خزائن محمد القيسي
صبحي حديدي
ذات يوم، وفي ذروة بحث الوجدان العربي عن إحالات خلاصية تخفّف من وطأة هزيمة 1967 ، نشرت مجلة «شعر» ملفاً عن شعر المقاومة داخل فلسطين المحتلة، تضمّن عدداً من القصائد القادمة «من وراء الأسلاك» حسب تسمية الملفّ. لكنّ التحرير ارتكب هفوة لافتة، يمكن للمرء أن يتفهمّها تماماً، هي إدراج خمس قصائد للشاعر الفلسطيني محمد القيسي (1944ـ2003)، الذي كان في الواقع قد عرف مرارة النزوح منذ العام 1948، وكان عند صدور الملفّ يعيش متنقلاً بين أكثر من منفى بعيداً عن مسقط رأسه، «كفر عانة».
والشاعر، الذي تمرّ ذكرى رحيله الخامسة في الأوّل من آب (أغسطس) القادم، كان جديراً بهذه الصفة (التي بدأت، واستمرّت حتى الساعة، غائمة ملتبسة فضفاضة)، إنْ لم يكن بسبب انخراطه التامّ في الموضوع الفلسطيني، بالمعاني الوطنية والإنسانية والوجودية والرمزية، فعلى الأقلّ لأنّ الراحل كان يعتبر الشعر ذاته سلوكاً مقاوِماً بأرفع معنى للمفردة. وأميل إلى القول إنه، ومواطنه فوّاز عيد (1938 ـ 1999) صاحب المجموعتين المتميزتين «في شمسي دوار»، 1963، و«أعناق الجياد النافرة»، 1969؛ كانا أبرز ممثّلي حلقة وسيطة توّلت الربط بين شعر الأرض المحتلة (محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران…)، والشعر الفلسطيني في المنافي. وأمثال القيسي وعيد لم يتوفّر لهم «رفاه» الإبتعاد عن الهمّ الفلسطيني، اليوميّ الملحّ، كما توفّر لشعراء فلسطينيين بعدهم، في العقود المعاصرة خاصة. وبالطبع، يُسجّل لهم أنهم حملوا، تماماً كما فعل شعراء الأرض المحتلة، العبئَيْن معاً: تطوير شعريات فلسطينية ذات خصوصية جمالية منفردة ضمن المشهد الشعري العربي، والإنتماء من جانب آخر إلى حركة الحداثة والمساهمة في صناعتها على حدّ سواء.
لكنّ القيسي ظلّ الأغزر نتاجاً، بلا ريب! ساعة رحيله كان قد أصدر زهاء 40 عملاً، في الشعر والسرد والنثر والسيرة والحوار وأشعار الأطفال، إلى جانب «الأعمال الشعرية» التي صدرت سنة 1999 في ثلاثة مجلدات. وإذا كانت تلك الغزارة دليلاً بيّناً على خزين شعري عميق الغور، فإنها في الآن ذاته بدت جزءاً لا يتجزأ من فلسفة الشاعر في مقاومة شرط المنفى، وشرط الوعي الشقي الذي حاق به أو طوّره هو بنفسه إلى درجات أشدّ وأرقى، إلى جانب فعل المقاومة الفريد كما تصنعه كتابة الشعر.
سمة مركزية ثانية طبعت نتاج الراحل، وميّزته عن جميع شعراء فلسطين ربما، كانت نبرة الشجن العميق التي هيمنت على قصائده فلم تفارقها حتى آخر سطر شعري خطّته يده. ولقد كان ذلك الشجن الدافق تجسيداً طبيعياً لمشاعر الفقد والحنين والمنفى والغربة، وانقلب ـ بمرور الزمن وتعاقب المجموعات وتراكم الخيارات والمهارات ـ إلى ما يشبه الخطاب الرومانسي الأعلى الذي يمثّل التجربة بأسرها، أو يصنع معادلها الموضوعي إذا جاز التعبير. وفي هذا كان القيسي تروبادورياً نموذجياً، في صفتَيْ التجوال والغناء، وكان ناي فلسطين الذي لا حدود للأسى والحزن والغربة في متتالياته النغمية، والمسجّل الأكثر التقاطاً لحسّ التراجيديا والرثاء في الموروث الفولكلوري الفلسطيني، والشاعر الأكثر ارتباطاً بشخصية الأمّ (حمدة، التي خلّدها في عمل كامل وأكثر من قصيدة) لا بوصفها الحامل الرمزي للوطن والهوية والأرض فحسب، بل بوصفها أيضاً منبع الغناء ومصدر الأسطورة وبيت الشعر.
سمة ثالثة هي أنّ القيسي جرّب الكثير من الأشكال، سواء في كتابة الشعر أم في مزجه مع أجناس أدبية أخرى، وكان دائب التشكيك في الشكل الواحد، رغم أنّ التفعيلة هيمنت على غالبية قصائده. ومنذ مجموعته «رياح عز الدين القسام»، 1974، جرّب إدخال مقطع شعري قصير على هيئة حاشية مرقّمة أسفل متن القصيدة؛ وكتب النصّ المتّصل، أو المدوّر، في قصيدة «لحن وداع لأيامنا»؛ والقصيدة المطوّلة، كما في «عز الدين القسام: جزء من حديث ذات ليلة باردة». ورغم أنه جرّب قصيدة النثر مراراً، بل قدّم فيها نماذج لافتة (كما في مجموعته «اشتعالات عبد الله وأيّامه»، 1981، وقصيدة «دمي نافرٌ وحده» بخاصّة)، فإنّ القيسي ظلّ شاعر تفعيلة في الجوهر، كيفما كتب الشعر، وأنّى ذهب في تجريب الأشكال.
أكثر من ذلك، أخال أنّ الراحل انتمى إلى جماعة شعرية ضيّقة للغاية، واصلت الإقامة في قلاع التفعيلة ليس من منطلق الإنحياز أو التعصّب أو اليقين المطلق بصلاحية هذا الشكل الشعري دون سواه من الأشكال، ودون شكل قصيدة النثر تحديداً، بل من منطلق الإيمان برحابة البنى الإيقاعية المعتمدة على التفعيلة، وأنها لم تُستنفد بعد، بل هيهات لها أن تصبح مستهلكة تماماً في أيّ يوم. وفي هذا يقول إنّ قصيدة النثر: «تتمتع بطاقة تعبيرية عالية، شريطة أن تتوافر لكاتبها عمق التجربتين الحياتية والشعرية، هذه القصيدة عمل صعب وأكثر تعقيداً وإشكالية من قصيدة التفعيلة ومن قصيدة البيت، ومن هنا تتطلب العدّة العميقة».
وفي تقديم الطبعة الأولى من أعماله الشعرية، كان القيسي قد تساءل عن سبب الكتابة: «هل لأقنع نفسي بالحياة، ثمّ لأزداد معنى، وهل أحسّ حقيقة بواسطة الكتابة والشعر أنني أقترب أكثر من الحلم ومن أغاني أمّي، ومن فلسطين، أم أنني فقط ألعب بخزائن الذاكرة»؟ الأرجح أنّ قصيدته كانت تقوم على هذه الأسباب كلّها، سواء بسواء.
خاص – صفحات سورية –