صفحات ثقافية

عاشق من فلسطين” زرع وطنه في وجدان العالم

null
أنور حامد
بي بي سي
في البدء كان الوطن.
من البروة الى حيفا الى زنزانة ضاقت جدرانها فاتسع فضاؤها بأغنيات العاشق، وعشش الظلام في أرجائها، فاضاء الحب في جنباتها شموسا.
من الزنزانة الى البروة الى موسكو حيث بدأ يعيد صياغة الأسئلة، الى القاهرة حيث غير اتجاه البوصلة، الى بيروت الى باريس الى بيروت الى قبرص الى بيروت الى شبه وطن.
في البدء كان الرحيل وفي البدء كان الوطن.
محمود درويش
محمود درويش كان يحمل وطنه في حقيبة سفره، اينما حل وأنى حطت به الرحال
“وطني ليس حقيبة”
آه يا جرحي المكابر
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
ولكن محمود درويش كان يحمل وطنه في حقيبة سفره أينما حل وأنى حطت به الرحال، فقد تغنى به في لغة تنساب برقة كمياه الجداول، ووصل به الى قلب العالم مخترقا الحواجز اللغوية والسياسية.
فهو الشاعر بامتياز، يدرك أن الحس الجمالي هو من المكونات التي يحملها الإنسان في الجينات المعرفة لطبيعته الانسانية، والطريق الى القلوب سالك اذا امتلكت أدواتك الجمالية ـ فالانسان في أنحاء العالم المختلفة يتحدث لغات عدة، ولكن لغة الأحاسيس والجمال هي لغة أممية.
في البداية كانت قصائده الوطنية غنائية مباشرة، تحكي التحدي لمحاولة طمس الهوية الوطنية، وتتغزل بقدرة الإنسان اللامحدودة على مقاومة محاولات إذلاله وقتل كبريائه الانساني.
ثم خرج الطائر من القفص، وحلق في فضاء شعري أكثر رحابة فتغيرت بالضرورة أدواته الشعرية ولغته، وأصبح حسه للمأساة أكثر عمقا وفلسفية، كما أنه ابتعد عن ايديولوجيا وانضباط الشيوعي، فاغتنت لغته بألوان جديدة واكتسبت أدوات التعبير لديه ثراء إضافيا.
وبدأت بداياته الشعرية-الوطنية تشكل له عبئا ومأزقا، فجمهوره ما زال يريده في أمسياته أن يغني “سجل أنا عربي”، وهو تجاوز هذه المرحلة شعريا وموضوعيا، فكان لا يخفي تبرمه من ذلك.
فهو وان كان بقي “عاشقا من فلسطين” حتى الرمق الأخير، إلا أن عشقه اكتسب معاني جديدة، وخريطة وطنه التي بقي يحاول رسم خطوطها طوال حياته وسعت مستلبي الوطن والهوية والحق في شمس وظل وسماء في أرجاء العالم الذي احتفى بأشعاره وغنى حبه وجراحه وحشرجات ألمه بلغاته المختلفة.
الحب الأرض والحب المرأّة

هل من حق شاعر فلسطيني أن يحب امرأة؟ أم أن قدره أن لا يقبٍَِل إلا تراب الارض وأن لا يتغزل الا بأشجار البرتقال؟
محمود درويش رفض هذا الاستلاب الذي ارتضاه الكثيرون تحت سياط الشعور بالذنب الذي لازم الفلسطيني في السنوات الستين الأخيرة، وحرمه التعبير عن الفرح والاحتفاء بالحياة والجمال حتى لا يتهم “بالرقص على الجراح”.
المرأة في أشعار محمود درويش هي امرأة من لحم ودم ومشاعر، تنتظر من عاشقها همسات رومانسية لا خطبا حماسية، وسوناتات رقيقة لا مارشات ثورية، ووعدا بأطفال يملأون البيت ضجيجا وحياة لا “مشاريع شهداء”.
ولكن هل كان محمود درويش يسترق الحب ويغافل الوعي الجماعي ليغازل امرأة؟ هل كان يحس أن عليه الاعتذار بسبب تجرؤه على “مسلمات الوطن” ؟ في إحدى أمسياته الشعرية الأخيرة في رام الله التي حضرها الرئيس محمود عباس توجه اليه في شبه اعتذار مازح قبل أن يبدأ في قراءة قصائد حب.
حوار وجودي مع الموت
في قصائده الأخيرة بدا محمود درويش أكثر جنوحا الى الفلسفة، وبدأ يتناول قضايا الوجود والعدم.
كان مرور السنين ونضوج الرؤيا الفلسفية يعني مناجاة الهم الكوني والهاجس الدائم في كل كائن بشري: هاجس الموت والتلاشي، نهاية الكينونة ومقتل الجدوى، انطفاء الفكرة والإحساس والتمرد والفرح وكل حوافز الشعر والكتابة والحياة.
في أواخر قصائده بدا وكأن محمود درويش يحاور الموت ويناغيه، يجادله حينا ويعاتبه ويستحضره في أحيان أخرى.
يحاول أن يسبر كنه الحياة ومعنى انطفائها وجدوى ما بينهما، ولا يكل عن طرح الأسئلة، فهل وجد إجابة ؟
ولكن هل كان الشعر يوما معنيا بإجابة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى