أحزمة الفقر في سورية : حي تشرين نموذجا
محمد ديبو
منذ أحكمت السلطة قبضتها على كل مقدرات الدولة ومساحات المجتمع المدني , أصيب النسيج الاجتماعي السوري بتغيرات جذرية, بدأت إرهاصاتها بالظهور مع بداية سبعينيات القرن الماضي حيث بدأت الطبقة الوسطى بالتشظي والتذرر باتجاه أدنى يزداد فقراً وتهميشاً, وأعلى يزداد غنى وفحشاً, الأمر الذي دفع باتجاه هجرة متزايدة من الأرياف باتجاه محيط المدن, ومع مرور الزمن وتتالي الهجرة، وتعاظم الإفقار الممنهج, شكّل المهاجرون مجتمعاتهم الخاصة بهم، وأحياءهم التي شكلت حزام فقر يحاصر أغلب المدن السورية, وأكثر ما يظهر هذا الموضوع للعيان في العاصمة السورية المحاصرة من كل أطرافها بأحياء شعبية تغزوها ملامح الفقر, وتسكن الفاقة وجوه ساكنيها مثل حي الورود، وحي الشهداء، وحي تشرين، الذي سيكون (موضوع تحقيقنا) وعش الورور وغيرها, عدا عن الأحياء التي نمت وسط المدينة كفطور سامة مثل حي البوابة، وحي بستان بدور, عدا عن المخيمات الفلسطينية (اليرموك وفلسطين).
الأرض التي بنيت عليها هذه الأحياء, يعود أغلبها للدولة, ولكن سماسرة السلطات باعتها عبر طرق ملتوية وسمحت للسكان بالبناء عليها عبر علاقات متشعبة ينسجها أبناء الفساد فيما بينهم بدءاً من البلدية حتى المحافظة. من هذه الأحياء التي سنسلط عليها الضوء هنا هو حي تشرين الذي يقع في الطرف الشمالي الشرقي للعاصمة السورية. بلاد أخرى ما إن تنحرف عن الطريق العام المؤدي إلى مشفى تشرين العسكري حتى تشعر كأنك دخلت في نفق ما أو بلاد من طبيعة أخرى: شارع ضيق ورصيف أضيق ما يلبث أن يتفرع أمامك شارعان أحدهما أهدأ من الآخر, يمتد على طول جانبه الأيمن سور عال تابع لمنشآت عسكرية، وعلى جانبه الأيسر بيوت متراصة فوق بعضها البعض بطريقة عجيبة, والشارع الآخر هو الرئيسي: مزدحم بطريقة مرعبة, حيث السيارات تتداخل مع بعضها البعض في الاتجاهين، وغالباً ما يتوقف السير نتيجة وجود سائق يغيّر اتجاهه وسط الشارع, أطفال يعبرون بين السيارات, نسوة تتبضع على أرصفة تملؤها عربات تحمل بضائع رخيصة الثمن, وجوه يملأها السأم والخواء, صبايا تتبرج بطريقة تمتزج فيها الإثارة بالقرف, وتوحدهم معالم الفقر المرتسمة على الوجوه كعلامة فارقة. يفصل بين الشارعين أحياء بنيت بطريقة عشوائية وغير آمنة, لأن أغلبها بُني خلال يومين (من مساء الخميس حتى مساء السبت) على اعتبار أنهما يوما عطلة وتكون الدوائر الحكومية المسؤولة مغلقة, ولكن ذلك لا يمنع أن تهدم بعض البيوت نتيجة وشاية, وخاصة إذا لم يكن لصاحبها صلة بطريقة ما (رشوة- معرفة شخصية هامة) مع أصحاب النفوذ, وهنا يقول المواطن سليم: إنه بنى غرفة على سطح منزله, ولكن جاء عمال البلدية وهدموها في اليوم الثاني, بينما لم يهدموا لجاره الذي بنى بيتا كاملاً, لأن الجار (يده طايلة). هناك في الحي سماسرة معروفون كما في كل أحياء المخالفات المنتشرة بكثافة في ضواحي المدن السورية لمن يريد أن يبني منزلاً ولكل منطقة تعرفة خاصة بها, وأحياناً يتولى الأمر متعهد البناء, حيث يقوم المتعهد نتيجة معارفه بالدفع لموظفي البلدية، وموظفي المحافظة، وبعض رجال النفوذ الأمني, وبعد ذلك يقوم بالبناء، ثمّ يأتي عمال البلدية ويهدمون جزءاً من المنزل بعد الاتفاق مع المتعهد الذي يقوم بالترميم فيما بعد, وهذه العملية تتم من أجل حماية شرطة البلدية على أساس أنهم قاموا بواجبهم وهدموا البناء. أغلب المنازل في حي تشرين لا تدخلها الشمس, غير صحية, مؤلفة من غرف ضيقة سيئة التهوية (حي تشرين نموذجاً لكثير من أحياء المخالفات) ضيقة على عدد أفراد الأسرة الكثيرة العدد في أغلب العائلات, وغالباً ما تضطر العائلة لتأجير بعض الغرف في المنزل من أجل تلبية احتياجاتها الكثيرة, وأكثر المستأجرين هم طلبة معاهد وجامعات وعسكريين. تقول الطالبة هيا السالم: أفضل السكن في الحي لأنه قريب من معهدي ورخيص نسبياً, رغم أنني أتعرض لمضايقات وتلطيشات في الشارع دائماً من شبان عاطلين عن العمل تراهم واقفين على مدخل كل حارة. وتقول أم حسان التي تستأجر عندها هيا: أؤجر غرفتين من منزلي وأعيش أنا وزوجي وأربعة أولاد في غرفتين فقط, وذلك من أجل أن نتمكن من دفع مصاريف الحياة التي تزداد يوماً بعد يوم، وخاصة أن زوجي غير موظف, وهو عامل حر, يوم بشغل ويوم بلا شغل. أغلب قاطني الحي من الغجر، وريف القلمون، وريف ادلب، والساحل السوري, حيث تعيش كل مجموعة تقريباً ضمن دائرة تخصها فأهل الساحل يزورون بعضهم فقط وأهل إدلب كذلك, أي أن هذه التجمعات مازالت تحافظ على قرويتها,لم تأخذ من المدينة وعلاقاتها المتشعبة أي شيء.
بل على العكس ساهمت بشكل كبير في ترييف المدينة. أكثرية سكان الحي موظفون حكوميون، وبعضهم مهربون وعمال بأجرة يومية, وعسكريون, وبائعو ترمس، وذرة، وعرقسوس، وأصحاب عربات جوالة (خضار- فواكه- إكسسوارات نسائية…) باستثناء الغجر الذين سكنوا الحي وصبغوه ببصمتهم الخاصة لدرجة أن البعض يطلق عليه اسم حي “النَّور”, ويعمل النَّور بالرقص والدعارة, ويكفي أن تقف مساء على مدخل حي تشرين لترى صبايا النَّور وهن يخرجن من الحي بتكاسي أجرة نحو فنادق ومنازل وشقق خاصة متناثرة في أحياء العاصمة السورية , هذا عدا عن بيوت الدعارة الموجودة في الحي نفسه, والتي باتت تشكل مصدر قلق لأهالي الحي الشرفاء الذين يستهجنون الأمر, وأصبحوا يخافون على بناتهم وأبنائهم من الانحراف . غالباً ما يكون منزل الدعارة مستأجراً لهذا الغرض, ولكن تسكنه عائلة ما تمويهاً للموضوع, كي لا يعرف الجيران ويشتكون للسلطات. في إحدى البيوت التي دخلتها “الحال” كان الزوج والزوجة والطفلة موجودين في المنزل وكأنك مع عائلة خاصة, ثم بعد قليل تأتي العاهرة التي تسكن غالباً في منزل قريب, وتدخل مع الزبون إحدى الغرف. وغالباً ما تكون الغرفة فارغة إلا من فراش ممدود على الأرض، وعلبة محارم، وسلة مهملات ممتلئة بمحارم مبتلة…
أغلب العاهرات تحت السن القانوني, يعملن بغير رغبتهن نزولاً عند رغبة أبائهن وأمهاتهن الذين امتهنوا هذه التجارة. لاحظنا على جسد إحدى العاهرات الصغيرات في السن (15 عاما) آثار حريق, وعندما سألناها بكت.. وصمتت.. ثم قالت: منذ سنتين عندما أجبرني أبي على النوم مع أحدهم أول مرة, رفضت وصرخت عندما حاول الزبون تعريتي, ففزع ورحل, فما كان من أبي إلا أن عراني من ثيابي وربطني على السرير ثم وضع السيخ على النار وكوى جسدي به (هنا تغص وتبكي بحرقة من يتذكر..) وبعدها صرت أفعل ما يريد خوفا منه.. جوامع لا مدارس أكثر ما يثير الاستغراب في الحي هو وجود ثلاث جوامع (جامع الهدايا، وجامع الرضوان، وجامع الإمام علي بن أبي طالب) مع الاحترام والتقدير لأهمية دور العبادة، لكن هذا لا ينفي أن يتم الاهتمام أيضاً بدور العمل والتعليم…
مع عدم وجود أي مدرسة، رغم أن عدد سكان الحي يفوق الستين ألف نسمة, الأمر الذي يشكل عبئاً إضافياً على أهالي الحي، وخاصة طلاب المرحلة الابتدائية الذين يمشون مسافة طويلة للوصول إلى مدارسهم. أما عن الوضع الصحي في الحي, يقول الصيدلي فادي يوسف: لاحظت توجه الناس (وهذا أمر لا يختص بحي تشرين فقط بل بكل المناطق الشعبية) إلى الصيدلي قبل الطبيب، وهذا يعكس الواقع المادي المتردي من جهة, ونتيجة الجهل الكامل من جهة أخرى، حيث يعتبر الاهتمام بالصحة ثانوياً عند أغلب هذه العائلات. وبالنسبة للأطباء، فإن الاختصاصين اللذين عليهما طلب، هما اختصاصا الأطفال والعيادة النسائية (التهابات مهبلية وفطرية)، والسبب في ذلك يعود برأيي الشخصي إلى عدم الوعي الصحي الذي هو السبب الرئيس في انتشار أمراض الأطفال والأمراض النسائية. حيث يتم تناقل المعلومات بصيغة خاطئة بين كم هائل من البشر بطريقة شفاهية تقليدية خاطئة. ولكن بصورة إجمالية أغلب الناس هنا لا يأتون الطبيب إلا عندما يكون المرض قد تملك من جسدهم بالكامل. قلق دائم رغم أن أهالي الحي يتمتعون بميزة لا يتمتع بها أغلب مناطق الأحياء الشعبية الأخرى، وهي مسألة أن الأرض طابو زراعي أي أن الأرض ملك لأصحابها وليس للدولة, ولكنهم لا يخفون قلقهم من أن الدولة يوماً ما ستنظم هذه المنطقة, وسيخرجون منها بعد تعويض زهيد لن يكفي لشراء غرفة واحدة, الأمر الذي يجعلهم يعيشون قلقاً واضحاً من هذه النقطة, وغيرها من النقاط، يقول حسام صافي: نعيش قلقاً دائماً من هذا الموضوع, ويزعجني السكن هنا كثيراً, وسبب سكني أن أبي بنى المنزل منذ زمن بعيد وبقينا فيه, والآن بعد أن كبرنا لا نستطيع شراء منزل خارج هذه المنطقة بسبب الغلاء الفاحش للأسعار, كما أن أعمال الدعارة شبه العلنية باتت شيئاً مؤرقاً فعلاً. يُعدُّ حي تشرين, نموذجاً واضحاً عن أحزمة الفقر التي تطوّق العاصمة السورية, ويشكل خزاناً بشرياً مفتوحاً لكل الاحتمالات, وبيئة عمل جيدة لتفريخ الإرهاب، والجريمة، والسرقة، خاصة بين أوساط الشباب العاطل عن العمل والذي تراه يملأ شوارع الحي بوقوفه الدائم متكئاً على أعمدة الكهرباء بانتظار مرور فتاة يلطش عليها أو ينشلها أو..
الوضع يحتاج معالجة سريعة, ولكن لا وجود لأي حلول على المدى القريب, لأن الوضع أصبح أكبر من قدرة الدولة العاجزة عن تأمين منازل أو حتى تعويض مشرِّف لهذه العائلات كي تترك هذه الأحياء, وتبدأ حياة جديدة, والمستثمرون لا يرغبون باستثمار تلك الأحياء بسبب الكلفة العالية لإعادة الإعمار في حال كان المستثمرون هم من سيعوض الأهالي, وهذا الأمر
المصدر:كلنا شركاء