من حروب المعنى إلى حوار الدلالات نظرات في محاكمة معتقلي “إعلان دمشق”
فراس النجار
(لا شيء موجود. فإن وجد فهو ليس قابلاً للمعرفة. وإن حدث أن كان قابلاً لها فإنها، أي معرفته، غير قابلة للنقل إلى الغير).
تلك كانت كلمات غورجياس اليوناني من القرن الخامس قبل الميلاد، يلخص بها ظاهرة السفسطة التي سرت في المجتمع اليوناني على خلفية بلوغه أوج تطوره واستفحال أزمته. ويختزل سفسطائي آخر، هو بروتاغوراس، الطرح المعرفي للسفسطة بقوله: (الانسان مقياس كل شيء)؛ وكانت عبارته ستبدو عادية تقليدية لا جديد فيها لولا أنه قصد بالانسان غير ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة.
لم يقصد بروتاغوراس المفهوم الكلي للإنسان كنوع، ماهية، جوهر… ولا يمكن أن يقصد ذلك وقد انتهت رحلة الشك لدى السفسطائيين إلى إنكار أي وجود موضوعي مستقل للكليات المجردة خارج الذهن الذي يشكلها بالاعتماد على المادة المعرفية الخام التي تقدمها الحواس من خلال ملاحظة المفردات المتجسدة. وهو ما سوف يثيره الإسميون في نهاية العصور الوسطى في أوروبا الغربية، وما سيعرض له الوجوديون في العصور الحديثة.
ما يعنيه ذاك الطرح الابستيمولوجي (الخاص بالسفسطائيين) هو قابلية أي موضوع لأن يُحمل على محمول وعلى آخر مناقض له في آن واحد. فحكم زيد من الناس على ظاهرة ما بكونها سلبية هو صحيح كحكم عمرو بايجابيتها!!
وبرغم ما ينتج عن ذلك معرفياً من تعطل المعرفة وحتى انتفاء الوجود، فانه من غير الخفي ما يتضمنه من مشكلة الوعي مع المعنى بين الاحادية والتعددية.
لا يمكن تصور خلاف أو حرب أو قضية أو حتى مجرد جدل بسيط لا يضمر معاني متناقضة يسعى أصحابها لإثبات شرعيتها ضد الأخرى المناقضة. فمن النادر إن لم يكن من المستحيل أن يتمسك شخص، أو فئة أو طبقة، بموقف دون أن يكون لديه مسوغات تسبغ عليه شرعية مقنعة، له على الأقل. اذ لو اعتقد هتلر بأن ما سيفعله طيلة سنوات حكمه هو جرائم ضد الإنسانية لامتنع، لكنه كان مقتنعاً بأنه عراب الحقيقة ـ نبي دين النقاء الآري. ولو شك صدام للحظة في شرعيته كفارس للقومية العربية وانتابه شعور بطغيانه لما شاهد الملايين خطواته الواثقة وجلده شبه الأسطوري في مواجهة المشنقة…
إنها قضية المعنى. قضية الانسان منذ البدايات. ولم يستغرق شيء بل يستهلكه كما فعل المعنى. في الجلسة الأولى من محاكمة المعتقلين من أعضاء اعلان دمشق التي تمت في 30/7/2008، بدا اصطفاف المعاني تعبوياً تصادمياً برغم الاستتار خلف الاطار القانوني والصيغة القضائية. طيلة السنوات الماضية لم توفر السلطة جهداً من خلال أجهزتها وآلتها الاعلامية الهائلة لوصم إعلان دمشق. وكل معارضة أخرى، بمعنى هو النقيض المضاد المدنس في مواجهة معناها المقدس. بلغ هذا الجهد ذروته في قاعة المحكمة حين ترجم القاضي ذلك إلى تهم جنائية وجنحية وُجهت إلى الأعضاء المعتقلين الاثني عشر.
جناية ـ النيل من هيبة الدولة ومن الشعورالقومي ـ التي تتناولها المواد من 285 وحتى 288 من قانون العقوبات السوري، جناية ـ تشكيل جمعية سرية غير قانونية بقصد تغيير كيان الدولة \ المادة 306 من ق ع س، جنحة اثارة النعرات العنصرية والمذهبية بالكتابة\ المادتين 307 و308 من قانون العقوبات السوري.
كان ذلك التوصيف المعزز بنصوص القانون الجزائي هو الهجوم بالمعنى المضاد الذي شنه شكل من أشكال القومية هو السلطة، ضد شكل من أشكال الوطنية هو إعلان دمشق.
جاء الدفاع في شكل دفع ذلك المعنى الذي سيجعل من ماهية المعتقلين الاثني عشر، وسائر أعضاء ومؤيدي إعلان دمشق وأي معارضة حقيقية، اجراماً مطعماً بظلال من العمالة والخيانة.
وبرغم اختلاف الدفوع بالنسبة لبعض الجزئيات والتفاصيل فان الخط العام كان واحداً ينكر التهم جملة وتفصيلاً. لقد جاءت بعض الدفوع بارعة في تفكيك المعنى السلبي الذي تريد السلطة تثبيته على معارضيها. لعل من أبرزها دفاع رياض سيف الذي أطل على الجميع بثقة وطلاقة لافتتين ينبه إلى ان نظرة سريعة، على أسماء اعضاء إعلان دمشق المتنوع المتعدد بانتماءاتهم بشكل يكاد أن يكون انعكاساً دقيقاً للمجتمع السوري بكل أطيافه وتنوعه، تكفي لدحض تهمة إثارة النعرات (وهو المعنى المضاد). ويتابع سيف دفاعه بدحض تهمة النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي باستحضار وقائع الاجتماع الموسع لأعضاء الإعلان، الذي انعقد في تاريخ 1/12/2007، والذي تمت حملة الاعتقالات ثم جاءت المحاكمة على خلفيته. حيث يطرح في هذه النقطة الخلفية الفكرية والممارسة للاعلان مبيناً ان الديموقراطية هي مطلب جميع الأعضاء لأنها تحصين للوطن، الذي يستطيع من خلالها فتح آفاق للتطور والتقدم كما فعلت دول أوروبا الشرقية، كما أن هذه الديموقراطية المطلوبة سلمية تشق طريقها، من خلال الحوار في اطار التعددية، نحو استعادة سوريا لمكانتها اللائقة بين الأمم وهو ما ينفي مجرد نية النيل من الهيبة والشعور القومي. أما بصدد تهمة تشكيل جمعية سرية غير قانونية بقصد تغيير كيان الدولة، يؤكد سيف على كون اجتماع 1/12 الموسع لقاء بين مثقفين سوريين لمناقشة هموم الوطن. وقضايا الحرية والديموقراطية والاصلاح وحقوق الانسان في سوريا، ولم يصدر عن أي من المجتمعين اية اشارة صريحة أو ضمنية الى قلب نظام الحكم أو حمل السلاح، بل كان التشديد على الحوار السلمي والهادئ. والأهم ان البيان الختامي لذلك الاجتماع قد تم نشره بالاتفاق بين المجتمعين في وسائل الاعلام المتاحة فلا مجال للادعاء بالسرية. اما قضية الأكراد فقد نوقشت في اطار حقوق المواطنين السوريين ومنهم الأكراد الذين لهم حقوق على دولتهم يتوجب احترامها في اطار المواطنة ووحدة الوطن السوري وسلامة أراضيه.
ويُلاحظ ان طلال ابو دان قد استعار في دفاعه من خطاب السلطة وجابه هجومها التشويهي بمنطقها نفسه مبيناً ان محاربة الفساد والسير على طريق التغيير الديموقراطي السلمي ضرورة لا بد منها لتمكين سوريا من الوقوف في وجه العدو الاسرائيلي المدعوم من أميركا…
هكذا تبدو صورة المعركة بين معنيين ومنطقين ورؤيتين. في طرف من الجهة تقف السلطة التي ينكمش مجال المعنى لديها الى مثنوية استئصالية تتضمن احادية سامية عليا (هي الصمود، التصدي، المقاومة الممانعة..) لا يقابلها سوى الآخر الهابط المشبوه (هو الخائن ، العميل، المشبوه، الاجرامي..) على نحو يذكر بالطرح الأنوطولوجي المجوسي القديم. ويقوم خطابها على شرعية النص الشعاراتي والممارسة السياسية السلفية، لكنها، أي السلطة، تمتلك كافة امكانيات وقدرات الدولة من مؤسسات ومراكز قوى سياسية ومالية واعلامية، وحتى القانون والقضاء لا يبدوان سوى سلاحين من أسلحة السلطة كثيرة وظفتهما في جهود التشويه بتثبيت المعنى الاخر الدوني على الآخر المعارض، ولعل في حشر معتقلي الاعلان الاثني عشر داخل القفص مع المجرمين الجنائيين، سواء بسواء، دلالة بالغة!
في الطرف الأخر يقف معتقلو اعلان دمشق بخطاب يحتسب ضمن انساقه الواقع كعامل متغير مؤثر ومجال المعنى لديهم واسع للتعدد والتباين في اطار الحوار بعيداً عن الاقصاء لكن بامكانيات لا تتعدى قوة الفكرة والثقة والمعنويات العالية التي دفعت القاضي في جلسة 30/7 الى التوقف عن املائه على الكاتب ليسأل احدهم ـ محمد الحجي درويش ـ عن سبب ابتسامته العريضة!
أمام تباين اشكال الخطاب وتضارب المعاني بين المثنوية والتعددية يحق للمرء ان يتساءل عن كيفية تقييم المعاني، وعن نتائج التعددية التي تقر للآخر المخالف بمعنى يستمد شرعيته من مجرد وجوده، وبجملة استفهامية دقيقة، هل تنتهي التعددية بنا حتماً الى السفسطائية او الاعتقاد بفكرتين او أكثر رغم التضاد بينها كمذهب ثنائية الحقيقة (الدينية، الدنيوية) الذي راج في اوروبا الغربية في أواخر العصور الوسطى بين الرشديين اللاتين أمثال سيجر دي برايان الذي دفع حياته ثمناً لايمانه به؟!!
الاجابة ضمن ذلك السياق المعرفي هي ضرب من مراودة المستحيل. اذ ان اقحام الفكر في سبل الحقائق هو شكل من أشكال العودة الى الميتافيزيقيا.
لعل ما سبق كان من أبرز العوامل التي حادت بالفكر الحديث عن فكرة المعنى الى فكرة الدلالات.
من أبرز ملامح الفكر الحديث النسبية التي امتدت من مناهج العلوم الطبيعية الى مناهج العلوم الانسانية، وبصرف النظر عن الهوة بين اليقين واللايقين التي تجلت بقوة في الخلاف الشهير (بين آينشتاين وبوهر) الذي طبع الفكر والثقافة الحديثين منذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، فإنها (اي النسبية) تقضي بتوجيه الفكر بعيداَ عن سؤال الحقيقة والباطل، الصواب والخطأ… المستند الى عقلية الثوابت، نحو الملائمة والمناسبة في المحيط الزملكاني المتغير. فما هو مناسب الآن لن يكون كذلك في المستقبل كما لم يكن مناسباً في الماضي. والمناسب في لحظة ما ليس هو الوحيد بهذه الصفة. هي قضية منهج من الوجهة المعرفية، لكنها قضية الحداثة والاستمرار الحضاري من الوجهة الفكرية. بهذا يتجاوز الفكر الحديث حروب المعاني الى حوار الدلالات. وبالنسبة لنا (شعوب العالم الثالث) يمتد الطريق من الأولى الى الثانية طويلاً كما هو بين العصور الوسطى والحديثة.
حرب المعنى في قضية معتقلي اعلان دمشق في بدايتها، وآليات انتاج المعنى ليست عملية ذهنية تجريدية بالكامل بل يدخل فيها الممارساتي والظرفي الداخلي والخارجي، وهو ما سيكتشف في الجلسات القادمة بالتوازي مع تعاظم ضرورة الاصلاح والتغيير في سوريا الى درجة مصيرية!
(*) كاتب سوري
المستقبل