صفحات الناس

سين في البلاد الاستعمارية

null
خطيب بدلة
صديقنا (س) الذي غادر بلدته (ع) وذهب ليقيم في إحدى الدول الاستعمارية الحقيرة حدثني في رسالة مطولة منه عن المعاملة العجيبة التي يتلقاها تلاميذ المدارس في تلك الدولة الاستعمارية
من قِبَل الأساتذة والإدارة، سواء أكانوا مواطنين أم وافدين.
يقول مثلاً: المدارس هنا كالأحلام، والتلاميذ مقدسون، والتعليم مجاني بكل معنى الكلمة، وممنوع أن يبقى أي طفل خارج المدرسة مهما كانت الأسباب، وقلما تجد صفاً يحتوي على أكثر من عشرين تلميذاً. التلاميذ غير مقيدين بلباس رسمي، والأهم من كل ذلك أنه لا الأهل ولا المدرسون يستطيعون التفوه ولو بكلمة واحدة تهين مشاعرهم، فالقانون صارم حيال هذه المسألة.
يتذكر (س) حينما أخذه أبوه إلى المدرسة وقال للمعلم: (اللحم لك يا أستاذ أفندي والعظم لنا). ويؤكد أن بعض الأساتذة كانوا لا يتقيدون بهذا المبدأ، فأحدهم ضرب أحد التلاميذ ضرباً أدى إلى كسر عظم العضد الأيمن، ومع ذلك لم يرفع الأهل دعوى ضد الأستاذ، إذ قال الأب بكل رجولة: لولا أن الأستاذ يريد مصلحة ابني لما جار عليه بالضرب. أستاذ آخر ضرب تلميذاً بالكف فخرق له غشاء طبلة الأذن.
بعد هذا التذكر يتابع رسالته فيقول:
هنا لا يستطيع الأب أن يمد يده ويضرب ولده مهما كانت الأسباب والظروف. تسألني كيف؟ أقول لك بكل بساطة إن المدارس تعلم التلاميذ الاعتداد بذواتهم، ويعلمونهم أيضاً أن القانون معهم، وأن شخصيتهم لا يجوز المساس بها، وفي كل يوم يسألوهم عما إذا تعرضوا لإهانة أو ضرب في المنزل، وإذا ما لاحظ المعلم أو المعلمة وجود علامة على جسم التلميذ أو التلميذة يسارع إلى استجوابه لمعرفة ماذا جرى له.
والتلميذ (والتلميذة التي لا يوجد من يدعو إلى استبعاد اسمها من القوائم الدراسية لأنه محرم!) لا يخاطب المعلم بصفة (أستاذ) أو (شيخ)، أو (حضرة) أو (سيدي) أو (رفيق)، بل يخاطبه باسمه الصريح المجرد من كل الألقاب، وكأنه ابن دورته في العسكرية، وكأنهما قد تناولا معاً أكثر من مئة قصعة مخلوطة بالعدس والبصل! فإذا فرضنا أن التلميذة سلمى أرادت أن تسأل المعلم باتريك سؤالاً فإنها تقول له:
– لماذا يكون مربع الوتر مساوياً لمجموع مربعي الضلعين الآخرين، باتريك؟
فيرد عليها باتريك شارحاً الجواب، مستخدما اسم سلمى الصريح، من دون ألقاب طبعاً.
ثمة شاب من أصل لبناني اسمه “جو باسيل” أخبرني أنه كان يمزح في المساء مع ابنته وعمرها عشرة أعوام، وخلال المزاح معها قرصها من خدها. في اليوم الثاني تعرضت البنية للتحقيق في المدرسة، ومع من أنها قالت لهم إن والدها كان يمازحها فقد استدعوا الأب والأم وحققوا معهما، كلا على انفراد، ليعرفوا الحقيقة، ويتأكدوا من أنها لم تتعرض لنهر أو ضرب أو عدوان…
مرة ابني محمد وهو في الصف الثامن، شاهدته معلمة الصف يعرك عينه فقامت واصطحبته إلى العيادة العينية في المدرسة، وهناك أجروا له فحوصات، ووضعوا له كمادات على عينيه. لم يكن به شيء، كان يعرك ربما بسبب النعاس. في اليوم التالي اتصلوا بي ليطمئنوا على عينه.
في مرة أخرى استدعوني إلى مدرسة ابني مروان، وهو في الصف الخامس، لأنهم اكتشفوا أن الولد يخرج من البيت إلى المدرسة بدون تناول طعام الإفطار، جلست أمامهم كما لو أنني في محكمة، المدير ويدعى المستر جورج، والآنسة كارفين، والمستشارة… نسيت اسمها، وكان ابني مروان جالساً أيضاً حول الطاولة ويشارك في النقاش، وإذ أكد لهم مروان أنه “لا يرغب بالطعام، وليس له نفس” أعتقونا، لا بل طلبوا مني أن أعرضه على طبيب حتى يستطيع أن يتناول الإفطار.
(ملاحظة: أنا وصديقي (س) الذي زودني بهذه المعلومات لا ننفي أن الدول الاستعمارية قد أهانت الشعوب الضعيفة ونهبت ثرواتها، ولكن هذا لا يمنع من أن نتعلم منها التربية، وهذه ليست سياسة، اطمئنوا).

خطيب بدلة: ( كلنا شركاء ) 7/8/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى