صفحات ثقافية

المحـذوف مـن الصفحـات الثقافيـة السوريـة هـو المحـذوف نفسـه مـن حيـاة السورييـن

null
راشد عيسى
إنهـا الحلقـة الأضعـف فـي الصحيفـة والكلمـة الأخيـرة للسياسييـن
ليس مفاجئاً أن ينتمي الإعلام السوري حتى اليوم إلى ذلك النوع الذي ميّز بلدان المنظومة الاشتراكية، وهو نوع ذو وجهة نظرٍ تقول إنّ شعوب الدول النامية لا تحتاج إلى الأنباء المحبطة، كخبر عن تعثّر هنا أو سقوط هناك، حتى وإن كان بمستوى خبر مجاعة أو طاعون؛ فذلك من شأنه فقط أن يعرقل حركة الجموع في طريق التقدم. هذا هو بالضبط مصدر الفكرة التي تواجه الإعلاميين السوريين الجادّين كل يوم، وهي الفكرة الأكثر ادّعاءً وتضليلاً وتعالياً في حياة السوريين: «لماذا لا تنظرون إلى نصف الكأس الملآن؟«. وبالطبع، ما دام هنالك دائماً ما هو أسوأ، فسنظلّ ننظر إلى أيّ شيء في الكأس على أنه امتلاء، رضى وقناعةً أو نظرةَ مَن لا حول له ولا قوة.
لا تحيد الصفحات الثقافية في الصحف السورية عن تلك النظرة، وإن كانت في مجال الثقافة أقلَّ حدّةً بسبب محدودية تأثير الثقافة في حياتنا (لا شك في أن إحصاءات القراءة تقدِّم صورةً واضحةً عن ذلك التأثير). فلا حاجة إلى معايير جدانوفية صارمة ترسم أبعاد الكتابة وآفاقها مادام أحد لا يهتمّ، بل يكفي أن تتحوّل الصفحة الثقافية إلى شيء غير ملحوظ كي تصل إلى مبتغاها. ولعلّ ذلك هو ما يعنيه قولُ محرِّر ثقافي جادّ ويائس (إذ لا بدّ أن يكون يائسًا إذا كان جادّاَ)؛ فحين سألته: »من يكتب اليوم في الصفحات الثقافية؟«، أجاب: »لا أحد«. أعدتُ السؤال محاولاً استبعاد أيّ أثر للمزاح، وفسّرت بأنني فعلاً أحاول استقصاء ملامح أولئك الكتّاب وكتاباتهم، فكرّر قوله: »لا أحد!«.
قد يقول البعض إنّ من الصعب مطالبة الصحافة الثقافية بالقفز عن واقع الثقافة، لأنّ الصحافة لا بدّ أن تأتي على شاكلة الحياة الثقافية. وقد يقول آخرون إنّ الصحافة الثقافية يمكن مبدئياً أن تؤدي دورَ الثقافة فعلاً حين تعيش في مناخ اجتماعي هابط: فتلعب دوراً استشرافياً، قيادياً، تنويرياً، وتأخذ بيد الناس، ولا تكتفي بأن تعكس الصورة التي هم عليها. وإذا شئنا الحقَّ، فإنّ الصحافة في سورية تقصّر حتى عن مجرّد تقديم الصورة الحقيقية لأحوال الثقافة هنا: فالبلد من الغنى والتنوع الثقافي بحيث لا تفيه صحافتُه حقه من البحث والكتابة وتسليط الضوء. ثم إنّ واقعاً هابطاً قد لا يساعد فعلاً في آليات العمل؛ أما القول إنه لا يقدِّم مادةً للبحث الثقافي، فهنالك بالتأكيد أمثلة كثيرة تدحضه. فلكي تعالٍج المادة الثقافية واقعاً رثّاً (ثقافياً أو اجتماعياً كحال الناس في المساكن العشوائية وفي أحزمة الفقر) فليس عليها أن تكون رثّة هي الأخرى؛ وإذا قدّم المرء متابعةً لعرض مسرحي رديء، فلا ينبغي أن تكون رديئةً هي الأخرى.
لا يستطيع المرء أن ينسى هذا المثال الناصع عن حال الصفحات الثقافية، والذي نجد فيه تعبيراً كافياً وشديد التكثيف. ففي واحد من أعداد صحيفة «الثورة«، وعلى صدر صفحتها الثقافية، قرأتُ مرة مقالاً في مديح مغنٍّ شعبي معروف، لكنّ ما قرأته كان أشبه بالصاعقة. فقد كتب المحرِّر الأديب، بعد أن تأمّل وتأنّى طويلاً في الاستماع إلى علي الديك، كما لو كان يتسلّق أشعارَ أبي تمام، ما يلي: «علي الديك، إنني أنتمي إلى فنّك كما أنتمي إلى موزارت وبيتهوفن وباخ«! لعلّ ذلك الكلام الاستثنائي لم يقَل في سيّد درويش نفسه، ولعلّ العقل الذي نشر تلك الترّهاتِ لا يُرجى منه أن يقدّم صفحةً ثقافيةً تستحق اسمَها.
إيحاءات
تغيب أحوال ومذاهب ثقافية وأسماء. ولا شك في أن للسياسة دورا واضحا في ذلك. وفي هذا الصدد يمكن أن نتذكّر الفترة العكرة في العلاقات السياسية السورية مع منظمة التحرير الفلسطينية، وكيف أنّ الشاعر محمود درويش، الذي بقي عضواً في اللجنة التنفيذية حتى وقت توقيع اتفاقات أوسلو، كان أول ضحايا الأزمة السياسية. ويمكن أن نعود اليوم إلى صحف ما قبل العام ١٩٩٣ لنجمع مقالاتٍ شتّى في تفسير »تأثّر قصائد درويش بالتوراة«، وأخرى تقود القصائد من أنفها إلى التطبيع مع الإسرائيليين، وأخرى تتحدث عن تزلّف الشاعر إلى لجنة نوبل. أما الآن فقد تغيّر الحال، وصار لدرويش في الصحافة السورية ما ليس لأدونيس، الشاعر السوري الذي لا يقلّ مقاماً. ولا نزعم هنا أنّ ذلك جاء نتيجةً لتوجيهٍ ما، ولكن يكفي أحيانًا أن يُخلق مناخ من العداء ليعمل الكتّاب على هديه. واليوم يمكننا ملاحظة الأزمة في العلاقات اللبنانية ـ السورية، وكيف تغيّرت العلاقة مع كلِّ ما هو منتَج لبناني، بما فيه المنتَج الثقافي والفني. فلقد فتحت بعض الصحف في ضوء الأزمة باباً جديداً واسعاً ينتقد ظهور السوريين، مثقفين وفنانين، في وسائل إعلام لبنانية صار من السهل وصفها بالمعادية. بل راح منفيو الصحافة السورية، الذين يكتبون في الصحف اللبنانية بحثاً عن مساحة أوفر لحرية القول، يتلقّون اتهاماتٍ شتّى تطعن في ولائهم لبلدهم؛ وقد شكّك وزير إعلامٍ سابق بذممهم المالية حين قال إنهم يتلقّون مبالغ طائلة مقابل كتابتهم ضدّ بلدهم في الصحف اللبنانية.
وإذا كنا أحيانًا أمام حالات قد يجري التوجيه فيها مباشرة، كأن يُحذف اسم فلان من التداول الصحفي، أو يُستدعى آخرُ إلى جهة غامضة تفرك له أذنيه، كما حدث مع الراحل ممدوح عدوان، أو شوقي بغدادي وسواهما كثير، فإننا لا نزعم أنّ الأمور تجري دائماً على هذا النحو. ذلك أنه ليس بمقدور السلطة أن تنظر في كلّ صغيرة ثقافية أو كبيرة، ومن البديهي أن يُترك الأمر لأصحاب الاختصاص الذين يظلّون في حال استنفار لئلا تزلَّ أقلامهم أو أقلام أحد المحررين. وزلّة القلم لا تعني بالضرورة زلّةً سياسية، إذ صار تداركُ هذه من النوافل؛ فالمحذوفات غالباً ما تجري على نقد قاس بحقّ شخصيات أو أعمال يعتقد الإعلاميون أنها من المحرَّمات، أو أنها في أقلّ الأحوال قد تزعج مقرّباً من مسؤول ما. وأحأأيانًا تكفي شائعةٌ ما كي يسير الإعلاميون على هديها. نذكر مثلاً أنّ عرض »منمنمات تاريخية« (نصّ سعد الله ونوس وإخراج نائلة الأطرش) في قلعة دمشق التاريخية منذ حوالى عشر سنوات أثار نقداً حاداً لم ينته إلا حين حضرت تلك المسرحية شخصية رسمية بارزة، وكتبت في زاويتها الدورية في صحيفة »تشرين« تقول إن العرض ثروة وطنية، فكفّ النقد، وصار متاحاً فقط أن يكتب محرروا الثقافة باتجاه واحد. وبالطبع لم يكن معروفاً عن تلك الشخصية البارزة اهتمامها بالنقد المسرحي، ولم يكن حضورها للعرض تمثيلاً رسمياً، بل لا نخال أنّ عروض المسرح هي أولويات وهموم رسمية أصلاً.
إنّ المحذوف في الصفحات الثقافية السورية هو ذاته المحذوف من حياة السوريين. ولكنّ ديب علي حسن، المشرف على الصفحة الثقافية في »الثورة«، ينفي وجود مشكلات رقابية بقوله: »نحن لا نعاني مشكلة رقابية، والدليل أننا أثرنا نقاشًا حول الاستراتيجية الثقافية التي تغيب عنها وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب، بل والمراكز الثقافية الأربعمئة والخمسة والعشرون التي لم تستطع أن تفعل شيئًا«. وبدلاً من الحديث عن مشكلات رقابية، يفضّل حسن إلقاء اللوم على التركيبة الثقافية، معتبراً أن الثقافة في ذاتها هي »آخر اهتمامات المجتمع«. كما يشير إلى معاناته من المواد الإعلانية التي تجيء دائماً على حساب الصفحة الثقافية. أما جمال عبّود، المشرف السابق على الصفحة الثقافية في »البعث«، جريدة الحزب الحاكم، فيرى أن صفحته «لم تكن تأخذ نصيباً من اهتمام الإدارة إلاّ عند وجود مناسبة وطنية، أو حينما يحتاجون إليها كصفحة إعلان، وهي دائماً أول ما يضحَّى به«. إنها، من غير شكّ، الحلقة الأضعف في سلسلة الصفحات والاهتمامات الأخرى، وإن حازت في «الثورة« المرتبةَ السادسة بالنسبة إلى بقية الصفحات (بعد المنوّعات و»قضايا اجتماعية« والصفحة الأخيرة و»شؤون سياسية« و»شؤون اقتصادية«) بحسب استطلاع أجرته ونشرته الجريدة نفسها.
وغريبٌ طبعاً أن يتابع ٤١ ٪ من العيّنة الصفحة الثقافية، بحسب الاستطلاع نفسه، إلاّ إذا كانوا ينتظرون الإعلانات التي فيها، خصوصاً بعد أن جرى في »الثورة« تشتيت شملها لمصلحة ابتكار صفحات أخرى أخفّ ثقلاً، كـ»عالم النساء« و»نصف الدنيا«، إلى صفحات الاقتصاد والسخرية والكتب وسواها. كذلك فإن نقاشات ثقافيةً دسمة، أو أسماء ثقافية بارزة، رُحّلت إلى الصفحة الأخيرة (زكريا تامر في »الثورة«، وكثر غيره في »تشرين«). كما فُتحت معارك محمد ملص وخالد خليفة ومدير مؤسّسة السينما محمد الأحمد (حول حقوق ملكية سيناريو فيلم »باب المقام«) في الصفحة الأخيرة لا في الصفحة الثقافية، وكأن المقصود بالضبط هو احتقار الصفحة الثقافية ونفيها، وأن يُحمَلَ الجدل الثقافي على جناح الإثارة لا الجدل المنتِج.
دوائر السياسة
من اللافت حقّاً أنّ ملامح انهيار الصفحات الثقافية يظهرها مشرفوها أنفسهم. يقول جمال عبّود: »بالمقارنة بين صحف الخمسينيات أو الثمانينيات وما نحن عليه الآن، يمكن الإشارة إلى ما يزيد عن الخمسين صحيفةً كانت تصدر في دمشق وحدها، وفي صفحاتها الثقافية كَتَبَ أدباء مثل محيي الدين صبحي، وعادل أبو شنب، وجورج طرابيشي، وجان ألكسان، ونصر الدين البحرة، وشوقي بغدادي، وسعيد حورانية. كلُّ هؤلاء كانت بداياتهم في الصحافة. وكان الأديب يجد الصحيفةً منبراً مناسباً له. وكانت صحف الستينيات والسبعينيات قدَّمت لنا أسماء بارزة كسعد الله ونّوس، الذي كان رئيس القسم الثقافي في صحيفة »البعث«. وكان صدقي إسماعيل هو مَن أسّس الصفحة الثقافية في »البعث«، التي كان من محرّريها حسيب كيالي، ونزيه أبو عفش، وبندر عبد الحميد، وأكرم شريم. أما الآن فقد وصلنا إلى المحرِّر المختص الذي لم يعد أديباً بالضرورة، وصرنا نعاني مشكلة ضعف إعداده. وحتى الآن لا تقتنع الإدارةُ معنا بأنّ الصحافي في الصفحة الثقافية غيرُه في صفحات أخرى«.
أما ديب علي حسن، فلا يشكّ بقدرات محرّريه في »الثورة« وإنما يعتبر أنهم «أتوا وهم يحلمون بالشهرة السريعة. ولعلّ ضغط الحياة والمشهد الثقافي غير الأصيل هو ما يدفع إلى هذه الوجبة المسلوقة. إنّ ما يُكتب في الصفحات الثقافية هو صورة لواقعٍ مترهّلٍ، لكننا مسؤولون عنه«.
وإذا كان عبّود تحدّث عن زمن أدباء الصحافة، فقد عزّز من جديد تساؤلاً حول القيمة الأدبية والثقافية لمديري الصفحات. وإذا كان جارُنا الأقرب، لبنان، يُضرب مثلاً في صفحاته الثقافية التي يديرها مثقفون كبار، شعراء وروائيون كإلياس خوري وحسن داوود وعبّاس بيضون، فإننا هنا لا نكاد نعثر على سيرة أدبية أو ثقافية واضحة لدى مديري الصفحات السورية. نسأل ديب علي حسن، الذي لم يكن قد سمع به كثيرون يوم تسلّمه صفحة »الثورة« فيقول: «أنا جئت من دائرة الدراسات السياسية، ولكنني أكتب في الشأن الثقافي منذ العام ،١٩٨٥ ولديّ خمسة عشر كتاباً حول ظواهر ثقافية. ولكنّ علي القاسم نفسه، أمين التحرير للشؤون الثقافية في صحيفة »الثورة«، جاء من دائرة السياسة. وكذلك ديانا جبّور، المديرة السابقة للصفحة، لم تأت من خلفية ثقافية«. ومفهوم طبعاً لماذا يأتي مديرو الثقافة من السياسة: أفليست الثقافة هنا مجرّد صدى؟!
خالد مجر، أحد مديريْن اثنين للصفحة الثقافية في »النور«، صحيفة الحزب الشيوعي ـ جناح يوسف فيصل، رفض فكرة تدخّل الأدباء في الصفحات الثقافية:
»منذ نشوء الصحافة العربية دخل الكتّابُ الكبار إلى الصفحات الثقافية، فأثّروا فيها سلباً. فقد أُعطيت هذه الصفحات منحى هؤلاء، وحُرم الصحفي أن يكون صحفياً. صار الصحفي يحلم بأن يكون أديباً وروائياً وشاعراً وفناناً تشكيلياً. إنّ دخول طه حسين أو العقّاد إلى هذه الصحافة شكّل أساساً ما زلنا نحاكم في ضوئه. فهل تحتاج الصحافة إلى أدباء لقيادتها؟«.
مجر، الذي ما زال إلى الآن محرِّراً في صحيفة »الثورة« الرسمية، كان من أوائل الذين كتبوا في الصحف الخاصة التي ظهرت كبادرة تطوير وتحديث وإصلاح. ولكنّ ذلك يعبّر عن واحدة من أزمات الصحافة السورية: فإذا كانت الصحافة الخاصة استجابة لمطالب تبحث عن إعلام يختلف عن الإعلام الرسمي، فإنّ النتيجة كانت إعلاماً يعمل في ظلّ الإعلام الرسمي ويشكّل في أحسن الأحوال نُسخاً منه! ذلك أنّ الإعلام الخاصّ جاء بكوادره من الصحف الرسمية السورية الثلاث، فراحوا يتنقّلون من صحيفة إلى أخرى، يحملون معهم ما تعلّموه هناك، وما حفظوه من محاذير رقابية. ولا ينفي مجرد ذلك حين يقول: »لم يتَح للصحافة الخاصة أن تقدِّم ما هو مغاير عن الإعلام الرسمي. ولهذا علاقة بالإرث الصحفي الذي انقطع في سوريا. والمسألة بحاجة إلى وقت«. كما يؤكد أن تلك الصحيفة (النور)، وإن كانت صحيفة غير رسمية، وصحيفة حزب، فإنها »لم تستطع أن تصل إلى إطلاق حوارات غائبة عن الحياة الثقافية. فالبيئة لا تسمح بإطلاق حوار من مستوى معين«. وعن الرقابة يقول: »هناك رقابة خارجية، ولكنها غير موجودة بشكل مباشر. غير أن هناك الرقابة المسبقة، من الكاتب نفسه«.
معارك رديفة
من يستطيع الركون إلى ناقدٍ أدبي أو سينمائي أو مسرحي في هذه الصفحات ليأخذه إلى كتابه أو فيلمه أو مسرحيته المفضّلة؟ إنّ المحررين الثقافيين هم اليوم بين يائسٍ لا يكتب، ومحرِّر اختار الكتابة خارج كل هذه الصحف ـ أي في الصحف التي تُظهر عملَه بما يليق، لا كما تجري الأمورُ في الصحيفة المحلية حيث الإهمال، وأخطاء المطبعة، وبؤس العناوين المختارة، وبؤس المكافأة المالية المضحكة والممنوحة (رغم ذلك) بتعالٍ!
إن نظرة إلى أسماء المحرّرين في الصفحات الثقافية تأخذ المرء إلى حالٍ من الحزن والرثاء على ما حلّ بصفحاتنا الثقافية، وما حلّ بإعلامنا. وذلك ما لا يفاجئ أحداً بالطبع، مادام رؤساء ومدراء التحرير اختُبروا جيداً في ميزان الولاء للسلطة (وهنا لا بد من التساؤل: إذا كان الإعلام تابعاً للحكومة ويتلقى أوامره منها مباشرة، كيف سيتمكن من انتقاد أدائها؟كيف يمكن للإعلام أن يكون هنا سلطة رابعة مستقلة؟)، وهم ما زالوا كلَّ يوم يَخضعون للاختبار ذاته، لنجدهم في كل صباح يقدِّمون البراهين مكتوبة بمقالات على صفحات الجريدة، وبقرارات في أروقة الدوائر والأقسام تنسجم بالطبع مع مقدار الرضى. إنه اختبار الولاء للسلطة التي عيّنت، لا اختبار الولاء للمهنة. ولذلك أيضاً، وحتى يرتاح أولو الأمر من عناء الاختبار اليومي، وعناء النوم بين القبور، كان من الطبيعي أن ينصَّب رؤساء الأقسام الثقافية بما يضمن تسيير الأمور كما يرام. وبين هذين الولاءين، الولاء للسلطة والولاء للمهنة، هل يتذكّر أحد أن مديراً ما غادر ولاءاته الأخرى من أجل ولائه المهني؟ ولذلك سنظل نرى الامتهان اليومي الذي تواجهه الصفحات الثقافية، الرسمية والخاصة. ونجمل »الخاصة« هنا لأنّ كتّابها جاؤوا في معظمهم من الصحــافة الرسمية (وهذا جيد بالطبع بالمقارنة مع من جاؤوا من مهنٍ لا تمتّ إلى الصحافة والثقافة بصلة). ثم إنّ الصحف الخاصة هي صحف رديفة بكلّ ما تعنيه الكلمة: فهي لم تُمنح التراخيصَ إلاّ باختبار ولاء مضاعف، أو هي سلفًا في »جيب« المسؤولين؛ أما تلك التي حاولت التغريد خارج السرب فكان مصيرها الموت المبكّر جداً، ومثالُها الواضح إغلاق صحيفتي »الدومري« و»المبكي«.
لن نتوقع إذًا معركة تفتحها الصحف دفاعاً عن كتاب ممنوع أو فكرة في فيلم أو مسرحية. ولنلاحظ مثلاً أنّ معركة الدفاع عن سعد الله ونّوس فُتحت (حين كتب عنه حسين جمعة رئيس اتحاد الكتاب العرب ما كتب) في الصحف العربية واللبنانية أولاً، ولذلك كان من السهل أن تُعتبر حملةً مغرضة تشهرها صحف معادية. وبالعكس، غالباً ما تَفتح تلك الصحف حروباً رديفةً لحروب الرقابة في مواجهة الثقافة والإبداع. وما أسهلَ مهاجمةَ محمد ملص وأسامة محمد وعمر أميرالاي، وما أصعبَ أن يُنتقد نبيل اللّو (مديرُ دار الأسد للثقافة والفنون) أو محمد الأحمد (مديرُ المؤسسة العامة للسينما) أو سهير سرميني (مديرةُ القناة الأولى في التلفزيون السوري). وعطفاً على موضوع »الكأس الملآن« وتناغماً مــع الرقــابة في التلفزيون التي شَنّت حرباً ضروساً ضدّ مسلــسل تلفزيوني هو »غزلان في غابة الذئاب«، الذي أعملت فيه الرقابةُ تشــطيباً عند عرضه في رمضان الماضي، كانت لـ »تشرين« معركتُها على المسلسل الذي راحت تقرّعه بســبب تلك الصـورة السوداوية التي قدّمها عن حال البلد والناس.
(دمشق)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى