الحلقة السابعة
نيغاتيف – من ذاكرة المعتقلات السياسيات
روزا ياسين حسن
الدخول إلى مملكة الجنون
أمهات في المعتقل
بلد يسجن فيه الأطفال بسبب جرائم آبائهم.. إننا ندخل مملكة الجنون.
مليكة أوفقير (السجينة)
خمس وأربعون معتقلة من الشيوعيات والعرفاتيات في المهجع رقم (6) في فرع الأمن1. المكان الضيّق حدّ الاختناق جعل المعتقلات ينقسمن إلى مجموعتين: مجموعة تنام (تسييف)(65)، والمجموعة الأخرى تسهر عند الباب، تنتظر بفارغ الصبر استيقاظ الأخريات كي تستطيع النوم.
كانت غرناطة.ج ومنى.أ(66) تسهران قريباً من فوهة الشباك العالية المحددة بالشبك المعدني، المطلّة على أرضية ساحة السجن الخارجية، تنكمشان على نفسيهما، كل منهما تحتضن ركبتيها وتراقب قطعة السماء الصغيرة الكحلية المقسّمة إلى مربعات حديدية. كانت ليلة جليّة للغاية، ونقية بشكل مثير للشجن.. فجأة غطّى الفوهة القاتمة وجه نوراني، ملاك ظهر أمام ناظريهما بشكل خاطف وكأنه بعث إليهما من السماء حقاً! مرّت هنيهات قبل أن تكتشف غرناطة ومنى أن البدر أشرق فجأة كان وجه طفل، طفل حقيقي في هذا المكان القاحل كالصحراء والمعتم كقبر. كان عمره قريباً من عمر مجد: ابن منى. ربما تجلّى مجد أمام الأم للحظات، كحلم أو كطيف بعيد لم يغب لثانية واحدة عن خيالها الذي لم يستطيعوا اعتقاله أبداً. كأن القدر بعثه إليها كي ينشلها من هذا العذاب. صارت منى تحاول التقرب منه، وقد بدا أن قطعة من قلبها تعلّقت بوجه الطفل المطل من الشباك العالي. ثم راحت المعتقلات الأخريات تتزاحمن تحت الفوهة العالية، مشرئبات بأعناقهن تجاه الطفل، محاولات، كل بدورها، أن تتحادث معه أيضاً. ربما تخيّلت كل أم منهن طفلها ماثلاً في وجهه. لم يجب الطفل، عيناه مفتوحتين على سعتهما، الدهشة تقطر منهما وهو يحاول تبيّن كتلة الأجساد والوجوه تشرئب إليه، واللمبة الصفراء تحيلها إلى تهويمات ضبابية شاحبة كالموت.
أخيراً، بعد طول محاولات، استطاعت منى أن تجعله يجيبها، ولكن بجملة واحدة:
ـ ما لازم إحكي معكون أنتو مجرمات.
صاح الصغير وهرب. غاب فجأة كما أشرق.
ثمة شيء ما تحطّم في داخلهن، بدا ذلك على وجوه السجينات، وعلى ملامح منى وعينيها اللتين امتلأتا بالدمع. عادت المعتقلات للجلوس من جديد والانتظار، كما عادت منى وغرناطة إلى الزنزانة. لكن شيئاً داخلياً لم يعد كما كان، لم يعد البتة كما كان. لم تمر لحظات حتى رجع وجه الصغير من جديد لينير الزنزانة من الشباك. لم تكد منى تعي رجوعه حتى طفق يرمي لهن بزهور صغيرة برية، برية وصفراء، من تلك الأزهار تنمو في كل مكان حتى في باحة معتقل كفرع الأمن1. كان يدخل كل زهرة على حدة من فراغات الشبك الحديدي الصغيرة والقاسية لتتهادى الزهرة بغواية إلى عمق الزنزانة كنور يسقط من الأعلى، والفتيات يتسابقن للإمساك به.
زهرة فزهرة فزهرة..
كان يبدو أن ما لقّنه له والده الضابط لم يكن كافياً لجعل الطفل يبتعد عنهن كمجرمات.. كن يشبهن أمه أيضاً! مرّت دقائق فحسب استطاعت منى خلالها أن تعاود الحديث مع الطفل، لتخلق الكلمات حياةً جديدة في فراغ روحها، ولتجعل صورة مجد ابنها تظلل أوقاتها، قبل أن تسحب يد ثقيلة وجه الطفل من الشباك، ويعود الظلام من جديد إلى المهجع رقم 6، وتعود الأمهات إلى البكاء الذي ما انقطعن عنه.
في فرع الأمن كان هناك الكثير من الأمهات المعتقلات، حوالي السبع أمهات من أصل اثنتي عشرة معتقلة، ظللن أكثر من ثلاث سنوات في المعتقل بعيدات عن أطفالهن: دلال.م(67)، لينا.و، رجاء.م(68)، بثينة.ت، منى.أ، هتاف.ق(69)، آسيا.ص(70)، منيرة.ص، وسهام.م(71). بعضهن مثل رجاء وبثينة لم يكن منظّمات في أي حزب، مع ذلك قضين سنوات طويلة في السجون. لدى سهام.م، الملقبّة بأم حديد، ولدين في الخارج، وزوجها معتقل كذلك. وسهام لقّبت بأم حديد لأن زوجها، وكان صديقاً للحزب، بدأ يوماً ببناء بيت جديد له، وكان الحزب يحتاج إلى بعض المال، فما كان منه إلا أن باع الحديد ليتبرع بثمنه للحزب. ثم كتب رسالة إلى المعنيين بالأمر قال فيها: زوجتي ليست أقل مني حماسة لتقديم مساعدة للحزب. نتيجة لذلك دفعت سهام (أم حديد) ثمن حماستها الشفهية ثلاث سنوات ونيّف من عمرها وعمر أطفالها في المعتقل.
صباحاً حين كانت أصوات الأبواب الحديدية توقظهن تلقي المعتقلات تحية الصباح على بعضهن: صباح سندويشات اللبنة..
صباح كوي الصداري.. لكن الصباحات كانت تمضي دون أن يستطعن تعويض الغياب: غياب الأطفال عنهن، وغيابهن عن حياة أطفال تركوا في الخارج بلا أمهات، وفي الغالب بلا آباء أيضاً. الغياب كان العذاب الأول والأخير بالنسبة إلى معتقلات فرع الأمن1، خاصة أن الزيارات كانت قليلة بل نادرة في بعض الأحيان.
بالنسبة إلى بثينة.ت كان الأمر محطِّماً. ذلك أن ابنتها راما أبعدت عن صدرها وهي ترضع بعد، أخذوها ولم تكن قد بلغت شهرها العاشر. حينذاك كانت بثينة تصرخ في زنزانة فرع الأمن1 طيلة أيام وتطالب براما، لكنهم لم يجلبوها بالطبع. بقي صدر بثينة، الممتلئ بالحليب، يضغط عليها بآلام شديدة وابنتها بعيدة، حتى سقطت مريضة محمومة طيلة أيام. بعد سنة ونصف من الاعتقال، وقت سُمحت بأول زيارة في فرع الأمن1 لأهل سونا.س، وصلت مع الزيارة مجموعة من الصور إلى جميع المعتقلات. صرت آخذ الصور من الحقيبة لأوزعها على رفيقاتي. أستلم الصورة، أنظر إلى الخلف لأقرأ الاسم، ثم أنادي باسم صاحبتها لتقفز الأخيرة إلى كنزها، وتتلقفه بولع. وقت وقعت تلك الصورة بين يدي لم أعرف لمن: صورة طفلة صغيرة وجميلة، ولا يوجد اسم خلف الصورة. حينئذ صحت وأنا أرفعها:
ـ لمين هالصورة؟. صورة طفلة صغيرة.. لمين؟!
ـ إنها صورة ابنتك بثينة.. صورة راما.. ألم تعرفيها؟!!
صاحت إحدى الرفيقات اللواتي كن يعرفن ابنتي جيداً.
صعقت، ثم شعرت قلبي يتفتت ببطء وأنا أتأمل الصورة من بين دموعي. كان مؤلماً للغاية اكتشافي: الصورة لابنتي راما حقاً، العينان الناعمتان والضحكة الساحرة. وأنا لم أتعرف عليها؟!! كنت أسال نفسي هل هناك أم لا تعرف ابنتها؟! لم أستطع رؤية راما إلا بعد سنتين ونصف من اعتقالي حين سمحوا بأول زيارة لي. جاء أبي وأمي وأختي ومعهم صغيرة يحملونها. بحلقت بالصغيرة ولم أعرفها من جديد، كانت راما الطفلة التي كبرت!. أما ابنتي الكبرى: لانا فلم يحضروها إلى المعتقل البتة، كنت مصّرة ألا تتشوه ذاكرتها الغضة بمشهد اعتقالي في ذاك المكان المقيت، ولم أرها حتى خرجت في سنة 1990، وكانت لانا قد تجاوزت الثامنة من عمرها.
من الفرع كتبت بثينة رسالة إلى ابنتها(72):
(للوشة الحلوة: يا نور عيون ماما وبابا.. صورتك وإنت رايحة عالمدرسة بتجنن، وصورتك وإنت عم ترقصي بعرس خالتك بتاخد العقل.. هالمرة يا حلوة بدي صورة وإنت عم تكتبي الوظيفة.
كيفك يا ماما.. زعلانة منك كتير لأنك لسه نحيفة والظاهر إنك ما عم تشربي حليب وما عم تاكلي منيح. تأخرت عليك يا ماما بس ما بإيدي.. يلا ياحلوة اصبري رح إرجع لك إنت وراما أكيد أكيد(73).. انتظريني يا قمري رح ابعتلك مانطو كتير حلو إلك ولراما إن شاء الله يعجبك.. وتصوروا فيهم وابعثوا لي الصور.. وابعثي لي صوف لإعمل لك طقم حلو.. إنتي أشري لي عليه عالجورنال وأنا بعمل لك إياه.. شفت بالصور سنوناتك الجداد.. دخيل عيونك وسنانك وقلبك يا لانا. صرت صبية وأكيد قربت تصيري بطولي.. بكره يا ماما برجع وبفهمك كل شي. أهم شي يا حلوة ما تنسي أبداً أنو أنا وبابا غبنا عنك من شانك ومن شان راما وكل الأطفال الحلوين والشاطرين وأنو نحن بدنا نرجع بس ما عم يخلونّا.. إذا إجت تيتي لعندي (كلمات ممحوة) مشتاقتلك كتير ومشتاقه لراما.. كيفك إنت وياها يا صبية أكيد عم تعتني بأختك لأن إنت الكبيرة.
اكتبي لي رسالة يا ماما بخطك الحلو.. على فكرة، خطك حلو كتير وأكيد إنت شاطرة بالمدرسة.. بدي ياكي تطلعي الأولى هاه.. وبدي تبعتي لي الجلاء بس تاخديه.
لانا: لا تفكري أبداً يا ماما أن فينا نكون جنبك وما عم نرجع. كل شي عم يصير غصب عنّا وعنّك.. وبس إرجع بحكي لك كل شي بالتفصيل.
لانا: أنا لسّا عم غنيلك (عم تكبر الفرحة) وإنت لسه رفيقتي وأنا رفيقتك.. وهلق بغيابي لازم تيتي ونانا وجدو وجوجو.. يكونوا رفقاتك وتحكي لهم كل شي عم تفكري فيه.. مئة بوسة على خدودك وعيونك وعيون راما يا أحلى الحلوين).
ماما وبابا
بعد سنتين من الاعتقال جاءت زيارة لدلال.م (أم علي) ورجاء.م على الشبك: أي يفصل بين المعتقلة والزوار حاجزين من الشبك الحديدي، وبين الحاجزين مسافة يتمشى السجان فيها طيلة فترة الزيارة. عادة ما يغضّ السجان النظر ليدخل الأولاد ويروا أمهاتهم داخل الشبك. دقائق قليلة تتنشق فيها المعتقلة رائحة طفلها وقوداً لشهور قادمة، وربما استطاع طفلها أن يتمتع، لدقائق أيضاً، بضمّة أمه وحنانها على الرغم من حالة الرعب التي تزرعها فيه رهبة المعتقل وحواجز الشبك وصراخ السجانة.
هذا ما منّت دلال نفسها به وهي تخرج للزيارة محاولة ترتيب ثيابها على الدرجات القليلة الفاصلة بين القبو والطابق العلوي حيث ينتظرها أولادها.
حين خرجت إلى الشبك متلهفة لاهثة لم أرَ أحداً ينتظرني! كان أهل رجاء.م ينتظرون مقدمها من وراء الشبك. سألتهم:
ـ أين أولادي؟؟
أجابوني أنهم منعوا سلفي وسلفتي، وهما يعتنيان بصغيريّ بعد اعتقالي وأبيهم، من الدخول إلى الفرع، باعتبار أنهما لا يعدّان، حسب عرف السجن، من الأقارب! والزيارة ممنوعة إلا للأخوة والأولاد والأبوين.
فجأة وقبل أن أقفل عائدة إلى القبو نظرت خلفي لأرى طفليّ، مي التي لم تبلغ الرابعة وعلي الذي لم يبلغ السادسة، يدخلان وحيدين لزيارتي! كانت صدمة كبيرة لي أن يُترك صغيراي ليدخلا وحدهما إلى هذا الجحيم. الهلع يملأ وجهيهما الصغيرين، وهما يلتفتان يمنة ويسرة ويبحثان عني، فيما لا يواجههما إلا الشبك والسجانة وبكاء أهل رجاء.
ماذا أفعل؟ بالله ماذا أفعل؟
هل أتركهما وأهرب من هذا المشهد القاسي كي لا يروني؟ ماذا سأقول لهما؟
لم أستفق من الصدمة حتى كانت سلفتي قد دخلت عنوة وراء الولدين، في اللحظة ذاتها هدر صوت مدير السجن صارخاً ألا تدخل، وانتهت الزيارة بخروج الجميع.
إلى المهجع المظلم والخانق عدت.
كانت الدموع تشوّش الرؤية أمامي. رحت أشتم وأسبّ بصوت عالٍ لأني كنت سأموت اختناقاً إن لم أفعل. أشتم الجلادين القتلة السفلة والسجان يسوقني إلى المهجع، يحاول جاهداً أن يهدئني لئلا يسمع مدير السجن صراخي..
كان المفترض بالزيارات أن تكون أشبه بطاقة نورانية تفتح أمام السجينة سهلاً أخضر وعطراً وسط عفن أيامها، لكنها تحولت في هذا المكان إلى رحلة عذاب؟! رحلة عذاب حقيقية خاضتها مريم.ز(74) كذلك. كانت مريم قد اعتقلت في فرع الأمن1 ولم تكن ابنتها فداء قد بلغت الخمس سنوات من عمرها بعد. وفداء عاشت طيلة فترة اعتقال أمها في بيت جدتها لأمها(75)، ولم تستطع رؤية مريم إلا بعد ثلاثة أشهر من بدء الاعتقال حين سمح لها بالزيارة للمرة الأولى. في ذلك اليوم أتت أم مريم وأختها وأخوها مصطحبين فداء معهم. كانوا قد أفهموا الصغيرة أن الفرع مكان عمل أمها الجديد ليس إلا، وعليها أن ترى أمها لدقائق كي تعود الأم إلى عملها من جديد. الجميع كان مقتنعاً أن فداء صدقت ما قالوه! لكن إلى اليوم، وقد أضحت فداء أماً في الخامسة والعشرين من عمرها، وصورة تلك الزيارة محفورة في ذاكرتها، لا يخدش دقتها شيء على الرغم من مرور الأعوام:
عنصر الأمن على الباب.
الرائد يجلس إلى كرسي في وسطهم، يسكتهم عندما لا يعجبه الحديث، ويهز رأسه راضياً عندما يعجبه. ووجه أمها المتعب والشاحب وهي تضمه. الزيارة كانت في غرفة تغصّ بعناصر الأمن، يتربصون بكل نأمة تخرج من أفواه الزائرين وكل حركة تنمّ عن أحدهم. استمرت الزيارة نصف ساعة تقريباً، ظلّت فداء فيها منكمشة في حضن أمها دون أن تنبس بكلمة، تتحسّسها فحسب، تشتمّها، وتراقب ملامح وجهها وهي تكلّم الزائرين، وتطبع كل حين قبلة على وجه صغيرتها. حين أُمروا بالمغادرة نزلت الابنة عن حضن أمها مستسلمة، كانت تبكي بصمت وهي تمسك بيدها فيما دسّت الجدة مبلغاً من المال في يد ابنتها مريم قبل الوداع. فداء، التي كانت تلتقط كل ما يحدث كرادار، أخرجت مصروفها اليومي من جيب الجاكيت، ليرة واحدة كانت الجدة تهبها إياها كل صباح، ودفعتها بسرعة وتلهّف إلى أمها كما فعلت الجدة تماماً:
ـ ماما.. خذي هذه أيضاً حتى تشتري فيها.
…
لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً في سجن النساء. كان هناك أيضاً العديد من الأمهات. لكن الأمر المختلف تمثّل في وجود بعض الأطفال والطفلات المعتقلات مع أمهاتهن في المعتقل!.
كان هناك الكثير من الأمهات الشيوعيات: أميرة.ح، فاديا.ش، سحر.ب، رنا.م، أم أكرم (زهرة.ك) وتالياً ضحى.ع. لكن الأمر كان أقسى بالنسبة إلى المعتقلات الإسلاميات! هناك صغيرة اسمها سمية ابنة سلوى.ح، إحدى المعتقلات الإسلاميات، صار عمرها سبع سنوات وهي في السجن مع أمها، وظلّت معتقلة حتى وقت الإفراج عن الإسلاميات من سجن النساء، وذلك في شهر كانون الأول 1989. ربما كانت تلك الجملة التي خطّتها سمية الصغيرة بيدها على جدران الزنزانة في فرع الأمن2 العسكري، حيث نقلوا الإسلاميات قبل وقت قليل من إطلاق سراحهن، ما تزال شاهدة:
أنا سمية من مواليد سجن… سكنت في سجون… و…
لم يكن ثمة أحد في الخارج تستطيع الأم (سلوى.ح) أن توكل إليه تربية الصغيرة، لذلك كان لابد من إبقائها معها في المعتقل.
جاءت نساء تلك العائلة إلى سجن النساء في1985، بعد أن قضين حوالي السنتين في السجن الصحراوي، أم حسان وحفيدتها وابنتاها: سلوى.ح(76) ويسرى.ح(77). النساء الأربع كنّ رهائن لزوجي الابنتين: محمد.ش زوج سلوى، وهو من الإسلاميين الذين هربوا إلى الأردن فيما بعد، وزوج يسرى الذي أعدم إثر محاكمات الإسلاميين.
عن الصغيرة سمية كتبت هبة.د في كتابها، عنونت الفصل بـ: ولادة أصغر المعتقلات:
(سيقت سلوى وأمها وأختها ومعهم ليلى إلى (…) وهناك في ذاك المكان المرعب، الذي كن يرين فيه مواكب المعتقلين تساق صباح كل يوم إلى الإعدام، حان موعد ولادة سلوى دون أن تكون لديهن أية وسيلة لذلك أو حتى أية ملابس للمولد القادم. لكن الله رحمهن بوجود قابلة معتقلة معهن اسمها رغداء س. متى جاء سلوى الطلق كتمن الخبر وصياحها معه خشية أن يكون ذلك سبب لعذاب جديد لها أو حتى لهن!! حتى إذا ولدت سمع أحد الحراس على السطح بكاء المولودة فسأل فأخبرنه، فجاء هذا الشاب الذي لم تمت فيه بقايا الإنسانية بعد، وأدلى لهن علبة صفيح فارغة وعود كبريت فأشعلن من ثيابهن فيها ما يكفي لتسخين ماء حمّموا به المولودة، وروت الأم بنفسها إنهن قصصن لها الحبل السري بقطعة تنك اقتطعنها من علبة الصفيح تلك!
غير أن المأساة لم تنته بعد، والخطر لم يبتعد عن هذه المولودة البريئة التي أسمتها الأم سمية.
وقد قامت إحدى المعتقلات بالإبلاغ عن العنصر فحضر مدير السجن المقدم فيصل غانم وجعل يسمعهن سيلاً من الشتائم والإهانات والتهديدات كعادته ثم أخرج عائدة ك ونزع عنها حجابها وجعل يدوسه بقدميه والشتائم لا تزال تتدفق من فمه المنتن.. فلما انتهى وهدأت نفسه أمر بمعاقبة المهجع كله ونقله إلى “السيلون” وهو عبارة عن قبو كبير رطب ومعتم لا منفس فيه مسكون بالعناكب والصراصير والحشرات وقتها كان عمر سمية عشرين يوماً فقط، وكان عليها أن تنتقل إلى السيلون مع بقية السجينات، فأصيبت المسكينة من حينها بربو مزمن لم تشف منه إلى الآن).
بالنسبة إلى أميرة.ح لم يكن الأمر مغايراً أيضاً. لكنها فكرت لهنيهات، وهي تلمح ابنتها سنا للمرة الأولى بعد ثلاث سنوات على غيابها: هل من الممكن أن تكون هذه ابنتي؟
لم تكن تلك الطفلة الواقفة في غرفة الزيارة، اللاهثة من اللهفة، تشبه صورتها أبداً: صورة صغيرة معلّقة فوق فرشة نوم أميرة على حائط المهجع العاري في سجن النساء. كنز استطاعت أختها سمر أن تهرّبه إلى الداخل بعد سنة من بدء الاعتقال، وذلك في زيارة لأهل حسيبة.ع وكانت معتقلة معها في سجن النساء.
لم تكن تشبه الصورة أبداً، فكرتُ من جديد.
صورة لفتاة لطيفة جعلتني أتذكر سنا ابنتي بشكلها الجميل والقديم. تلك الصورة عملت على هدم كل المسافات بيننا، على خلق شيء شبيه بالخرافات بين روحي وروحها، كنت أحسّها بين يدي وأنا نائمة وفي صحوي، تصاحبني في كل دقيقة من دقائق عيشي..
ما الذي حدث لها في غيابي؟.
كانت سنا قد بلغت السابعة بعد سنة من تخفيّ وسنتين من اعتقالي. طيلة فترة الزيارة، التي استمرت حوالي الساعة، وهي تجلس في حضن حرمت منه طيلة تلك الفترة. كنت أحتضنها بكلتا يدي وهي تتشبث بي بقوة، تدور بعينيها ذات اليمين والشمال. وجه يحمل خوف العالم كله، قلقه، شحوبه، وينوء بعشرات الأسئلة التي لا إجابات لها، أسئلة فوق طاقة طفل بعمرها، وأنا أغالب دموعاً كانت مصّرة بعناد على الهطول أمام صغيرتي وأهلي.
نهاية الزيارة عدت من جديد إلى المهجع. كنت أشعر بالاختناق، يد شبحية ثقيلة تطبق على رقبتي حتى تكاد تقطع تنفسي. لم أقدر على مداراة فجيعتي بطفلة ظلمت بلا رغبة أو قصد. فجيعة حقيقية.. لحظة دخولي المهجع لمحت رفيقتي تماضر وجهي المحتقن. كنت أحسّ بالنار تخرج من عينيّ، وجسدي أشحطه شحطاً كأني أنوء بأثقال فظيعة. رمت جملتها كقنبلة في وجهي.. جملة جعلتني أنفجر لساعات ببكاء طالما كبتّه:
ـ خرجك الله لا يردك.. التي تأتي بطفل إلى الحياة تبقى معه لتربيه لا لترميه هكذا..
على الرغم من قساوة الجملة إلا أنها كانت محقة! كان غيابي عن سنا شبحاً يطاردني منذ ذلك الوقت وحتى اللحظة، على الرغم من أني كنت، ولا زلت، مقتنعة ألا يد لي في كل ما حصل!
ربما كان صنع الهدايا للأحبة في الخارج، من المواد القليلة المتوافرة في المعتقل، طريقة تصعيدية للتعويض عن غيابهم، أو ربما طريقة لبث كل حبّ المعتقلة في قطع ستلمسها أيدي أحبابها، وبهذا سيشعرون بكل ما يرسله قلبها إليهم. هذا ما حدا بأميرة، كغيرها الكثير من المعتقلات، إلى صنع الهدايا لابنتها في الخارج. الوقت يمرّ كطيف خفيف مسرع في المعتقل، ساعات تنقضي وأميرة منكبة على حياكة فستان لسنا، أو تطريز شيء آخر لها. كل غرزة صوف مثقلة بالحب، بالشوق، وبألم الفقد. وبما أن المشاعر السلبية والإيجابية تتضخم جداً في المعتقل، فقد كانت أميرة تعمل 12 ساعة أحياناً دون أن تعي وهي تفكر بسنا، وبسنا فقط، وكيف ستستقبل صغيرتها هديتها هذه.
أول هدية بعثتها أميرة.ح لابنتها كانت جزداناً من الخرز، نقشت عليه اسم: سنا، إضافة إلى بطة صغيرة صنعتها جميلة.ب(78)، وفستان بسنارة واحدة حاكته هند.ق. أما وفاء.إ(79) فقد بعثت معها عصفوراً صغيراً مصنوعاً من الخرز الملون. كل تلك الهدايا أرسلت إلى سنا من سجن النساء مع سجينة قضائية جرى إطلاق سراحها في ذلك الوقت. حُمّلت بكل ما يمكن أن يخبئه قلب الأم ورفيقاتها لصغيرة وحيدة خارجاً.
لكن تلك الهدايا الثمينة لم تصل حتى اليوم!
في سجن النساء كتبت هند.ق قصة تدور في الفلك ذاته. أسمتها: وراء القضبان. كانت حادثة حقيقية جرت معها، عملت على تدوينها في دفتر صغير اشترته من الندوة في السجن. على ذلك الدفتر ستكتب هند، خلال سنوات سجنها الطويلة، الكثير من القصص:
(آه من الأطفال
آه من براءتهم، من صفائهم وشفافيتهم.
آه من وجوههم النضرة ونظرتهم الصادقة.. وقلبهم الأبيض..
آه.. وآه.. وألف آه.
اليوم جاءت أختي لزيارتي في السجن، جاءت كطائر حزين يحتضن صغاره تحت جناحيه. جاءت وكانت المفاجأة!
لأول مرة أشعر بالارتباك والعجز.. وأمام من؟؟ أمام طفل الثماني سنوات.
لأول مرة يعجز لساني عن النطق. تشربكت الأحرف، وتأتأ اللسان و.. و.. نعم.. طفل الثماني سنوات.. يقلب كياني، ويشلّ تفكيري (وأنا المناضلة وراء القضبان)!! بسؤاله الحزين البريء:
ـ خالتو ليش حطك الشرطي بالحبس؟
كان يسألني وحزن قاس على وجهه، ودموع تجول في عينيه، ونظرة حارقة مؤلمة لعيني. اختل توازني، كدت أتهاوى لولا التحامي بالقضبان الباردة. هرول الشرطي صارخاً بوجه البراءة الطفولية:
ـ عمو اسكت.. ويلا روح من هون.
لم يتحمل الطفل هذه الإهانة، وببراءة الطفولة أيضاً صرخ في وجه الشرطي:
ـ يا حمار ليش حابس خالتي بدي اخدها معي..
ومد يده الصغيرة ليشدّني من وراء القضبان. لكن يد الشرطي كانت الأسرع والأقوى والأوجع، ونتره خارجا مع أهلي، لتنتهي زيارتي وصدى سؤاله:
ـ خالتو ليش محبوسه؟
بلا جواب…)
1988
أنجبت رنا.م(80)، في 7 تشرين الأول 1988 في سجن النساء، ابنتها الأولى: ماريا. أتى المخاض رنا أول الليل بعد أن أغلقوا أبواب المهاجع. بدأ كعادة أي طلق بمغصات متباعدة وبألم محمول، لكن “مية الراس” راحت تسيل منذ أول المخاض. صارت المعتقلات يضربن على الأبواب محاولات إيصال أصواتهن إلى السجانات البعيدات، لكن أحداً لم يستجب. مع مرور الوقت راح الطلق يشتد، ورنا مريمة على الفرشة في أقصى المهجع. السائل الأمنوسي يسيل باستمرار، وصرخات الألم تزداد تواتراً وقوة مع مرور الليل. لكن أحداً لم يرد على صيحات الاستغاثة.
الساعات تمرّ، والصرخات العديدة، المطالبة بإسعاف رنا، تتصاعد وتقوى من وراء أبواب المهاجع المغلقة. لم يعرهن أحد اهتماماً حتى راحت الصيحات تتصاعد من مهاجع القضائيات(81) المجاورة مطالبات بإسعاف رنا. حين راحت المهاجع كلها تطالب بحضور الإسعاف وفي الساعة الثالثة والنصف فجراً دخلت سجانة هزيلة، لم تستطيع تحمّل كل هذا الصياح المستنجد، إلى مهجع السياسيات حيث كانت رنا.م توشك على الولادة. أخذتها وحدها إلى المستشفى، وقد راح وضعها يغدو مقلقاً لرفيقاتها، ومرعباً للسجينات البعيدات. غابت رنا الساعات الباقية من الليل، فيما المعتقلات ينتظرنها في وضع لا يحسدن عليه. في الصباح عادت وهي تحمل صغيرة على يديها لتنطلق الزغاريد في كل المهاجع وفي الباحة المليئة بأكثر من 200 سجينة قضائية وسياسية. مجيء تلك الصغيرة غدا عرساً حقيقياً في سجن النساء.
أتت الطفلة ماريا كشعاع مشرق اقتحم سجن النساء. وقد استطاعت، خلال أيام، أن تخرج كل ذلك القهر المتراكم من دواخل المعتقلات، حتى أن القضائيات احتفلن على طريقتهن الخاصة بمجيء صغيرة جديدة، أتت بعينين مفتوحتين على سعتهما كأنهما تحاولان اجتياف كل ما يحيط بها من غموض. أعطيت زاوية مهجع السياسيات لرنا ورضيعتها على فرشتين متلاصقتين، وبقيتا في تلك الزاوية طيلة الوقت الذي قضته ماريا الصغيرة مع أمها في المعتقل، أي ما يقرب من 11 شهراً. شهور حاولت فيها كل معتقلة أن تردم قليلاً من فراغ راح يكبر كلما مضى الزمن وهي بعيدة عن أطفالها. كل معتقلة في المهجع صارت أماً لماريا. بهذه المناسبة كُتبت افتتاحية مجلة: (الجرح المكابر)(82) إثر الولادة:
(لك هذه الورود يا ماريا:
ماذا يمكننا أن نقول؟!
أنقول غمرتنا زقزقة العصافير، رائحة الياسمين، أسراب السنون التي تبشر بالربيع، فسحة سماء تطل منها شمس المستقبل؟.
أم نقول، لقد طالنا الحقد الأعمى، الأيدي السوداء التي لا تفرق بين الطفل وحجر الصوان. غمرنا شعور بالقهر والتحدي، شعور بالحزن والمرارة. كل ذلك مجتمعاً قد حصل، جمعت كل تلك المعاني في لحظة من الزمن واحدة… شكراً.. شكراً لك يا ماريا على لحظات فرح ومشاعر حب لبذرة نتجمع حولها، نسقيها ونرعاها، نعلمها ونتعلم منها. لنقل لها: آه يا ماريا كم تحتاجين، وكم نحتاج، وكم يحتاج المستقبل كي يزهر إلى الحرية.
.. الحرية حلم ومناخ وصليب نحمله على ظهرنا ونمضي).
سجن النساء 1988
لكن السجن لم يكن بحال مناسباً لتربية صغيرة. صارت الأمراض تتوالى على ماريا. تأمين احتياجاتها غدا أصعب فأصعب، لذلك كان لا بد من انفصالها عن أمها الحقيقية وأمهاتها الأخريات. خرجت ماريا من المعتقل تاركة المهجع أكثر فراغاً مما كان قبل ولادتها، لتبقى أمها وحدها حوالي سنتين ونصف في سجن النساء قبل أن يطلق سراحها.
1993
لأول مرة ترى ضحى.ع جنينها على الإيكو.
في الشهر الثامن لحملها، الخامس لاعتقالها، جاءت أول زيارة إلى المعتقلات في سجن النساء. كن وقتئذ أربع معتقلات شيوعيات:
تهامة.م(83) وخديجة.د وفدوى.م(84) إضافة إلى ضحى، ومعتقلة واحدة من حزب العمال الكردستاني، وأم بسام العدل.
الزيارة جاءت لتهامة.م. كانت سعادة ما بعدها سعادة، ركضت ضحى لهفة لترى أهل تهامة على الشبك فوقعت قبل أن تصل، وبدأ النزيف على الفور. ليومين كاملين استمر النزيف دون توقف، ثم راحت ضحى تشعر أن جنينها توقف عن الحركة في بطنها. بعد يومين جاءت طبيبة من مشفى سجن النساء، وحالما كشفت عليها حوّلتها على الفور إلى المستشفى.
للمرة الأولى ترى الجنين على الإيكو.. كانت تلك السعادة، وهي ترى أرجلاً وأيدٍ صغيرة تتحرك على الشاشة، كفيلة بجعلها تنسى السجن والسجانة وكل ما مرّ معها من آلام طيلة الأشهر السابقة.
جاءني الطلق في سجن النساء، بشكل مفاجئ وفي يوم جمعة، وقد صادف دوري في الطبخ للمهجع كله(85). بدأ الطلق منذ الصباح واستمر طيلة النهار. كنت ملقاة على الفرشة أتلوى، والسائل المحيط بالجنين ينزّ مني ولا من مجيب. كنت أحسّ بصراخ الصبايا وهن يواصلن الطلبات لإسعافي إلى المستشفى. إدارة السجن المدني لا تستطيع نقلي إلا بموافقة الفرع، والفرع في يوم العطلة لا يجيب على البرقيات المتلاحقة يبعثها السجن.. لا جواب البتة. كنت أتمزق بين الطلقة والأخرى وقد راحت تتقارب حتى لم يعد يفصل بينها دقائق، مما حدا بالمعتقلات في المهجع للضرب على الباب بشكل هيستيري. كن يصرخن ويصرخن، لأني على ما يبدو كنت قد تعبت كثيراً. بعد مدة سمعت إجابة السجانة من وراء الباب وكأنه صوت من عالم آخر:
ـ لا نستطيع إخراجها على مسؤوليتنا حتى الساعة السادسة صباحاً.
ـ حتى السادسة.. تكون قد ماتت.. الرحم لا يفتح.
صرخت إحداهن.
جوابها جعلني أدخل في دوامة رعب مرافقة لألمي. نهاية، راحت المعتقلات يبكين، الوضع بدا ميئوساً منه وما من حل.. حين جاء رد الفرع. كانت السوائل المحيطة بالجنين قد ذهبت كلها، وبدأ الجنين يضغط على ظهري، على فقرات ظهري السفلية بالضبط، دون أن يستطيع الخروج. الأمر جعلني لا أستطيع الحركة بعد ولادتي لمدة 40 يوماً. نقلت إلى المستشفى أخيراً، وأنا أحس بأني بين الموت والحياة بعد أن استمر الطلق طيلة النهار.
بعد ساعتين لا غير عدت.
لم أكن أحمل فرحة أم جديدة، فصغيرتي ديانا نحيلة للغاية، وثمة تشوه واضح في قدميها. كنت أشعر بأني أحمل ثمرة ظلمي لهذه الصغيرة، وأفكر، وأنا أفلش قماطها، أن هذا التشوه ربما كان من نقص الكلس وفقر الدم الشديد الذي عانيت منه طيلة أشهر الاعتقال، أو ربما من الجلوس الخاطئ أثناء الحمل وأنا أحاول إخفاء حقيقة حملي عن السجانة وإدارة السجن.
كانت صغيرتي المسكينة تغرز في قلبي عشرات السكاكين كلما أمعنت فيها أكثر. منهكة للغاية كنت، أشعر بالذنب يكبلني.. ما ذنب هذا المخلوق الصغير.. ما ذنبه!!
حالما دخلت ضحى من باب السجن إلى الباحة بدأت البنات يزغردن ويبكين، السياسيات والقضائيات على السواء، ويومئذ قمن بتنظيف باحة السجن: حوش البيت العربي قديماً، وطالبن بتمديد فترة إغلاق أبواب المهاجع، من الساعة الثامنة ليلاً إلى الحادية عشرة، كي يستمتعن أطول بالضيفة الجديدة القادمة. كانت الأم تخشى أن تحمل الصغيرة لذا فقد استلمتها رفيقاتها عنها، ثم رحن يحضرنها كي ترضعها فحسب، ويعدن إلى أخذها من جديد، وضحى ما تزال طريحة الفراش. الوجه المؤلم والحزين للأمومة هو كل ما رأته ضحى في تجربة ولادتها الأولى والأخيرة. لم تستطع أن تفرح بتلك القادمة إلى هذا الوجود المرير، كان القلق والتوتر يحاصرانها وليس فرح الولادة الجديدة. بعد لأي سمحوا لابراهيم، زوج ضحى، بزيارتها ورؤية طفلته، ولكن عبر طاقة في الباب: توضع كرسي لضحى من هذا الجانب وكرسي لزوجها من الجانب الآخر.
إبراهيم كان سعيداً للغاية على الرغم من كل حصل، فرحاً ومستبشراً، وضحى منهكة وخائفة على الصغيرة التي كان يجب أن تؤخذ إلى المستشفى على الفور.
ـ لازم تطلبي أخذها إلى مستشفى الأطفال فوراً.. وضع ابنتك غير جيد.. لازم تعرضيها على طبيب عظمية.
كان كلام طبيب السجن، بعد أن كشف على الصغيرة، حاسماً ومقلقاً للغاية. لذلك فقد ظل إبراهيم، لأكثر من أسبوع، يأتي بديانا كل عدة ساعات إلى السجن لأرضعها، ومن ثم يعود بها إلى المستشفى. تماثلت الصغيرة للشفاء، ولكن قدميها ظلتا كما هما.. وحين غدا عمر الصغيرة ثلاثة أشهر قُطعت زيارة والدها.
تلك القابلة السجينة، والمتهمة بالقتل، كانت خير معين لي. تهتم بالصغيرة وتحممها، إضافة إلى مساعدة الرفيقات في المهجع، الألكن الوضع في السجن لم يكن مناسباً لتظل ديانا فيه. كان هناك حوالي اثنين وثلاثين طفلاً في السجن مع أمهاتهم. في الصيف خصوصاً يسود ضجيج وشجار وسيول من الشتائم المقذعة. لذلك فقد ظلت ديانا معي في المعتقل سنة وشهرين قبل أن تغادره، ثم صارت تزورني مرة كل 15 يوماً..
كان قراراً صعباً أن أبعث بابنتي إلى الخارج، لأن الفراغ والحزن تمكنا مني الآن تماماً بعد رحيل الصغيرة. كانت صغيرتي تملأ فراغ السجن ووحشته، منذ لحظة اعتقالي وهي في أحشائي تؤنسني وحتى ساعة ذهابها، ساعدتني على احتمال جحيم المعتقل وهي في بطني أو على يدي. بخروج ديانا فقط أحسست بأن السجن قد بدأ.. بدأ بشراسة.
تولى والد ديانا في الخارج تربيتها حتى إطلاق سراح أمها في سنة 1998، وخضعت للعلاج الفيزيائي طويلاً حتى تماثلت تقريباً للشفاء.
* * *
بإذن من الكاتبة روزا ياسين حسن، خصيصا لصفحات سورية