صفحات ثقافية

مهرجان محمد الماغوط المسرحي الثاني: شراكة في الحرية

null
انور محمد
لم أكن أتصوَّر أن يكون جمهور السلمية، أو (سَلَمْيَه) محمد الماغوط وعلي الجندي وفايز خضور وأحمد خنسا؛ بهذا العيار الفكري والمعرفي. وكأنَّ أهل سلميه ينامون على الثقافة، ويستيقظون على الثقافة. بل ويعيشونها، بصفتها المعشوقة التي فيها فردوسهم حيث يمارس العقل صلاحياته عليها.
جمهورٌ ليس كأيِّ جمهور، فقد انحاز إلى الفكر، كما انحاز إلى الجمال منذ اللحظات الأولى لأعمال المهرجان، وخاصَّةً عندما منح مسرحية (رباعية الموت) جائزة أفضل عرض مسرحي، فيما كانت لجنة التحكيم برئاسة الفنانة جيانا عيد تعطي مسرحية (المهرج) ثلاث جوائز ؛ السينوغرافيا والإخراج وأحسن عرض.
يوسف شموط يذهب للواقعة الحقيقية في إخراجه، ويفرجينا ما هو جوهري، فالمتفرِّج ليس شاهداً بل ومشاركٌ/شريكٌ في الحدث، لدرجة أنَّنا (انفعلنا). فبدت يارا بشور في دورها حاملةً رئيسة لرسالة المؤلف والمخرج معاً. فلم يعد النص المسرحي نصاً ادبياً كما شفنا في (المزبلة الفاضلة). بل سردٌ ممسرح؛صورةٌ؛حركة لضحايا معسكرات الاعتقال التي تقيمها النظم الشمولية. فانتقام الزوجة ـ يارا ـ من الطبيب المحقق ـ عامر ـ ليس تعطشاً إلى سفك الدماء، بل هو محاكمة لقاتل مجرم وإن كان يحمل شهادة علمية في الطب. فيوسف شموط استطاع أن يُعيد؛ يُقيم؛ يفرجينا على خشبة المسرح البطل القاسي والرقيق معاً »يارا بشور«، فنرى قسوة الشعر ـ يارا، على رقَّة أنوثتها وهي تنتقم كتاريخٍ من سفاحيه. يوسف شموط هنا في رباعية الموت يدافع كما قلنا في البداية عن الفكر فلا يتحوَّل الى ضحية. فبطلة مسرحيته كانت تفرجينا نشاطها الفكري، كانت تصدمنا. هي عصبية/عصَّبت، لكنَّها أرسلت موجاتٍ، هزَّاتٍ، صواعق. لتولِّد الفكر وليس الحلم. كذلك فعل خلدون قاروط وعامر مغمومة؛ إذ كانا يتحكَّمان بجسدهما وهو يترجم حالة الفكر النقدي الشعوري عندهما، حين كانا يدافعان عن الجلاد الذي في أعماقهما، والذي كان يتمشى مثل حملٍ وديع على الخشبة قبل أن تكشف يارا عن أنيابه.
رباعية الموت ليوسف شموط تريد تجبرنا على التفكير داخل الفكر، لنقبض على القوة؛ لنقبض على صورة الحياة وليس العدم في مادةٍ بصرية إنَّما من مسرح.
المهرج
في مسرحية (المهرج) لمحمد الماغوط والتي افتتح بها المهرجان، وكما هو في كلِّ نصوصه الإبداعية، إذا تحرَّكنا فلا نتحرَّك باتجاه الطعام أو الفراش. بل باتجاه الحرية، باتجاه ديمومة عقلية روحية. وأعتقد أنَّ غزوان قهوجي في إخراجه لهذه المسرحية قد ذهب إلى الماغوط، ففرجانا انفجارات جنونه عبر رجاتٍ عنيفة، مع ثلةٍ من ممثلين يغرفون من صندوق الفرجة الذي كان مثل بطل اسطوري يتحرك مع نزاعات الممثلين، فيغدو النزاع صراعاً، وهم يمثِّلون مشاهد لعجزنا حين نكاغي ونثاغي كالأغنام ونحن نذهب الى مصيرنا، كما في عطيل ومن ثمَّ في صقر قريش التي هي مشاهد مسرحية من المهرج. إذ استطاع غزوان قهوجي أن يدفع ممثليه لتقديم تعبير بصري، ـ ليس الانتقال من نمط كلامي إلى نمط بصري. بل حركة بصرية غير مباشرة؛ وعي لصورة، لمشهد مركَّب ـ وليس لشرائح بصرية. فاستطاع أن يستثيرنا. صحيح أنَّ الحوار الماغوطي ككل الحوارات المسرحية هو أحاديث متبادلة لا تنقطع، وهي حوارات ذكية، إلا أنَّ المخرج ذهب بها من العبارة الكلامية الى الفعل، فنرى بطلاً يمتلك قدرات خارقة، وبطموح ما بعده طموح ـ عطيل وصقر قريش ـ فجأةً إذا به يُهزم. أين ذهبت البطولة؟ وكيف تمَّ تدميرها؟ هذا هو ما دفع البطل أن يتحوَّل إلى مهرج، وهنا المأساة الماغوطية. فبطله لا يشتبك مع القدر السماوي بل مع القدر الأرضي، مع الاستبداد الذي أفرز المأساة؛ لأنَّه هنا ليس كـ»بروميثيوس«، بل هو الماغوط الثائر المتمرِّد الذي بطولته ترتقي/تتقاطع مع نبل معاناته. هذه المعاناة التي استطاع تجسيدها كلٌ من: عثمان جبريل في دور المهرِّج، وسعيد حناوي في دوري البث المباشر وصقر قريش، فنراهما وقد شقَّا الكفن المقدَّس للموت، وخرجا الى الحياة، فيُعيدان الخطاب العقلي إلى جسدهما ليلعب أجمل أدواره على خشبة مسرح السلمية، فلا يُضحكاننا ولا يَضحكان علينا على أنَّهما وبقية الممثلين: باسل الرفاعي، ضياء الخليل، أحمد الحاج، نصر الرفاعي، طارق كيفو، وسام قهوجي، ربا طعمة، محمد أيتوني همُ الأذكياء فيما نحن الحمقى، هذه التي لا يقبلها الماغوط.
الزنزانة
عن مسرحية (الزنزانة) لـ»هارولد كمل« ومن تمثيل: تمَّام العواني وبسام مطر، قدَّم محمد بري العواني من إعداده وإخراجه مسرحية (تلك الرائحة) بدون إشارات مادية أو ديكور إلا من إضاءة. وكأنَّه يضعنا أمام المسرح الفقير لنرى واحدة من المسرحيات المثيرة التي تذهب الى الفكر كفعلٍ لا يكفُّ عن الولادة ـ غير أنَّ العواني ما لبث أن أخرج مسدسه ووجَّهه تجاه رأسه، وأطلق عليه تلك الرصاصة، فتحوَّل من ضحية إلى قاتل حين شرح القصد من اختياره لهذا النص بالذات. في المسرح دع الفكر يُجري رياضاته/رياضياته، يستنبطها من الفكر، وبترابطات تمثيلية. دع الجسد ـ جسد الممثِّل فيكون خير برهان هندسي على ما لقيه من احترام في سجون الطاغية، وليس بشكل صدفوي. بل بترتيب، ومخطَّط له كفريسة، وهو الجسد الصوفي في عشقه للشمس والماء والهواء الذي تحت ـ قبل الذي فوق.
المسرح لا يقبل المباشرة، هو مع الإسقاطات، الإشارات، الاستحالات، الإحالات من خارج النص أو من داخله. هو تجسيد /صورة ما بين الفكر والرؤية ـ الضوءِ الذي يجيْ من الغرفة، من الفعل. سيما وأنَّ محمد بري العواني كان يملك ممثلَيْن كانا خطيرين وخطرين على المسرح. مع ذلك ورغم فقر العرض فلا ديكور ولا سينوغرافيا، ورغم تقريرية الأداء، فإنَّ »العواني« استطاع أن يقدِّم فرجة، استطاع أن يصدعنا بحركة ممثليه تمَّام العواني وبسام مطر حين كشفا عن إدراكين حسيَّين ـ عاطفتين متصارعتين ـ متميزين، كلٌ منهما له نغميته، خبرته التي كانت تنشر شظاياها على الخشبة.
مزبلةٌ ليست ككل المزابل، لأنَّها ورغم الروائح التي تنشرها، وربَّما الأمراض. فإنَّها تتحوَّل إلى منتجعٍ/مرتعٍ لنُخب الأمَّة؛ الممثِّل المسرحي، الصحفي، الكاتب والمفكِّرُ الأديب… وقد عجزواـ أصابهم العجز من مواجهة السلطة الحاكمة التي تستفرد بالحياة، فاختاروا الانسحاب وقضاء حياتهم وهم في أوَّل الشباب ليعيشوا في المزبلة يقتاتون فضلات المدينة.
ربَّما يكون عباس أحمد الحايك مؤلِّفاً، وهاشم غزال مخرجاً قد أرادا أن يُدينا هذه النُخب، بصفتها لا تجيد سوى الثرثرة، لا تجيد سوى الحكي. لكنَّهما حسب العرض لم يجسِّدا هذا الحكي فعلاً على المسرح رغم قوَّة أداء الممثلين: قيس زريقة، مصطفى جانودي، نجوان أحمد، حسام قعقع، إبراهيم سعيد، محمد علو. إذ لعبوا لعباً جماعياً، ففرجونا انفجارات روحهم.
(السلمية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى