ما خص حقوق الإنسان والرأي الآخر في سورية!..
أكرم البني
لنعترف بداية أن مفهوم حقوق الإنسان لم يحظ في بلادنا بالاهتمام المطلوب طيلة عقود ولم يحتل كجزء من المهام الديمقراطية الحيز الذي يليق به كقيمة من قيم الذات البشرية وكعامل ناجع في تنمية المجتمع وتطوير قدراته، بسبب رئيس هو أن السائد والطاغي في حياتنا السياسية والثقافية كان الإيديولوجيا، وأكثرها حضوراً إيديولوجيا وصائية تعطي الأفضلية المطلقة لتصوراتها المسبقة وقيمها الثابتة عن المسألتين الوطنية والقومية، وليغدو مبرر حضور الرأي الآخر المختلف عندها وواجب احترامه مسألة مرفوضة تماماً، أو بالحد الأدنى مسألة نافلة أو حاجة كمالية مستوردة لا يحتاجها مجتمعنا.
فالنخبة الحاكمة التي نصبّت من نفسها وصياً على مصالح الوطن ووكيلاً حصرياً على حاضره ومستقبله نجحت في كسر العلاقة الجلية بين القضية الوطنية وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتمكنت تاليا ًمن سحق أو تفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية بدعوى أنها بدعة غربية تهدد أمن المجتمع واستقراره وتضعفه في مواجهة الهجمة الإمبريالية والصهيونية، كذا…
وبلا شك يعرف الجميع أن تمظهر النخبة الحاكمة بالمظهر الوطني الحريص والمتشدد، وما رفعته من شعارات أحادية مثل “الوطن في خطر” و “مصلحة الوطن هي المصلحة العليا” شكّلت سلاحاً ناجعاً لضبط الأوضاع الداخلية أكثر مما استخدمت في الخنادق وساحات القتال، بل وكانت بمثابة حصان رابح امتطته السلطة الشمولية لتصل إلى مآربها الخاصة، وتعزز أسباب استقرار سلطانها وتصون ما جنته من مكاسب ومغانم. والنتيجة نبذ أشكال الحياة الديمقراطية وتشديد القبضة القمعية على الشعب وشن حملات مستمرة من الإقصاء والتصفية بما في ذلك ممارسة أشنع الصور لانتهاكات حقوق الإنسان طاولت معظم الفعاليات والشخصيات الديمقراطية دون أن يشفع لهذه الأخيرة الدم الغزير الذي سفكته دفاعاً عن حرية أوطانها أو التضحيات الجسام التي قدمتها على مذبح الصراع مع العدو الصهيوني.
صحيح أن النخبة السياسية نجحت في اكتساب مشروعيتها عندما قدمت نفسها بصفتها نخباً وطنية وذات رسالة قومية، وصحيح أن الشروط الموضوعية تغيرت وبانت النتائج محبطة لخطابات وطنية وقومية خيبت الآمال ورّثتنا واقعاً عاجزاً ومأزوماً، وتالياً لم تعد تجدي نفعاً محاولة إثارة المشاعر الوطنية والتعبئة بشعارات وطنية مفعمة حماسة ضد الضغوط الأميركية والتهديدات الإسرائيلية، للتهرب من موجبات احترام حقوق الإنسان وقواعد الحياة الديمقراطية. لكن الصحيح أيضاً أن ثمة إشكالية معرفية لا تزال حاضرة جوهرها شيوع ثقافة مشوهة خلقت تعارضاً مستحكماً بين مبدأ الحرية وحقوق الإنسان وبين المصلحة الوطنية والأهداف السياسية، وبات الأمر كما لو أننا في أتون معركة شاقة لتحرير مفهوم الحرية وقيم حقوق الإنسان من كافة الاختلاطات والتشوهات التي تمنعه من التقدم والرسوخ.
ومع أن سورية قد صادقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتنص المادة / 19 / منه على ” حق كل شخص في التمتع بحرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة “، وبرغم إن الدستور السوري ذاته يضمن حرية الرأي والتعبير في المادة/ 38 /، لكن الأمر على صعيد الممارسة مختلف تماماً، في ظل طبيعة السلطة وميلها كاتجاه عام نحو الأحادية والسيطرة الشمولية، مستندة إلى إعلان مزمن لحالة الطوارىء التي تبيح في المادة / 4 / للحاكم العرفي أو نائبه أن يقرر ما يراه مناسباً من قيود على حرية الأشخاص ومستندة تالياً إلى قوانين مكملة تم إصدارها تباعاً تخول بعض الجهات الإدارية أو الأمنية صلاحيات واسعة تخل بضمانات حقوق الإنسان وتجيز الاعتقال التعسفي أو القبض على المشتبه بهم أو من يعتقد بخطرهم على الأمن العام بقرارات أمنية دون أي مرجعية قانونية أو قضائية مثلما تبيح مراقبة وتفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأية ضوابط كما تبيح سلطة التجريم على أفعال دون العودة إلى الأطر القانونية العادية. ومستقوية أيضاً بما درج على تسميته “الخطوط الحمر” عن ما يسمح به ولا يسمح به، التي يحظر تجاوزها تحت طائلة الحساب والعقاب وهي قابلة للتعديل من طرف واحد وفي أي وقت تبعاً لمزاج الأجهزة الأمنية وحاجتها للذرائع كي تعزز “سطوتها” على المجتمع. والنتيجة أن كل الدعوات الإنسانية وكل الحقوق الطبيعية والدينية والأعراف الدولية والمواد الدستورية ثم ما كرسته التجربة العراقية المرة من دروس لم تستطع منع الاضطهاد وتجاوز التمييز في بلادنا.
في المقابل، وإذا تجاوزنا لغة القمع والاستبداد، تستدعي الحقيقة التوقف أيضاً عند حملة الفكر الثوري ومعظمهم للأسف ليس في أعرافهم صعوبة للتضحية ليس فقط بحق الإنسان في الرأي، بل بالإنسان نفسه أيضاً، أو بالآخر المختلف في سبيل ما يعتبرونه مثل الإنسانية وأهدافها النبيلة، وقد أثبتت التجربة التاريخية غير مرة أن من يدعون حمل المبادىء السامية كانوا هم أنفسهم الأكثر استعداداً للتحول إلى طغاة باسم القيم والمرامي السامية نفسها، طالما أن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، وعلى مذبحها يسهل تقديم القرابين بدون حساب، وغالباً ما يكون الآخر المختلف وأحياناً المؤتلف وحتى الحليف السابق هو مادة هذه القرابين. الأمر الذي يقودنا إلى الحديث عن المعارضة السورية، حيث لا يزال معظمها متردداً إلى حد الآن في إحداث قطيعة مع أفكار الماضي وفي نفض يده من ثوابت إيديولوجية عفى عليها الزمن وتتناقض مع مبادىء الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان، وأبسطها حق الإنسان في الرأي والتعبير، ومتردداً أيضاً في إعطاء هذا الحق الأولوية التي يستحقها، مثلما لا يزال معظمها يستمد حضوره من حسابات ضيقة وادعاء ملكيته للحقيقة، ولا يخجل من استخدام وسائل فوقية، ولنقل سلطوية وإقصائية إن صحت العبارة، في تعامله مع الرأي الآخر، ومن أجل نصرة أفكاره ومواقفه الخاصة.
ولا تخرج عن هذا الإطار الجمعيات والمنظمات التي تشكلت في سورية في بحر السنوات القليلة المنصرمة ورفعت راية الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث لا تزال في غالبيتها تعاني من الأمراض ذاتها، من حضور الذاتية والصراعات الأنانية التي فاحت رائحتها بصورة مؤسفة ناهيكم عن تغليب المواقف السياسية في أغلب الأحيان على حساب دورها في الدفاع عن الإنسان وحقوقه كقيمة مطلقة بغض النظر عن الموقف السياسي أو المنبت الإيديولوجي أو الانتماء القومي أو الطائفي أو المذهبي، الأمر الذي وسم هذا الحقل من النشاط في غالبيته بالارتباك المزمن وعدم النضج وبدا أشبه بماكينة لإصدار البيانات الإجرائية المتشابهة ومرتعاً للخلافات الصغيرة دون أن يميز نفسه بعمل ملموس ومثابر لمتابعة ما يجري من انتهاكات وتخفيف آثارها، ودون أن يبذل جهداً حقيقياً ملموساً ومطلوباً لنشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع وتربية الذات والآخر على تمثلها.
ويكتمل المشهد بأسباب مجتمعية لا تزال تعيق بدورها حق الرأي الآخر واحترامه، منهاطبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يستمد بعض مقوماته من أسس وروابط متخلفة ومنها الموروث التربوي الشرقي لأنماط العلاقات في الأسرة والمدرسة والعمل وخضوعها جميعها وإن بدرجات مختلفة لمبدأ السلطة المطلقة، ربطاً بشيوع بعض المفاهيم الخاطئة لمسألة الطاعة، كطاعة الوالدين وأولي الأمر، وإصباغ القداسة والغيبية عليهما، ما أفضى إلى تهميش مزمن لدور العقل والنقد، وإلى الاستسلام لسطوة الاستبداد واستساغة الرأي الواحد واللون الواحد وحتى اعتبار كل ما عداه غريباً ومنبوذاً من المجتمع.
في ضوء ما سبق فإن التأسيس لقاعدة فكرية وأخلاقية جديدة لمفهوم حقوق الإنسان يحتاج أول ما يحتاج إلى نقد الذات والعقليات الإيديولوجية الوطنية كضرورة لا مفرّ منها لتنظيف البيت من الوعي الاقصائي العتيق، ما يقود منطقياً وعملياً إلى رفض أي تحديد أو تحجيم لمفهوم حقوق الإنسان تحت حجة الخصوصية أو بدعوى أولوية المسألة الوطنية، أو غيرها من الحجج والذرائع، هذه الحقوق تبدأ من حيث الجوهر بالاعتراف بالإنسان بصفته روحاً بشرية جديرة بالحياة والاحترام التام، بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والمعتقد، انتهاءً بالاعتراف به بصفته ذاتاً حرة وندّاً ذا حقوق متساوية نابعة من حقوقه الطبيعية في الحرية والكرامة والاجتهاد.
هذه الحقوق لا تتعارض تالياً مع أية مهمة أو هدف وطني بل على العكس هي السند الحقيقي والداعم للانتماء الوطني، فإشاعة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان هي قوة للوطن لا قوة عليه، والبديهي أن قوة الوطن تتكامل مع حرية المواطن وحقوقه، ولا يستقيم الذود عن البلاد وصيانة الاستقلال ومواجهة تحديات البناء والتنمية عبر روح قهرية تحجب حق الآخر وحريته أو تسحق شعوره الإنساني بالانتماء الطبيعي المتساوي.
وبمعنى آخر فإن ما نحتاجه اليوم لنصرة حقوق الإنسان هو عملية سياسية وثقافية كبيرة، تطلق آفاقاً جديدة لصالح إعلاء شأن الحياة والحرية والإنسان في مواجهة طغيان الإيديولوجيا وغطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة، تتجه أساساً نحو البشر، لتقوية إيمانهم بحقوقهم ولبعث الثقة بأنفسهم وبجدوى دورهم، وتستدعي تعاون كافة القوى الديمقراطية لإضاءة مقومات هذه العملية وإنضاجها على صعيد خطابها ومبادراتها وآلياتها، على أمل أن تكون مقدمة لمشروع نهضوي جديد يساعد على انتشال المجتمع من الحال البائسة التي وصل إليها.
اللافت أنه وعلى الرغم من مرور زمن غير قصير على انهيارات الدول الاشتراكية وما خلفته من دروس وعلى ثورة الاتصالات وتعزز مكانة العولمة الاقتصادية وانتشارها في حقول السياسة والثقافة، ثمة من لا يأخذ في الاعتبار المعنى الحقيقي للقول بأن العالم أصبح قرية صغيرة ويستمر في الترويج لأوهام الماضي عن السيادة والاستقلال والمسالة الوطنية كصورة من صور الانعزال عن الغرب الرأسمالي ومقارعته ورفض قيمه ومفاهيمة. بينما الحقيقة تقول إنه بقدر ما ازداد حجم انتقال السلع والناس والرساميل والتقانة والمعلومات بقدر ما تحررت الثقافة والأفكار من العبء الأيديولوجي واختصرت المسافات وضعفت الحدود والموانع الذاتية بين الدول، ليتحول العالم من غلبة منطق الخصوصية والسيادة الذاتية إلى غلبة المنطق الكوني العام وتفاعلاته، ولتحتل القيم والحقوق الإنسانية العالمية أسبقية ملموسة في معايرة شرعية النظم وسوية تطور الدول المختلفة.
ويصح القول إن حضور قيم عالمية مشتركة وحقوق شبه موحدة للإنسان بصورة عامة، أخذت أبعاداً جديدة بعد التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية في العقدين المنصرمين، ويلحظ بعد انتهاء مناخات الحرب الباردة وشيوع الأفكار الديموقراطية وقيم الحرية عالمياً تنامي حس عام راغب في محاكمة أساليب الصراع السياسي ومعايرتها إنسانياً، الأمر الذي ساهم إلى حد ما في تبلور رأي عالمي يضع حياة الإنسان وحريته في مركز القلب من كل اهتمام. وثمة من ذهب إلى حد اعتبار ما يحدث من تطور في شبكات الاتصال والتفاعل الكثيف بين المجتمعات يسير بنا نحو إلغاء حدود الدول ويؤدى إلى ظهور ما يشبه مجتمع عالمي واحد ونمو حقوق ذات قيم إنسانية موحدة، ما فسح في المجال لبروز تيارات سياسية وجمعيات مدنية وحقوقية تنادي بواجب تطبيق المعايير المشتركة حول حقوق الإنسان والتعاون في ردع كل من ينتهكها، وقد دفع البعض موقفه إلى النهاية في ربط جديد بين مفهومي الوطن والديمقراطية، بالقول أن وطنه حيث يجد حقوقه وحريته وكرامته مثيراً الدعوات لانبثاق دور أممي مركزي يملك الحق في التعامل مع أي طرف يهدد المشروع الإنساني وقيمه العامة.
من جهة أخرى إذ تشكل الحرية بما هي امتلاك الإنسان لذاته بصفته كائناً معنوياً جوهر الحقوق الأساسية للحياة الطبيعية، فإن أكثر أشكالها تعقيداً وصعوبة وإلحاحاً يتجسد في احترام الرأي الآخر وتالياً احترام ظواهر التنوع والتعددية والاختلاف. بما يعني أن حاجة المرء إلى آخر هي شرط لازم كي يعرف نفسه معرفة متكاملة، فتحديد هوية “الأنا” تقتضي وجود “الآخر” المختلف والمتباين، ومن نتيجة اختلافنا عن “الآخرين” تحدد الـ”نحن”، فالأمور تعرف بأضدادها، أكثر مما تعرف بصفاتها الخاصة، وما دامت الأنا عيانياً ومفهومياً تستدعي الآخر وتتحدد به مثلما يستدعيها ويتحدد بها، فلا مجال لفهم صيرورة المجتمع الصحي دون أخذهما معاً في وحدة جدلية تقوم على قاعدة الاشتراط المتبادل.
والحال من تسطيح الأمور وتبسيطها القول فقط بضرورة احترام الرأي الآخر إذا كان قريباً منا أو متفقاً معنا، بينما المسألة في حقيقتها هي التعاطي مع الرأي الآخر واحترامه أساساً عندما نعتبره مختلفاً وخاطئاً، وفي هذه النقطة، إذا وضعنا جانباً لغة المصالح وحساباتها، لا يمكننا القفز فوق حقيقة موضوعية تقول إن تمايز قدرة العقل البشري بين إنسان وآخر وتفاوت عملية تطور المعرفة وشروط الحصول على المعلومات وتباين خصوصية الأسباب التاريخية والاجتماعية التي حكمت نمو هذا الكائن أو ذاك، كل هذه العوامل تؤدي إلى اختلافات في الوعي وتؤسس في أي مجتمع للتنوع والتعددية ولمبدأ النسبية في التحصيل المعرفي ما يجعل للصواب والخطأ معاني مختلفة باختلاف الزمان والمكان ليغدو الرأي الخاطئ صائباً مثلما يمكن أن يصبح الصائب خاطئاً!..
وأيضاً ليس من مبرر لأن نفهم حق الآخر في الرأي، إذا لم يكن هو حقه في أن يختار المبدأ الفكري أو الموقف الذي يقتنع به بغض النظر عن صحته أو مشروعيته من وجهة نظرنا، وإذ يستطيعكل إنسان أن يقول لآخر إن رأيك خاطئ فذلك لا يرتب أبداً أدنى مبرر أو مشروعية لحجب حقه في الرأي،فالإيمان بحرية الاختيار والتفكير يعني أن ليس ثمة حدوداً أو خطوطاً صفراء أو حمراء للي ذراع هذا الحق وتطويعه، ويعني أيضاً أن احترام الرأي الآخر هو قيمة بحد ذاتها أو مبدأ مرسل لا علاقة له بالصواب والخطأ، ولا تحكمه اشتراطات وثوابت مسبقة ولا تلغيه حالة طوارئ، وأقصى ما يمكن فعله هو تنظيم التعبير عنه دستورياً وقانونياً.
ثم لنفترض جدلاً أن ثمة رأي خاطىء أو متحامل ومبالغ في انتقاداته، هل يستدعي ذلك اللجوءإلى القمع أو إلى قاموس الاتهام؟ وأين دور السجال بوصفه الشكل الأرقى لإدارة الخلافات الفكرية والسياسية وكشف الخيط الأبيض من الأسود ؟. ألم يحن الوقت أن يحتكم مجتمعنا إلى الحوار لا إلى أية وسيلة أخرى على قاعدة الثقة بقدرة الناس على تفنيد ما تراه خاطئاً أو مغرضاً؟..
من المؤسف حقاً بعد ما شهده العالم من متغيرات ومع عصر الثورة المعلوماتية أن يذهب البعض إلى إدانة وتجريم أي رأي مهما كان من وجهة نظره مغالياً في خطئه طالما تتوفر له الوسائل الإعلامية والعلمية لاستجلاء حقيقة الأمور وإظهار الحق من الباطل. وطالما يعرف جيداً أن استخدام السجن والاعتقال أو سلاح الاتهام هو تعطيل للحرية والنقد وتخريب للمجتمع وإجهاض سبل الوصول إلى الحقيقة.
وفي هذا الإهاب من المفيد هنا أن نتذكر ما تكبدته المجتمعات عندما أسقطت الحق في الرأي والمعتقد وإلى أي درك وصلت أحوالها على يد محاكم التفتيش الكنسية أو صاحب الزنادقة في الخلافة العباسية، وأيضاً ما أدى إليه كبت الآراء بحجة أنها خاطئة أو على ضلال من مآسي مروعة تبدأ بالاضطهاد والقمع وتنتهي بإفقار الحياة والفكر والأخلاق في المجتمع إلى حد يهدد بانحطاطه وفنائه، وحذر منه المفكر ياسين الحافظ قائلاً: “عندما يغيب التسامح وتدان التعددية ويعتبر كل فريق نفسه مالكاً الحقيقية وعندما يمارس السحل والسحل المضاد وعندما يصبح السجن المكان الوحيد للرأي الآخر وعندما يوضع القانون على الرف أو يصبح غلافاً لشهوة الحاكم أو مصلحته،عند هذا كله أو بعضه ماذا يبقى للمجتمع من قيم ووسائل يدافع بواسطتها “.
يلمس اليوم أي مراقب للحياة السياسية السورية شدة ضعفها ومدى الانحسار الذي أصابها بسبب استمرار التضييق على حق الرأي والتعبير، وبسبب نشر الخوف التقليديمن أخطار النقد والاختلاف، ما يستدعي الحاجة لتأسيس وبناء قواعد فكرية وأخلاقية جديدة لمفهوم الرأي والرأي الآخر بعيداً عن سيطرة الروح الوصائية بصفتها مرجعاً أحادياً يتنكر لمفاهيم التباين والنقد، وبعيداً عن زمن القمع والخنوع والتسليم، وقتل روح التجديد والمبادرة، وبعيداً عن مجتمع سلبي لا مبالٍ مفعم بالغرائز وأسير روح الاستهلاك والاستمتاع الرخيص.
ولنتخيل مجتمعنا لوهلة لو لجأت القوى السياسية كافة مثلاً إلى المحاجة لا الاتهام، لووطنت النفس على تقبل التعايش مع واقع يحتمل النقد ويحتمل وجود رأي معارض أو مخالف له من الحقيقة ما لها ومعني مثله مثلها بحاضر هذا الوطن ومستقبله، لو احتكم الجميع إلى عقول الناس وأتوا بالبينات والحقائق قبل اللجوء إلى وسائل القهر والقمع وإطلاق التهم جزافاً، لو استخدموا سلاحاً من العيار نفسه الذي يستخدمه الصوت الآخر، وقارعوا الفكرة بالفكرة والكلمة بالكلمة، مكرسين أسلوب الحوار والسجال الذي يرنو إليه المجتمع الصحي لإدارة أوجه الصراع والاختلاف بوسائل سلمية.
لعل مياها كثيرة جرت بعد قول فولتير “إنني أخالفك الرأي ولكنني على استعداد لتقديم عنقي في سبيل أن تقول رأيك بحرية” لكن من المؤسف أن السائد اليوم في مجتمعنا هو ثقافة مدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، الذين لا مكان في دنياهم لما يعتبرونه بدعة حق الأخر في الرأي والاختيار والاختلاف!!..