صفحات سورية

سؤال مُلح حول مسألة قديمة

null
د. طيب تيزيني
كان للمقالة التي كتبتُها ونشرت قبل أسبوعين تقريباً في صحيفة “الاتحاد -وجهة نظر” بعنوان “الديمقراطية… الضمان الأكيد”، صدى في بعض الأوساط الجامعية بمدينة اللاذقية. وعلى هذا الأساس، جرى اتصال مع هذا الوسط، الذي طرح سؤالاً ظهر قبل نصف قرن بوصفه مشكلة، ولكنه يظهر الآن من حيث هو إشكالية. وقبل أن نتناول السؤال، يحسن بنا أن نحدد الفرق الاصطلاحي المنطقي بين كلا اللفظين المذكورين. أما أولهما فيتحدد في أنه -حسب جميل صليبا- “المعضلة النظرية أو العملية التي لا يتوصل فيها إلى حل يقيني”. لكن اللفظ الثاني وهو (إشكالية) يمكن ضبطه بمثابة مجموعة من المشكلات، تنتمي إلى حقل ثقافي أو اجتماعي واحد، بحيث لا يمكن حلّ واحدة منها دون حلّ البقية الأخرى.

وبعد ذلك يأتي (السؤال- المشكلة)، الذي طُرح قبل خمسين عاماً: لماذا أخفقت الوحدة السورية -المصرية؟ وبعد ذلك السؤال القديم، يأتي السؤال الجديد القديم: هل يمكن التفكير مجدداً في مشروع توحيد بين قطرين عربيين؟ فإذا كانت الإجابة عن السؤال الأول تقع في حدود ما طالب به المفكر اللبناني رئيف خوري، حين خاطب جمال عبدالناصر عقب التوقيع على الوحدة بين مصر وسوريا في دمشق، وهو “الديمقراطية” بوصفها “الضمان الأكيد لاستمرار الوحدة ولامتداداتها إلى البلدان العربية الأخرى”، فإن الجواب عن السؤال الآخر يشترط إعادة النظر في صيغة السؤال، من باب أنه يأتي في ظروف استراتيجية دولية وإقليمية ومحلية جديدة، هي ظروف العصر العولمي، وإذ ذاك، يغدو السؤال على النحو التالي: أما زال محتملاً أن تحافظ الأقطار العربية على وحدة كلّ منها، أما زال ممكناً أن يبقى القطر العربي الواحد موحداً في داخله، دون مخاوف متصاعدة من تفككه وتبعثره إلى وحدات طائفية أو مذهبية أو عرقية، كما يحدث الآن في العراق ولبنان والسودان… إلخ؟

وكما لوحظ، فقد كان همّ الوحدويين العرب من القوميين والليبراليين والاشتراكيين وكذلك من عدد من الإسلاميين، أن يحققوا نمطاً من الوحدة الثنائية أو الثلاثية… إلخ بين قطرين أو ثلاثة؛ فظهر الأمر كأنما النظم العربية تحتمل ذلك في حينه، واتضح أن ذلك لم يكن أكثر من سراب. بل كانوا يراهنون على تحقيق الحدّ الأدنى من ذلك عبر الديمقراطية، كي يكون حافزاً “لمدّ التوحيد إلى بلدان أخرى”. وغالباً ما اعتقد أن التوحيد القومي العربي يحتاج إلى قبضة فولاذية تنهي المهمة التاريخية بصيغة “وحدة إندماجية” كلية وقطعية، لم ينتبه إلى خطورة البنية الداخلية لكل قطر، فظنّ رهط متنامٍ أن إرادة التوحيد هي التي تفرض نفسها حتى على النظم العربية الديكتاتورية. لكن ما حدث هو هيمنة هذه النظم على القرار “القطعي”، وانفراط العقد الهش، الذي ربط بين مصر وسوريا، ناهيك عن العقود الخُلبية التي ربطت، لفترة ساذجة، بين ليبيا والسودان ومصر وسوريا.

وتحت وطأة النظام الأمني العربي الجديد، راحت تحدث تحولات عميقة في أولويات البلدان العربية. فمن شعارات الوحدة والاتحاد والاندماج بين أقطار الوطن العربي، إلى شعار الحفاظ على وحدة القطر الواحد، ولكن بصيغة نظم “جمهورية ورئاسية وملكية وغيرها، يحكمها معظم حكامها بمقتضى ذلك “النظام الأمني” وعبر بواباته الكبرى المرئية أو المغيبة: قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وهيمنة الحزب الواحد “التقدمي أو الرجعي”، والتهام المال العام، وتوسيع “السجن السياسي”، ووضع اليد المخملية الحديدية على كل جوانب المجتمع، والتنكر لضرورات الإصلاح الديمقراطي التحديثي عبر القول المراوغ إن ذلك كله يأخذ مجاله ومساره حقاً في الحقول المتعددة، أو انه يأتي بعد إنجاز مهمات “التحرير الكبرى” للوطن.

لقد جرى الانتقال من “وحدة الأمة العربية” إلى الحفاظ على وحدة “القطر الواحد”، ولكن في هذا الأخير، يكمن أعظم الخطر: ما يحدث الآن هو- في معظم الموقف- نمط خبيث ومدمر من التفتيت والتفكيك، ومن هدر الأمن والمال والاستقلال؛ وذلك في حالة لم يعد القيمون على الأقطار العربية قادرين على الحفاظ على ما يحكمونه، إلا عبر وحدة كل قطر عربي وطنياً وعلمانياً وديمقراطياً، وباتجاه أشكال متقدمة من التضامن والتعاون فيما بينها جميعاً، وتحية لمن حفز على هذا الحوار في الوسط الجامعي، ولمن يفتح صدره الرحيب لنشره: صحيفة “الاتحاد”.

الاتحاد
الديمقراطية …الضمان الأكيد
د. طيب تيزيني
ثمة موقف كبير ظهر لدى مجموعة من المثقفين السوريين واللبنانيين، حين زار جمال عبدالناصر دمشق في بدايات الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958. كان استقبالاً حافلاً قد حدث للزعيم، حين احتشد جمهور كبير أمام “قصر الضيافة” تحية له وتأييداً. وعلى شُرفة القصر وقف هو- وعدد من المسؤولين السوريين- يخاطب ذلك الحشد بالمناسبة الجليلة. وكان من جملة المثقفين اللبنانيين، الذين جاءوا لتهنئة عبدالناصر أحد هؤلاء، فقدم كلمة باسمهم، هو رئيف خوري. خاطبه وكان يقف إلى جانبه، قائلاً: الديمقراطية يا سيادة الرئيس، الديمقراطية هي الضمان الأكيد لاستمرار الوحدة ولامتداداتها إلى البلدان العربية الأخرى.

وإذا كان خوري من أوائل من نبّه إلى الضرورة القصوى للديمقراطية في المجتمع الوحدوي الجديد، فقد راحت أجيال من المثقفين والسياسيين والعلماء ومِنْ معظم الفئات الشعبية في سوريا ولبنان ومصر، يدركون أهمية ذلك، خصوصاً مع بروز “أجهزة المباحث القمعية”، الذي لم يتأخر كثيراً عن الحدث التاريخي الكبير، الوحدة العتيدة. وكان لقرار إلغاء المجتمع السياسي بما فيه الأحزاب والتنظيمات السياسية، تحريك الأمر باتجاه الاشتعال، ثم باتجاه المجتمع بكليته، من حيث هو. وكان ذلك بمثابة تأسيس سياسي ومعرفي وسيكولوجي لما سيتخلّق في أحشائه بصيغة “الدولة الأمنية”، دولة الفساد والإفساد، التي ترى في المجتمع كله خصماً لها: مًمّا يستدعي القيام بإفساده وإرعابه وتجفيف كل منابعه، كي لا يتمخض أبداً عن رهان، ولَوْ بشكل خيالي.

وقد شاع في حينه مثلٌ شعبي عميق الدلالة، وانتشر في أوساط الناس، وهو: الحماقة والجشع الملوث يجعلان من أصحابهما القاتل والقتيل كليهما. فقد امتدت عمقاً وسطحاً حركة النقد الإيجابي للحدث الوحدوي في معظم سوريا. وفي الآن نفسه، راح كتاب كبار في مصر ينتبهون إلى ذلك؛ وكان في طليعة هؤلاء طه حسين.

ونعود إلى خوري- وهو مفكر لبناني متميز- لنتمعّن فيما كتبه حول هذه المسألة لدى طه حسين. يقول -وهو يمارس هنا دور مؤرخ الثقافة-:”ما سمعنا صوتاً يرتفع لنُصرة الحرية، حرية الفكر والصحافة، في وادي النيل، إلاّ كان صوت طه حسين في المقدمة. فكلّنا تدرّج على أدبه ومؤلفاته، التي كانت ركناً من أركان حرية الفكر. وقد علّمنا قيماً ومعاني نبيلة قد لا يكون الوطن من دونها وطناً. وليس أقلّ هذه القيم والمعاني: حرية الفكر وحرية الصحافة، والقتال ضد المضيِّقين على الأقلام”. (جاء ذلك في ندوة عن رئيف الخوري تم عقدها في مايو من سنة 1993).

يجيء حديثنا هذا ليس بمثابة تذكّر للرائد التنويري الحر طه حسين فحسب، وإنما كذلك بمناسبة نعتبرها مفتوحة على مصاريعها للتفكر فيما يحدث في مناطق متعددة من الوطن العربي من حصار بغيض للحريات الديمقراطية، وبكيفية خاصة حرّيتيْ الإعلام والثقافة. والمفارقة المدوّية في ذلك تكمن في أن هذا الذي يحدث، يقدمه أصحابه من حيث هو حَفاظ على سيادة الوطن وكرامته وازدهاره، وكذلك بمثابته سياجاً لحماية الشعوب العربية من تدفّق الغرب باتجاهها ثقافياً وقيمياً ووطنياً وقومياً. بل ثمة من يعلن أن ذلك السياج إنما جاؤوا به لحماية تلك الشعوب من أنفسها (وهذا يدخل فيما يمكن أن نطلق عليه ردْعاً احترازياً، بمعنى مساعدة تلك الشعوب- ومن ضمنها الشباب والفاعلون في حقل المجتمع السياسي والحقل المدني- من احتمال انقيادها لـ”نزواتها ومطالبها الفاسدة”).

الأوضاع لم تعد تحتمل ذلك، والدعوة إلى إصلاح وطني ديمقراطي وتحديثي، غدتْ ألف باء العيش وفق ميثاق الشرف: كفاية مادية وحرية وكرامة.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى