أشياء تُعين علي الشعر
عناية جابر
بعد أسبوعين من اقامتي الامريكية هذه أعترف أنني عاجزة مازلت عن الكتابة وأجد صعوبة في الدخول تحت جلد قلبي وحواسي. قدّم لي والت ويتمان موضوعي الأول ولم يمكنني التكهن بموضوع ثان حتي عثرت علي عشير روحي ادغار ألن بو الكائن الخليط من المواهب الموروثة لأم ممثلة وموسيقية وراقصة بارعة وأب فنان له شهرته فقدهما بو وهو لم يتخط الثالثة من العمر فتبنته أسرة ألن بو التي حمل اسمها.
بو شاعر وقاص امريكي ولد عام 1809 في بوسطن ـ حيث أنا الآن تحديداً وأتنقّل بين الولايات الأمريكية ـ وتوفي عام 1849 في بالتيمور. أحببت بو منذ علاقتي الأولي بالقراءة فهو كاتب الأعصاب كما وصفه بودلير قلق ونزق ومتقلّب أدمن الشعر والفوضي وأدمن أشياء أخري أعانته علي الشعر. في حداثتي ولغاية الآن اعتبرت بو فعلاً عشيراً لروحي حتي قرأت ان بودلير الفرنسي سماه قلبه المعرّي كما رأي فيه دوستوفسكي الروسي (كاشف الزيف ونازع الأقنعة) وأحبّه مالارميه كثيرا. فرنسا أنصفت ادغار ألن بو فيما رفضه الذوق الأمريكي العملي!!
شأن كل الزائرين الطارئين علي أمريكا الذين قد يموتون فيها لكنهم لا يعيشون عيشاً ساخناً هم الآتون من بلاد تلتهب فيها الأحاسيس فتفجّر أعمارهم يوماً اثر يوم. بو الأمريكي المولد والنشأة كان غريباً عن امريكا مثلنا نحن الطارئين ولقد نجح اعداؤه بطمس ابداعه وبتهميش شخصيته بالتركيز علي انه كان كاتباً عادياً وسكيراً فاشلاً سوي ان لبرنارد شو كلمة في بو منصفة وتدعو للتأمل: لقد تمّ اكتشاف امريكا ولم يتمّ اكتشاف بو.. .
لم أقف علي باب بيته. بل كلّمته. ربما لديّ خلل في قشرة دماغي فأنا أمضي في حب أحدهم حتي بعد موته بكثير. بل أمضي في حبه أكثر حين أوقن انه قد نجح في موته. أمضي مرتبكة في الحب سواء كان الأمر جيداً أم سيئاً. كلّمته بكل التمتمات الخفيفة نحو عالم الأرواح وكنت عاجزة أمام بابه باب بيته الذي عاش فيه عن فتح عيني وضعت في دوامة من الصور عن عذاباته وخيالاته التي بدت لي فاتنة مع انها أودت به وهو في الأربعين. شعرت برغبة التخلص من جسدي وأن قلبي ينفجر وغرقت في غمه الرهيب وفي حركة امتنان لكتاباته السوداء رجعت في الزمن لأكون الطفلة العالقة بين شياطين المرايا وأشباح الستائر والقطط السوداء.
في الكتيب الصغير ان بو وريث اختلاط المواهب ارفقها بذكاء حاد ميّز شخصيته ذات الركيزتين ـ الجمال والموت ـ حيث الفقد الذي لم يرحمه في أعزّ من أحبّ ليبدأ عالمه المرعب المدجج بالكوابيس وقد زخرت بها قصصه وقصائده أكثرها شهرة الغراب التي شكّلت سيرته الذاتية ونهضت به كشاعر أول في حين ان عالمه الآخر سيكون الجمال الممتلئ سحراً وعاطفة في نصوصه الشعرية والقصصية وفي نقده الأدبي باحثاً عن القيمة الجمالية البحتة وله في ذلك دراسات وبحوث ومقالات.
لم يمتلك بو أي قدرة علي التحكم بحياته او بالعالم المحيط به رغم النسوة الجميلات اللواتي ملأن قلبه كبديل عن بحثه الدائم عن امه الجميلة التي قضت باكراً. كائنات غريبة ملأت ذهنه وظهر له الشيطان في المرايا وخرجت في أقصي ثمله الموتي من المقابر وتغلغلت أشباح مصاصي الدماء بين شقوق بيته وضفادع ضخمة اختبأت في الخزائن وأرواح محزونة هائمة لاحت في الستائر وانه في ليلة كابوسية اقتلع بسكين عين قطه الحبيب بلوتو وان صدأ تمديدات الأنابيب هو دم قرابين بشرية. ثم سرعان ما يتلاشي هذا العالم المأهول بالرعب ليدخل في فضاء أبيض وصامت وليطفو بو في الجو يحمله الهواء باحثاً عن حبه الذي خلفه وحيداً وليكتب في غرامه آنابيل لي:
في هذه المملكة قرب البحر
هبت ريح من غمامة ليلاً
وقضت علي آنابيل لي
لكن حبنا كان أقوي بكثير
فلا الملائكة في السماء
ولا الشياطين تحت البحر
تستطيع ان تفصم روحي
عن روح ـ آنابيل لي ـ الجميلة
أنام بجانب حبيبتي
حياتي وعروسي
كتابة مقالة عن شاعر سوداوي لا تقلّ خطراً عن الوقوع في الحب انها اندفاع جنوني خصوصاً انك التمست مكانه وبيته وطرائق عيشه بعد ان قرأت له وسمعت عنه. اندفاع جنوني يتطلب انكباباً متعصباً حيال الأرواح المهيـــــضة. بو كان روحاً مهيضة ولا تستطيع قوي الكتــــــابة ان تكون كافية للكتابة عنه سوي انه شاعر ويجدر ان نقول له Hello لقد أحببناك. انني آتية من بيروت غير أنني أعرفك جيداً. وأعرف الأذي الذي لحقك والغمّ الذي أكل قلبك. ثمة هذا السر بيننا وقد أصبحت تعرف الآن لأنني أخبرتك للتو. آتية من بيروت أجل ولكن ليست هذه هي القضية. عليك ان تعترف أن المسألة ليست بوسطن او بيروت المسألة أننا أنت وأنا مختنقان في هذا العالم. ليست بوسطن او بيروت انه الضجر حتي الموت.
القدس العربي