انحطاط الثقافة: مثال مجلة شارلي والرسام سينه
نهلة الشهال
حدث يخض الوسط الثقافي الفرنسي منذ شهر: طرد الرسام والمعلق سينه من الأسبوعية الفرنسية الشهيرة «شارلي». لم يبق مثقف إلا أدلى بدلوه. يمكن اعتبار ذلك الانشغال علامة ايجابية، أي مؤشراً على المكانة التي ما تزال تحتفظ بها الأفكار وما يرتبط بها من أحداث. وإنما يحبط هذا التقدير مضمون الخلاف وطريقة إدارته. فللمعلق ورسام الكاريكاتير سينه -ربما الأشهر في فرنسا بين الأحياء، وهو البالغ تسعاً وسبعين- تاريخ حافل بالتمرد وبالتجرؤ، بتعابير ورسوم فجة غالباً (وهو خيار يلازم التمرد ذاك)، على ما يعتبر محرمات: الأديان والسلطات والجنس. وعلى ذلك، فهو معروف بقدرته على الانحياز لما يقتنع بأنه قضايا عادلة: كان «حامل حقائب» لجبهة التحرير الجزائرية، وأيد الثورة الكوبية، وهو اليوم نصير معلن للقضية الفلسطينية. أما أسبوعية «شارلي»، فبدأت في السبعينات مجلة ساخرة أسستها مجموعة من الأصدقاء وورثت أخرى كان اسمها دالاً، «هارا كيري»، أي الانتحار وفق الطقوس اليابانية. لكن «شارلي» في «صيغتها الثانية»، بعد توقف وإعادة تأسيس عام 1992، لم تعد مجرد صوت ساخر يتخذ لنفسه صورة بطة صغيرة قبيحة، بل أصبحت مؤسسة بكل ما للكلمة من معنى: برأسمال وتراتبية واعتبار للسوق. عام 2006 مثلا، حققت ربحاً من البيع دانى المليون يورو، وهذا كثير كما يعرف أرباب الصحافة، ساهم في حصة الأسد فيه إصدار عدد خاص عما بات يعرف بـ»كاريكاتيرات النبي محمد»، بيع منه نصف مليون نسخة!
أما سينه فتجرأ، في ما تجرأ عليه، على تناول اليهود. حدث ذلك في معرض سخريته من جان، ابن الرئيس نيقولا ساركوزي، البالغ الواحدة والعشرين والذي نجح هذا العام في احتلال منصب في بلدية نوييه الثرية حيث بدأ والده مشواره السياسي، ثم أصبح مستشارا في حزب والده. وأثارت الحالة تعليقات ساخرة عديدة وقتها، لكن سينه علق على نية الشاب، فوق ذلك، الزواج من وريثة امبرطورية تجارية، بل اعتناق اليهودية كرمى لعيونها، قائلاً «هذا الشاب سيذهب بعيداً»، أي سيصل إلى مبتغاه في الحياة. ومرت أيام على المنشور دون أن يثير انتباه أحد، إلى أن توفر تعليق من احد الصحافيين في برنامج إذاعي يقول إن المقال «معاد للسامية». وهنا بدأت الدنيا تقوم ولا تقعد، وتسارع كل شيء، واحتلت الصحف الفرنسية والإذاعات مقالات وتعليقات نبشت تاريخ سينه للقول إنه معاد للسامية منذ نعومة أظفاره! وقاد الحملة وجوه باتت مختصة في مثيلاتها بينهم كتاب معروفون وبعض منظمات حقوق الإنسان. استجاب صاحب المجلة للحملة، وهو بات منذ وقت يحسب تماماً حسابات الربح والخسارة، ويقال في الصحف الفرنسية إن مستشاراً لابن ساركوزي ذاك اتصل به وافهمه أن دعوى ضد المجلة على الأبواب، فقام بطرد الصحافي والرسام الشهير! وهو إجراء غير مألوف بتاتا في فرنسا وفي أوروبا عموماً، ويخالف التقاليد والأصول ويقلب، على هذا، صورة المجلة التي يفترض أنها تهدم السلطات والمحرمات.
تلك هي «الحدوتة»!
خرجت بالمقابل أصوات لمثقفين وسياسيين جلهم يهود، وإن كانوا لا يعرّفون أنفسهم على الساحة العامة بوصفهم كذلك، تحذر من تهوين تهمة معاداة السامية بحيث تلصق على كل شيء فتضيع خصائصها. بل وقّع على نص بهذا المعنى أكثر من ثلاثة آلاف شخصية، مستنكرين أيضا الخفة التي عومل بها سينه، وهذه النقطة ليست ثانوية. فإن كان معْلم كسينه ليس بمنأى عن العقوبة الاعتباطية، أيا كان السبب، فهذا خطير. وفي مقالات أخرى وقعتها شخصيات ثقافية معروفة، جرى تناول قدرة تهمة «معاداة السامية» بالذات على التخويف، على التحول إلى موضوع لرُهاب فعلي لا يمكن إلا أن يعزز مشاعر كره اليهود والتوجس منهم، بوصفهم تكتلاً قائما، أو «لوبي» يتولى حرق من يقترب منه، محولاً كل ما يمس أفراده إلى محرّم، وهذا يثير بالتأكيد الحنق والحقد. كما جرى تناول قدرة أي موضوع يوصم بمعاداة السامية، مهما كان سخيفاً، أو جانبياً، كحالة الحادثة هذه على إسالة الكثير من الحبر. وكتب البعض قائلاً إنه زمن موت الأفكار والإيديولوجيات هذا الذي يجعل كل موضوع مهما كان تافهاً محل إثارة واهتمام وانشغال كبيرين إلى هذا الحد.
ولكن ما يجدر تذكّره بهذه المناسبة أن تهمة «معاداة السامية» تلك، وهي موضة فرنسية بشكل خاص مرتبطة بالتأكيد، بين أشياء أخرى، بذلك الشعور الفرنسي العميق بالذنب بسبب تاريخ التعامل مع النازية والوشاية باليهود واستلاب ممتلكاتهم، قد سبق لها ووجهت ليهود! فكمثال، تولى الفيلسوف الفرنسي الشهير ألان فينلكلكروت اتهام المخرج السينمائي الإسرائيلي المقيم في فرنسا، ايال سيفان، بها عقب عرض فيلمه «الطريق 181» الذي يتناول تاريخ القضية الفلسطينية من زاوية شهادات بعض اليهود الذين عايشوا لحظة تأسيس إسرائيل. ووقعت بعدها محاكمات طويلة وحملة شعوذة بالمعنى الحرفي للكلمة هدفت إلى تحويل حياة الرجل إلى جحيم…
فهل تغطي مثل هذه الممارسات حقا ما يجري هناك، في فلسطين - إسرائيل؟ لأنه في حقيقة الأمر، وعند التدقيق في المحاجّات الضمنية أو الصريحة، فهذا هدف مثل هذه الحملات: أن يتاح لإسرائيل انجاز جريمتها من دون نقد ولا حساب، بحيث يسود صمت تام مخافة مواجهة تهمة معاداة السامية. لا يعتقد عاقل أن مثل هذا الهدف قابل للتحقيق، رغم كل الإدقاع الفكري، وسيادة قيم مشوهة. فما زالت أغلبية الأصوات تخرج منددة بفعلة صاحب مجلة «شارلي»، وقبله بالحملة على سيفان وسواها من الأمثلة المشابهة. وما زالت المبادرات للاهتمام بالمسألة الفلسطينية حية رغم كل الصعوبات، وآخرها مشروع يبادر للتحضير له حالياً أعضاء في البرلمان الأوروبي وناجون من المحرقة النازية، وكتاب وصحافيون، وجمعيات عالمية مناصرة للنضال الفلسطيني، لتوجيه سفينة إلى شاطئ غزة كوسيلة رمزية لكسر الحصار عن القطاع. وهو مشروع يخيف السلطات الإسرائيلية وقد تناولته مؤخرا صحيفة «هآرتس» قائلة إن المسؤولين الإسرائيليين لا يعرفون كيفية مواجهته… هنا لا تنفع حملة الرهاب باسم معاداة السامية وتبدو كضجيج بلا طحن!
الحياة – 03/08/08