُ وتتراكم، وفي تواليها تتجزأ. ثمة ما انتشرَ وتباعد وتشعب. إنها ـ القصيدة ـ مجموعة أصوات ذات نزوعٍ نشط، ناميةً في أكثر من اتجاه، وتسمحُ في اختلاطها وتشعبّها الحواريّ الدراميّ لنفحة الحياة “السائلة” أن تسري عبرها ضئيلة وحرة في آن. ليس حدُّها من “الجزالة” و”التذاهن” في شيء، قدر ما هو في هذه المراقبة الحوافية المستمرة، في هذه النأمات تتهدَّمُ وتلوح، فتفلِتَ اللغةَ من وظيفتها الناقلة إلى بعدٍ أرحبَ وأخفى، أقربَ وأذكى. اللغة تنفعلُ ـ مع مدونها المقل المقتصد ـ عبر جزئيات متعاكسة، لكنّها في مجموعها فاعلةٌ، وقادرةٌ، عبْر سلبيةٍ وهدْمٍ هما من لبِّ المعيش نفسه ؛ إنها تضربُ وتعضُّ وتهربُ وتفضُّ وتدمى وتعودُ، حمّالةً من بُعْدِها الحميمِ ـ عاطفةً وعقلاً خلْفَ اللغة ـ ما ظنَّنا أننا رأيناه من قبل.
لا يمكننا الإمساك بقصيدة دريوس من خلال تحديدٍ سكونيّ قابضٍ، فهي لا تُمَسُّ إلا عبر حركيّتها المدهشة وميلها المفرط إلى التحاورِ لا التجاورِ، المنتشرِ لا المستقرِ، المخالفةِ لا التآلفِ. ومع هذا، لا تني تعرضُ نفسها لممْكِنات اللسان الشفوية ـ على تهاونها ولطفها ـ من سرعة التنقل والتهرب متجاوزةً حبْسَ الكلمات داخل أنظمةِ نحْوٍ يابس و(صحْوٍ) كتيم، تكادُ تيَّبَّسُ على أيدي شعراء لم يخرجوا عن الكلام معتدَّاً وبلا نبْرٍ إلا بمقدار ما تلامسُ ألفاظُهم شفاهَهم! يمتزجُ التعبيرُ مع الصوت، والحوارُ ـ متصادياً مع نفسه ـ مع دكنة لحم اللسان ولحم الأرض. الصوتُ يتلملمُ وينزاحُ لأنَّ في الاثنيْنِ ـ تلملماً وانزياحاً ـ حاجتَهُ إلى التكوُّنِ جرعاتٍ سئمة وضالة، وطريقتَهُ إلى النفاد عبر حوافٍّ تتهدم واحدة تلو أخرى.
“خط صوت منفلش”
محمد دريوس
الهيئة العامة السورية للكتاب
2008
المستقبل