الهمجية في تاريخ المنطقة والعالم
جورج كتن
خاص – صفحات سورية –
2006 / 8 / 28
محاكمة صدام حسين ورموز نظامه الجارية حالياً لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية في حملة الأنفال ضد الشعب الكردي في العراق, مناسبة للتأمل في مدى الهمجية التي رافقت التاريخ البشري, الحافل بمجازر ارتكبتها جماعات بشرية ضد أخرى مخالفة في الدين أو الطائفة أو العرق أو الطبقة أو الفكر أو السياسة..
فإذا كان الاختلاف والتعدد سمة إنسانية منذ العهود البشرية الأولى, فاستئصال الآخر المختلف كانت دائماً أحد الوسائل الوحشية للتعامل بين الجماعات والشعوب, منها على سبيل المثال لا الحصر في تاريخ المنطقة العربية: مجازر ضد اليهود في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع, إبادة الحكم الأموي لأهل البيت وأنصارهم, مجازر العباسيين ضد الأمويين، الإبادة الجماعية التي رافقت الحروب الصليبية والغزو المغولي… وهي غيض من فيض همجية البشر في أرجاء العالم: إبادة السكان الأصليين في أميركا وأستراليا, مجازر للأفارقة أثناء استرقاقهم, المجازر ضد البروتستانت في أوروبا, مجازر الثورة الفرنسية ضد خصومها الطبقيين والسياسيين…
ولكون التقدم لا يقاس فقط في المجال العلمي والصناعي ومستوى المعيشة, بل بالدرجة الأولى في مدى انتشار المفاهيم الإنسانية في العلاقات البشرية, فقد استمرت المجازر في التاريخ الحديث, فأبدعت الستالينية والفاشية والنازية والفرانكوية والطورانية والبنلادنية طرقاً ووسائل لإبادة المختلفين: المجزرة الأرمنية في تركيا, المحرقة لليهود وشعوب أوروبية تطبيقاً لأسطورة تفوق الجنس الآري, المجازر الاستعمارية كمجزرة صطيف الجزائرية, المجازر الصهيونية في فلسطين, مجازر سوهارتو للشيوعيين الاندونيسيين, مجازر الخمير الحمر في كمبوديا, مجازر التوتسي والهوتو في راوندا, مجزرة صبرا وشاتيلا, غزوة مانهاتن… وغيرها كثير.
المولد الدائم للإبادة الجماعية هو التمييز العنصري والشوفينية والاستبداد والتطرف الديني والقومي والسياسي, وهي ممارسات لا زالت متفشية في منطقتنا ومعظم بلدان العالم المتخلف, فليس غريباً أن يتحول النظام العراقي الشمولي القومي الشوفيني إلى نظام دموي لا يكترث بالحياة الإنسانية في حروبه ضد الجوار وضد شعبه، مستخدماً كافة الوسائل لاستئصال الآخر: الاغتيالات في الداخل والخارج, قوانين لإعدام المنتمين لأحزاب معارضة, القضاء على المقومات المعيشية للمخالفين كتدمير القرى الكردية والبيئة الطبيعية في الأهوار, الصهر والدمج القسري وتغيير الهوية القومية أو السياسية – التعريب والتبعيث-, الترحيل والتهجير والإبادة..
نظام صدام حسين لم يكن فريداً من نوعه, فقد سبقه الحكم الملكي العراقي الذي ارتكب مجازر بحق الآشوريين عام 1933, ثم الحكم الجمهوري –قاسم- الذي شهد مجازر ضد الملكيين والقوميين, فسحل الشيوعيون في عهده مخالفيهم, بينما البعثيين بعد انقلاب شباط 1963 أطلقوا حرسهم القومي للقيام بمذابح للشيوعيين قدر ضحاياها بسبعة آلاف, كما قاموا بتمارين مهدت لحملة الأنفال منها مجزرة ل500 بعثي من أرفع المناصب الحزبية والرسمية بتهمة التآمر مع البعث السوري، حيث أمر البعثيون الموالون بتنفيذ الإعدام بالبعثيين “المتآمرين”, كما أشرك صدام نجليه ليعودهم على القتل وكانت أعمارهم حينها 15 و13 عاماً.
كما سبق الأنفال حملة استئصال الشيوعيين عام 1978 المتحالفين حينها مع النظام فجرت عمليات تعذيب بشعة وإعدامات واسعة مع رمي الجثث أمام بيوت الأهل, ومنعهم من الحزن على أقاربهم وإجبارهم على توقيع عرائض للتبرؤ منهم ووصمهم بالخيانة وباستحقاقهم للإعدام. أما الشيعة في الجنوب فمنعوا من إقامة شعائرهم الدينية, ففي موكب من 30 ألفاً عام1977 متوجه لكربلاء في أربعين الإمام الحسين قام لواء مدرع معزز بالمروحيات بمهاجمته لترديده هتافات ضد البعث!, فقتل كثيرون واعتقل واعدم آخرون وفر البقية, وألقي مئات آلاف الشيعة على الحدود بحجة أصولهم الإيرانية بعد مصادرة أموالهم. أما انتفاضة الجنوب عام 1991 فرد عليها النظام بالدبابات والمدفعية والإعدامات في الشوارع, وانتهت بمئات آلاف القتلى.
ولم يكن جيران النظام العراقي أفضل منه فإيران تسوم الاضطهاد والتمييز القومي والطائفي لنصف سكانها من أذريين وكرد وعرب وبلوش وتركمان, لا فرق بين عهد الشاه أو العهد الإسلامي, والأخير لم يتورع عن استعمال “الموجة البشرية” في الحرب مع العراق حيث دفع آلاف الشبان لتطهير حقول الألغام بأجسادهم كطقوس لإرسال الناس إلى الجنة!. وحتى الضحايا شاركوا في المجازر, فإثر انتفاضة 1991 قام الشيعة والكرد رداً على عذاباتهم الطويلة بإعدام كل من وقع في أيديهم من بعثيين وموظفين يعملون في مدن الجنوب والشمال.
حتى بعد سقوط النظام الصدامي فإن ذلك لم يعن نهاية تصفية الآخر المختلف, الذي يمارسه حالياً الإرهاب السلفي الذي يسميه البعض “مقاومة” بعد إعلانه عن الشيعة “كروافض” لا تعامل معهم إلا بالسيف حسب الأيديولوجيا المغرقة في التخلف, كما أن ميليشيات الأمر الواقع المسلحة في الطرف الآخر التي تشارك قياداتها في الحكم لم تتورع عن المساهمة في قتل السنة وتهجيرهم.
ما أردنا أن نقوله رغم عدم تعرضنا للجرائم المروعة المرتكبة بحق الأكراد في حملة الأنفال وحلبجة وغيرها, أن المشكلة ليست فقط في النظام العراقي الذي يحاكم رموزه على جرائمهم, ولكن في المفاهيم والذهنية القروسطية المنتشرة في المجتمع العراقي ومجتمعات المنطقة وهي الأخطر لاعتبارها الآخر أقل شأناً مما يبيح تصفيته, مع تغييب جوهر النهج الإنساني في التعامل بين البشر, احترام الآخر وحقه في الاختلاف كأهم حق إنساني, فعوامل التمييز موجودة في التراث ومنها كمثال أن العرب خير أمة أخرجت للناس, وأن العالم مقسم لفسطاطي الإيمان والكفر والجهاد واجب لتصفية من لا يلتحق بدار الإيمان…
أما على المستوى العالمي فلم يقف البشر عاجزين أمام المجازر الدورية فقد أثارت بربريتها الضمير الإنساني, وتنادوا لبناء عالم يعترف بالآخر وبحريته, دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي أو الثروة.. ودون ذلك في مواثيق واتفاقات وعهود أهمها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”, وقد عرفت اتفاقية عام 1948 الإبادة الجماعية ب: ” محاولة القضاء كلياً أو جزئياً على جماعات قومية أو أثنية أو عرقية أو دينية أو سياسية بسبب هويتها هذه”, وألحقت بقرارات لا تعترف بتقادم الجرائم ضد الإنسانية وتلزم جميع الدول بتعقب وتسليم المتهمين بها, وأقيمت محاكم دولية لمقاضاتهم منها محاكم نورمبرغ لأقطاب النازية ومحاكم مرتكبي التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة.
إلا أن ذلك حتى الآن لم يتجاوز في معظم الأحيان إعلان المبادئ العامة والمحاسبة بعد حدوث المجازر, ولم تطور بعد بشكل كاف الوسائل لمنع ارتكابها قبل وقوعها, وهو ما يفترض بالمؤسسات الدولية إصدار قوانين تفرض عقوبات رادعة للداعين للتمييز بين البشر, وإنشاء منظمات تدير قوى وتملك إمكانيات ومخولة بالتحرك لأي مكان بالعالم والتدخل لمنع أية ارتكابات متوقعة, أو على الأقل وقفها قبل استفحالها.
ويمكن إنشاء مراكز دولية لتوثيق الوقائع والشهادات وحفظ الأدلة حول الجرائم ضد الإنسانية في العالم, والمساعدة في البحث عن المقابر الجماعية وإقامة مدافن لائقة بالضحايا, وتمويل التعويضات لذويهم, ومساعدة وتشجيع الحكومات والمنظمات المدنية الساعية لمحاسبة مرتكبي الجرائم بتقديم وثائق ومعلومات وخبرات وأدوات تسهل الملاحقة القضائية وإجراءات المحاكم, وتكوين رأي عام دولي ضد تكرار حدوثها بنشر ثقافة قبول الآخر وحوار الحضارات والأديان ونبذ العنف وحل الخلافات بالطرق السلمية, وبناء نصب تذكارية ومتاحف كشواهد على الهمجية في مراحل التاريخ المختلفة.