جورج كتن

حراس الثوابت والعدمية الفلسطينية المتجددة

جورج كتن

خاص – صفحات سورية –

 2006 / 9 / 19

هناك دائماً في السياسة من يفضل التمسك بالوقائع والنصوص القديمة, رغم أن جديد كل يوم يجب أخذه بعين الاعتبار لتحديد الأهداف والسياسات.

فاليساريون يعودون لنصوص من القرن التاسع عشر.. والقوميون إلى عبد الناصر ووحدة مصر وسوريا.. والإسلاميون لتراث فقهاء القرون الوسطى.. كذلك نخب فلسطينية, تتجاهل المتغيرات العالمية والإقليمية الجديدة وتتمسك بثوابت راكدة, ظلت سائدة منذ بدايات القرن الماضي حتى تسعينياته, لتتراجع بعد قبول أغلبية الحركة الوطنية الفلسطينية بحل الدولتين وقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967.

رغم عقلانية وواقعية التوجه للتفاوض لتحقيق هذه الأهداف بعد متغيرات عاصفة, جدد حراس الثوابت تمسكهم “بفلسطين التاريخية من البحر إلى النهر” وبخيار “الكفاح المسلح” كوسيلة وحيدة، لم تثبت نجاعتها في حروب عربية وحرب شعبية فلسطينية طويلة الأمد.

ورغم 13 سنة حفلت بوقائع جديدة محلية وإقليمية ودولية منذ توقيع اتفاقية أوسلو, فإن ذلك لم يزحزح نخب الثوابت الجامدة, بل تشجعت بانضمام فصائل الصحوة الإسلامية إليها التي كانت نائمة خلال عقود “الثورة” و”الكفاح المسلح”, واستيقظت من سباتها واستغراقها في العمل الخيري, لتباشر عملها السياسي في الانتفاضة الأولى, وعملياتها المسلحة -الانتحارية خاصة- إثر قيام السلطة الفلسطينية, متجاهلة فشل من سبقها في الوصول لحلول عن طريق العنف, مستفيدة من فرصة الانتفاضة الثانية السلمية المنطلقة إثر تعثر مفاوضات الحل النهائي, لتعسكرها بالتعاون مع فصائل أخرى, مع إضافة ثوب جديد لثابت قديم ليصبح : “فلسطين بأكملها وقف إسلامي“!

عودة حراس الثوابت للعنف المسلح مكن من صعود اليمين الإسرائيلي الشاروني إلى السلطة, والتقى الطرفان كل من موقعه في تقويض اتفاقية أوسلو ونسف الحل السلمي, إلا أن حماس وتوابعها رأت الانتقال من رفض أية انتخابات لأنها تجري في “ظل الاحتلال”, إلى تكتيك جديد يخدم استئصال بقايا الاتفاقية, بالمشاركة في الانتخابات.

نجاح حماس في الانتخابات ليس انتصاراً لبرنامج العنف المسلح كما روج حراس الثوابت, فقد سبقه نجاح الرئيس عباس ببرنامجه الواضح لنبذ العنف وحصر السلاح في السلطة والعودة للمفاوضات, كما تلا تشكيل الحكومة الحماسية استطلاعات رأي بغالبية لصالح الحلول السلمية بعد اتضاح فشل الحكومة الجديدة في سياستها الخارجية والداخلية وفي تأمين رواتب موظفيها, وخشيتها من خوض استفتاء حول برنامج الميثاق الوطني- وثيقة الأسرى- المعتدل.

رفض الاستقالة بعد الفشل منافي للمنطق, لاستناد السلطة لدعامتين لا تقوم دونهما, كان الرئيس عرفات قد أقر بهما أمام المجتمع الدولي: نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل. فأمام الحكومة الحماسية أحد خيارين: إما التمسك بسلطة أوسلو والوفاء بتبعاتها, أو التمسك ب”فلسطين وقف إسلامي” والتخلي عن الكرسي, لذلك نجد نخب “أكثر ثورية!” من حماس تطالب لتأبيد “المقاومة المسلحة” بسحب الاعتراف بإسرائيل و”إعادة أعباء الاحتلال إليها” وحل السلطة, فاستمرارها برأيهم “عقبة أمام تطوير العمل المسلح”, وبما أن المقاومة لا تتشرعن دون احتلال, فهي تطالب بعودة احتلال ما قبل أوسلو!!.

حراس الثوابت المقدسة يرفضون السلطات والمجتمعات مدنية.., فالسلطة “أداة لخدمة الاحتلال”, والمنظمات غير الحكومية “مشبوهة وتطبيعية” لاعتمادها حسب زعمهم على التمويل الأجنبي, مع تجاهل 150 ألف موظف يتلقون رواتبهم من المعونات “الأجنبية”, ويفضلون ساحات ومسلحين منفلتين ومجتمع مقاوم.., ونموذجهم المفضل المقاومة اللبنانية التي, لتستمر في “العمل المقاوم” بعد الانسحاب الإسرائيلي إلى الحدود الدولية عام 2000, نفذت عمليات وراء الخط الأزرق استجلبت الاحتلال من جديد ليشرعن احتفاظها بالسلاح وتشكيلها لدولة ضمن الدولة, لتحارب أو تسالم متى تشاء متجاهلة سيادة الدولة والحكومة المنتخبة, وغير مبالية بنتائج مغامراتها من خسائر فادحة بشرية ومادية.

إن ما هو متماثل بين الحالتين اللبنانية والفلسطينية رغم الاختلاف الكبير, هو عبثية إضعاف أو إلغاء الدولة لصالح ثبات العمل المسلح رغم انتفاء ضرورته في لبنان بعد الانسحاب, وفشله في فلسطين في ظروف سابقة كانت أفضل بكثير من حيث الدور المساعد العربي والدولي. إن الاقتناع بالانتصار لرفع المعنويات وإرضاء الذات شيء, والاقتناع بأنه حقيقي لبناء سياسات مغامرة عليه شيء آخر. أما أخذ العبر من النجاح الموهوم ل”مقاومة عراقية” تذبح يومياً ما لا يقل عن 50 من مواطنيها فهو أقصر الطرق لإلصاق تهمة الإرهاب بالعنف المسلح الفلسطيني.

الانسحاب من غزة بدل أن يكون نقطة انطلاق لتحقيق الأمن والاستقرار والتوجه للتنمية وإعادة الإعمار, ليصبح القطاع نموذجاً لدولة فلسطينية قادمة مسالمة ومزدهرة, فإن استمرار العمل المسلح وإطلاق “مواسير القسام”, أدى للمزيد من الفوضى والفلتان الأمني العشوائي, فكل من لديه سلاح “مقاوم” يستطيع قتل أو خطف أو سلب من يشاء. وأفضل نموذج للفلتان الممزوج بالأسلمة هو ما حصل مؤخراً في نابلس وغزة وطولكرم وجنين.., من تعرض غوغاء “المقاومة” للكنائس التي سلمت قرون طويلة لتحرق في عهد الحكومة الحماسية العتيدة. هل هذه صدفة؟.

قطاع غزة الآن نموذج لما يريده العدميون الفلسطينيون: سجن كبير وغابة إجرام, البندقية فيه هي الحكم، بحكومة عاجزة وحروب عائلية وعشائرية وصراعات على السلطة ومظاهرات مسلحة, وظروف حياتية متدهورة ونقص في الأغذية والطاقة والخدمات وانعدام الرواتب, ومستقبل مظلم تحت شعار: “مقاومة من أجل المقاومة“.

لقد شكك الفلسطينيون حتى الآن بقدرتهم على حكم أنفسهم والسيطرة على أراضيهم, مما جعل البعض نتيجة يأسهم يظنون بأن الحل في عودة الاحتلال, أو استقدام قوات دولية “يونيفيل فلسطينية” تمنع تواجد السلاح إلا في يد السلطة الشرعية المنضبطة.

الضوء الوحيد الذي يبعث على القليل من الأمل, مشروع حكومة وحدة وطنية تعترف بالاتفاقيات السابقة, وتنهي العنف بكافة أشكاله وتجمع السلاح وتعيد تشغيل دوائرها, وتستأنف العلاقات والاتصالات الخارجية التي خربتها الحكومة الحالية, وتعود إلى طاولة المفاوضات..

المهم وقف التدمير الذاتي العبثي وتضييع الفرص العدمي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى