صفحات ثقافية

رحيل سولجنتسين

null
خيار سولجنتسين
حسام عيتاني
كان الكسندر سولجنتسين بمثابة إحراج زائد بالنسبة الى بلده السابق، الاتحاد السوفياتي، كما بالنسبة الى اليساريين العرب. عندما نشبت أزمة نزع الجنسية السوفياتية من الكاتب الراحل ومن ثم إبعاده الى الغرب بعد أربعة أعوام من منحه جائزة نوبل للآداب في عام ،١٩٧٠ لم يناقش أحدٌ، صحة أو عدم صحة ما تحدث عنه في رواياته، وخصوصا في عمله الضخم »أرخبيل غولاغ« الذائع الصيت. كان النقاش كله منصباً على أسئلة من نوع: ما مبرر تقديم هذا النوع من الخدمات المجانية الى الغرب؟ ما الدافع الى هذا العداء الشرس للنظام السوفياتي، حتى لو ارتكب ما نسبه سولجنتسين اليه من جرائم؟
السلطات السوفياتية التي سمحت بنشر »يوم من حياة ايفان دينيسوفيتش« أثناء فترة »ذوبان الثلوج« التي أرساها نيكيتا خروتشوف، تراجعت عن موقفها المتسامح مع وصول ليونيد بريجينيف الى الحكم وبدء »زمن الركود« الذي استمر الى منتصف الثمانينيات والذي تخلله تحوّل سولجنتسين الى نجم عالمي، في الادب وفي الدوائر المناهضة للشيوعية على السواء. لقد تحول الكاتب، بفعل مزيج من ضيق الأفق البيروقراطي السوفياتي ومن الاستغلال الاميركي ـ الغربي لظاهرة كاتب كبير، الى جندي في الحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين آنذاك.
لم يسع سولجنتسين الى تبرئة نفسه من هذه التهمة، ولا كان من السذاجة بحيث تفوته الحقائق البسيطة للطبيعة السياسية الواضحة لجوائز نوبل، خصوصا أن تجربة سلفه الكاتب السوفياتي بوريس باسترناك (مؤلف »دكتور جيفاغو«) لم تكن بعيدة. لقد تحوّل باسترناك الى الضحية المفضلة للحزب الشيوعي السوفياتي بسبب الجائزة التي أرغمه الحزب على رفضها من دون أن يرأف به أو يعفو عنه الى أن توفي بعد عامين، على الرغم من أن مسألة باسترناك حصلت أثناء فترة انفراج داخلي نسبي في الاتحاد السوفياتي.
اذاً، خاض سولجنتسين الصراع وهو مدرك أن عدوه هو النظام الحاكم في بلده، وان حليفه ليس سوى الشيطان في نظر أبناء جلدته. غير أن الغرب لم يشعر بامتنان كبير للكاتب الروسي عندما انتقل هذا اليه، وكان من أول الأعمال التي قام بها إلقاء عدد من المحاضرات التي حمل فيها بشدة على الغرب وعلى أساليب الحكم فيه وعلى الطريقة التي يعامل بها شعوب العالم الثالث والشعب السوفياتي. حصل ذلك قبل أن ينعزل سولجنتسين في مزرعته في الولايات المتحدة منصرفا الى الكتابة ومنتظرا حتى عام ١٩٩٤ ليعود الى دياره وقد انقلبت أحوالها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
بطبيعة الحال، لا تكفي السطور هذه للاحاطة بشخصية مركبة مثل شخصية الكاتب الراحل. لكن الرجل أعاد، بحضوره الأدبي والسياسي، طرح السؤال المقلق عن العلاقة بين السلطة وصاحب الرأي المختلف. السؤال يصبح أشد وقعا عندما تكون السلطة شديدة الحضور في المجال الثقافي وشديدة التمسك بالنقاء الايديولوجي على غرار ما كانت عليه السلطة السوفياتية، وبين المثقف الذي خبر آليات عمل السلطة من الداخل، بالأحرى من حضيض حضيضها على غرار ما فعل سولجنتسين الذي أمضى أعواما طويلة يتنقل بين السجون في ذلك الأرخبيل الرهيب من المعتقلات.
الخيار السياسي الذي تبناه الكاتب الروسي هو في نظر الكثيرين خيانة موصوفة، إذ كيف يمكن إعلان العداء للحكم في الوطن عندما يكون هذا في حالة صراع محتدم مع أعداء خارجيين من طينة الولايات المتحدة وحلفائها. الخيار الادبي لم يكن أقل إشكالية في النظر ذاته: لماذا تلطيخ صورة البلاد بهذا الشكل فيما تسعى الى تضميد جراحات حروبها الداخلية والعدوان الذي شنته عليها ألمانيا النازية؟ بحساب بسيط، يكون سولجنتسين قد اختار الوقوف ضد أبناء وطنه في الشأن السياسي المباشر وفي الشأن الثقافي من خلال كشفه حجم الجرائم التي ترتكب في ظل نظام يحظى بتأييد داخلي متين في تلك الحقبة.
غير أن »الخيانة« هذه تلفت الى أمور أقل بساطة. منها ما يتعلق بالموقف الأخلاقي للكاتب الذي يجد نفسه في وسط من الادعاءات الايديولوجية التي لا تتورع عن إطلاق الأسماء على غير مسمياتها (لا ننسى أن الفترة التي بدأ سولجنتسين الكتابة فيها كانت قد شهدت ظهور النسخة التي وضعها سكرتير الحزب الشيوعي اندريه جدانوف »للواقعية الاشتراكية« بصفتها المدرسة الفنية الوحيدة المقبولة في الاتحاد السوفياتي، أي تلك النسخة المشددة على أولوية التصدي للامبريالية والوقوف الى جانب قوى الاشتراكية العالمية، على أي مناقشة للمسائل الداخلية أو الهموم الفردية). السؤال المهم الذي تجوز صياغته ببساطة هو: هل كان على الكاتب أن يساند الحكم في بلاده في مواجهة التهديد الاميركي، ام ان يعلن أمام العالم، بما فيه تلك الدول التي تهدد بلاده، الفظائع التي تصيب مواطنيه وتحيلهم رمادا في طاحونة الحكم الشمولي؟
في اعتقادنا أن السؤال لم يفقد جدته ولا أهميته، خصوصا في عالمنا العربي، على الرغم من وفاة واحد من أبرز من تولوا طرحه.
السفير
—————-
سوليجنتسين الراحل عن ٨٩ عاماً، غـريـب فـي كـل الفـصـول
عباس بيضون
حياة الكسندر سوليجنتسين تكاد توازي التاريخ الروسي الحديث. ولد ١٩١٨ بعد عام من قيام الثورة الشيوعية في العشرينيات كان على الجبهة في الحرب ضد المانيا الهتلرية، وطنيته وهي العنصر الاكثر ثباتاً في شخصيته دعته ليقاتل بشجاعة ولينال اوسمة على شجاعته. لكن العشريني لم ينخدع بايديولوجيا السلطة فقد بدأ من ذلك الحين نقده للنظام الشيوعي، كان من الجسارة بحيث صرح في رسائله باعتراضاته على رأس السلطة ستالين. لم يكن من السهل على المرء ان ينشق في الزمن الستاليني. فالارجح ان الموت ينتظر كل من يجسر على ان يرفع اصبعاً في وجد النظام، لكن سوليجنتسين رفع اصبعه وربما لم يكن عندها بالاهمية التي يستحق عليها الإعدام، فالنظام الذي دفن مندلشتام لقاء ابيات ساخرة من ستالين ما كان ليتورع عن قص عنق اي معترض مهما كان عاليا.
بدأ سوليجنتسين وطنيا روسيا ونقد النظام الشيوعي كوطني روسي، تلك كانت بداية رحلة عذاب عاشها الكاتب بذلك الادمان الروسي للشقاء، كان يشبه في مظهره دوستويفسكي. والارجح ان شيئا كثيرا من دوستويفسكي يسكن في شخصية سوليجنتسين. رحلة اعتقال ورحلة مرض، فالرجل الذي تغلب على معسكرات العمل التي كان يساق إليها المعتقلون في العصر الستاليني وقلما يرجع منها المرء حياً تغلب ايضا على السرطان. روايات سوليجنتسين هي تقريبا سيرته الشخصية، ارخبيل الغولاغ كانت تقريبا رواية السجن ومعسكرات الاعتقال، جناح السرطان رواية المرض ولم تخرج »يوم في حياة ايفان دنيوسفيتش« عن هذا السياق انها مذكرات يوم في جحيم الغولاغ، لعل هذه المطابقة بين روايات الكاتب وحياته هي جزء من المطابقة بينه وبين تاريخ بلاده. كأنما ولد سوليجنتسين معارضا للشيوعية، كأنما وجد هذا في دمه فإن حياته التي وسمت منذ البداية بهذه المعارضة هي سجل تآكل النظام الشيوعي وانهياره المفاجئ، لكن هذه الروايات لم تكن بحال تحريضية، كانت التسجيل شبه الحرفي للمعاناة المرعبة للمعتقلين مكتوبة بدقة وفوتوغرافية تكاد تصل الى الحياد، اما مذكراته السوداء في جناح السرطان، فمفتوحة على امل غامض، روايات سوليجنتسين ليست ملحمية كما هي روايات شولوخوف، انها اقرب الى ان تكون تسجيلية، ثم ان هذه الروايات ليست بطولية بقدر ما هي روايات واقعية سوداء، مع كل هذا الحياد والقسوة والكتابة العارية (ذات الحرفة الآسرة والجملة المسننة) فإن سوليجنتسين يعلي بدون اي غنائية من قيمة الشجاعة والصمود ويكسر سواء بينه وبين المعتقل او بينه وبين المرض حافز الخوف، ان قارئه يخرج أقوى بعد قراءته وربما افضت به هذه القراءة الى التطهر من رعبه.
لم يكن سوليجنتسين الوحيد الذي جنى عليه إبعاده من روسيا، مثله مثل عديدين خرجوا من الاتحاد السوفياتي يومذاك لم يتلاءموا مع الصورة النمطية التي كونها الغرب عنهم، لم يتنازل سوليجنتسين عن نوبل كما فعل باسترتاك ورغم روسيته الصميمة قبل بأن يغادر روسيا لقاء نيله الجائزة، وبالفعل غادر الى المانيا الغربية وبعدها الى الولايات المتحدة.
في الولايات المتحدة عاش الكاتب في منطقة تذكره بالشتاء الروسي، وحيداً في قلعته كان يعمل بجنون كما فعل حتى آخر يوم من حياته. لكن الكاتب الذي غادر بلاده لم تكن له صورة المنشق التي يريدها له الغرب، كما لو ان دوستويفسكي غادر روسيا كان سوليجنتسين بلحيته الطويلة وجلبابه الروسي ارثوذكسيا وقيصريا، فوجئوا به وهو يدعو الى العودة الى التاريخ القيصري، فوجئوا به وهو يصر على ما سماه اسلافه الروائيون الروسي الروح الروسية، وهو يفرد هذه الروح ويفرزها من التاريخ الغربي المعاصر معليا خصائص »شرقية في هذه الروح طالما اعتبرت ظلامية وغير متحضرة«. لم يكن سوليجنتسين من أتباع الطريق الليبرالي ولا من دعاة تغريب روسيا. كانت هذه بالنسبة إليه كما كانت بالنسبة لكثيرين من المثقفين الروس قارة على حدة، كانت وحدة روسيا وخصوصيتها اهم عنده من اوربتها. ذلك نقاش طويل حول الهوية الروسية شغل المثقفين الروس طوال القرن التاسع عشر واختلفوا فيه على انتسابها لنفسها، او انتسابها للشرق او الغرب.
لم يقبل سوليجنتسين بسهولة بالطريق الغربي. لقد بدا الذين استقبلوه عائدا من جحيم التوتاليتارية روسيا متعصبا بل ورجعيا محافظا، اما ما فاجأ أكثر فهو النقد الذي وجهه سوليجنتسين الى الغرب وكان في جملته نقداً أخلاقياً ودينياً، لقد ندد بانحطاط الغرب وتدهوره وماديته، ولم يكن هذا النقد لدى كثيرين الا بقية مما قبل الرأسمالية وقبل العصر. لم يكن سوليجنتسين الوحيد الذي فاجأ الغرب من المثقفين الروس المنفيين. لقد تمسك البعض بقيم ما قبل غربية ودافع عن بلاده دفاعا كاد معه ان يلتقي مع الاستبداد الشيوعي.
لم يكتب سوليجنتسين روايات بعد خروجه من روسيا. اذا كانت رواياته موازية لسيرته وللتاريخ الروسي فقد قرر هذه المرة ان يتجه مباشرة الى التاريخ. كانت مجلدات »العجلة الحمراء« هي هذا التاريخ. في قراءته للتاريخ الروسي الحديث فاجأ الروس كما فاجأ غيرهم. لقد عاد الى فترة الاصلاح القيصري وطلب البدء من هنا، لقد وضع نفسه بعيداً جداً عن العصر، لم يقبل كثيرون بذلك ووجد البعض فيه مؤرخاً فاشلاً. بل رأى البعض في هذا الفشل مناسبة لإعادة النظر في قيمته الأدبية، وجد من قال ان سوليجنتسين صنيعة السياسة وان وزنه الأدبي اقل بكثير من شهرته، وقبل ان يعود سوليجنتسين الى روسيا كانت صورته قد نالها كثير من الكسوف، إذا كان متهماً بالمحافظة والتعصب واللاسامية ايضاً فقد رأى البعض ان في »العجلة الحمراء« جناية على اليهود. هكذا بعد المجد كان سوليجنتسين مهدداً بالتعتيم والإغفال.
كان سقوط الشيوعية هو ايضا سقوط اسطورة المنشقين. لقد انتهى الانشقاق وفقد مجده، راقب سوليجنتسين ما يجري داخل روسيا، ومن الولايات
المتحدة كان يصرخ ضد ما يجري، ابهجه زوال الشيوعية بدون شك، لكن هاله تفكك روسيا. لم يحتمل بخاصة انفصال اوكرانيا عن روسيا وهو الذي يعلم ان الامبراطورية الروسية تأسست في كييف عاصمة اوكرانيا. وان اوكرانيا هي اصل روسيا، هاله اكثر ان يجد روسيا العظيمة تغدو تابعة للغرب ومؤسساتها تباع بالرخص للأميركيين وغيرهم. وطنيته المجروحة دعته الى ان ينتقد بشدة هذه التبعية، انتقدها بقوة ورفض وسام يلتسين لأنه باع روسيا للغرب، عاد الى روسيا أخيراً ليجد نفسه غريباً فيها، وليجد الكثيرون فيه رمزا قديما متجاوزا،
لقد أرعبته الرأسمالية المفلتة والتسيب والوحشية والهيمنة الأميركية بقدر ما كانت الشيوعية أرعبته في يوم آخر. استمر يعمل بجنون ومات بعد يوم عمل هانئاً في سريره، والذين قارنوه بدستويفسكي يمكنهم الآن ان يستمروا في المقارنة. لقد نال الاثنان السجن واجتازا الجحيم والرعب، ومعا لم يسعدهما شيء. لقد غدر بهما التقدم وغدرت بهما المحافظة وغدر بهما العصر، ولا نعرف اذا كان سيقدر لـ سوليجنتسين ما قدر لدستويفسكي، ان تضعه »رجعيته« في المستقبل.
السفير

ألكسندر سولجينتسين… آخر «القياصرة»
———————————————-
نزيل «أرخبيل الغولاغ» يلتحق بالرفيق ستالين
بيار أبي صعب
ألكسندر سولجينتسين
(1918 ـــ 2008) أشهر «المنشقين السوفيات» وصاحب «نوبل للآداب» (1970)، يمضي غداً إلى مثواه الأخير، في مقبرة دير دونسكوي الموسكوبيّة، بعد مسيرة صاخبة تنقّل فيها بين معسكرات الاعتقال والمنافي وأعلى مراتب الحفاوة العالميّة
لولا تلك الرسالة التي كتبها ألكسندر إيزاييفيتش من الجبهة، ذات يوم من 1945، لما انقلب مصير الجنديّ الباسل في الجيش الأحمر، رأساً على عقب، ليصير أحد أبرز أبطال القرن العشرين ربّما، وأشهر رموز الدفاع عن الحريّة (والعداء للشيوعيّة!)… والكاتب العالمي الذي توّج بجائزة نوبل للآداب، وهو عملياً في بداية مشواره الأدبي.
عندما جنّد على الجبهة الشرقيّة عام 1942، كان أستاذ الرياضيات والعلوم، خريج جامعة روستوف الذي درس أيضاً العلوم الإنسانيّة بالمراسلة مع «معهد الأدب والفلسفة والتاريخ» في موسكو، كان متحمّساً للأفكار الثوريّة. وقد استبسل في معارك لينينغراد ضدّ الجيش الألماني، فرُقّيَ إلى رتبة نقيب في سلاح المدفعيّة. لكنّ قدراً أعمى جعل رسالة من النوع الذي كان يكتبه إلى أحد أصدقاء الطفولة، تقع في يد «الشرطة السياسيّة». فيها يعبّر صاحبنا عن خشيته من أن يكون الرفيق ستالين «قد ابتعد عن المثال الأعلى للينين»… بل يذهب في قلّة الاحترام أبعد من ذلك، معتبراً أن «الرجل ذا الشاربين» يتقاسم مع هتلر مسؤوليّة الكوارث التي تكبّدها الشعب السوفياتي، لأنه لم يعرف كيف يتعامل مع الألمان».
كان ذلك كافيّاً لاتهام ألكسندر إيزاييفيتش سولجينتسين بالخيانة، والعداء للشيوعيّة، والتآمر على الاتحاد السوفياتي، ما اقتضى «إعادة تأهيله» في أحد معسكرات الاعتقال في سيبيريا. نحن في عام 1945، وبعد ثماني سنوات في المعسكر تعلّم خلالها مهنة «معلّم باطون»، خرج إلى الإقامة الجبريّة في كازاخستان، حيث انتظر مجيء خروتشيف ومعه مرحلة الانفراج، ليعيد الاعتبار إلى عدد من ضحايا الستالينيّة، فيضع حداً لمنفاه في عام 1956. وفي مدينة ريازان التي انتقل إليها على مقربة من موسكو، عمل أستاذاً للفيزياء في مدرستها الثانويّة، نهاراً. وفي ظلمة غرفته السريّة، راح الرجل يقوم بخطواته الأولى الفعليّة في عالم الأدب، تمهيداً لأن يصبح «سولجينتسين»، أشهر المنشقين في تاريخ الاتحاد السوفياتي، والكاتب الذي سيسافر اسمه (وأدبه) حول العالم، بصفته أوّل من كشف معسكرات الاعتقال الستالينيّة، وصاحب التجربة التي تأسست على مواجهة التوتاليتاريّة.
كتب سولجينتسين مسرحيّته الأولى ذهنياً في المعتقل بعنوان «وليمة المنتصرين»، لكنّه أنكرها فيما بعد. وفي منفاه الكازاخستاني ألّف مسرحيّة أخرى بعنوان «ابنة الحبّ والبريء»، كما باشر في كتابة «الحلقة الأولى» الذي لن يصدر إلا لاحقاً (1968: عام صدور «جناح السرطان» أيضاً)، في الخارج وفي طبعات سريّة في روسيا Samizdat، بعد أن دخل الرجل علناً إلى ساحة المواجهة مع النظام السوفياتي. لكن النصّ الذي لا مفرّ من اعتباره مفترق طرق في مسيرة سولجينتسين وحياته، أبصر النور في ريازان: إنّها قصّة طويلة بعنوان «يوم في حياة إيفان دنيسوفيتش»، مستوحاة من تجربته الشخصيّة في معكسرات الاعتقال. 24 ساعة تختصر هذا العالم المخيف، ونصّ يغرف من التقاليد الكبرى للرواية الروسيّة، يتكلّم بلسان الضحايا الذين لم يخرجوا أبداً من جحيم الغولاغ. في عام 1962، سمح نيكيتا خروتشيف شخصيّاً بنشر النصّ في مجلّة «نوفي مير» الليبراليّة السمعة (الحياة الجديدة)، في سياق سياسته الساعية إلى القطيعة مع الإرث الستاليني. هل كان ذلك خطأ من وجهة النظر الرسميّة؟ المهمّ أن القصّة هزّت الاتحاد السوفياتي، وقُرئت في العواصم الغربيّة، واعتبرت الوثيقة التأسيسيّة لفضح آلة القمع الستالينيّة الرهيبة التي لم تنته برحيل صاحبها.
صار سولجينتسين مشهوراً، لكن الهدنة النسبيّة التي تمتّع بها في مرحلة الانفتاح، ونشر خلالها بعض القصص، لم تدم طويلاً. بعد إزاحة خروتشيف، ستزداد المواجهة مع النظام تصاعداً حتّى الذروة التي نعرف. في عام 1967 كتب «رسالة عن الرقابة» فاضحاً الحصار الذي يلف الفكر والإبداع، فتعرّض لحملة تجريح واسعة من أجهزة الاستخبارات، و… «اتحاد الكتّاب» الذي طرده في عام 1969 من ملكوته! قبل ذاك التاريخ، كان الكاتب قدّ هرّب إلى الغرب مخطوط «الحلقة الأولى» ورواية أخرى من وحي تجربته مع مرض السرطان الذي تغلّب عليه في الأسر: «جناح السرطان» (كتبت بين 1963 و1966). صدر الكتابان في عام 1968.
ثم جاء فوزه بـ«جائزة نوبل» في عام 1970 ليسبّب حرجاً كبيراً للسلطات السوفياتيّة، حتّى إن بريجنيف بذل كل ما بوسعه لمنع الكاتب من السفر إلى استوكهولم لتسلّم جائزته. وكان سولجينتسين قد باشر بكتابة رواية ضخمة عن عالم المعتقلات بعنوان «أرخبيل الغولاغ». Goulag هذه الكلمة التي خلّدها الكاتب، تجمع الحروف الأولى من التسمية السوفياتية الرسميّة لـ«معسكرات العمل» كما كانت تُعرف. عثرت الـ KGB في عام 1973 على نسخة من مخطوط الرواية لدى الصديقة التي طبعتها على الآلة الكاتبة. ثم وجدت المذكورة مشنوقة بعد ثلاثة أيام على اعترافها بالمخبأ، فقرر سولجينتسين تصعيد المواجهة، وأعطى الضوء الأخضر لناشره الباريسي بإصدار جزءين أوّلين كان قد هرّبهما إلى خارج البلاد على مايكروفيلم (الجزء الثالث سيصدر بعد إبعاده عن الاتحاد السوفياتي، عام 1976). صدر الأرخبيل بالروسيّة ثم بالفرنسيّة إذاً، ليترك العالم في حالة من الذهول، وليخلق صدمة لأحزاب اليسار والمثقفين في الغرب، معلناً مرحلة الخيبة من الحلم الشيوعي لدى كثيرين منهم.
وجاء «نداء موسكو» الذي نشره عام 1974، داعياً القادة السوفيات إلى التخلّي عن الماركسيّة والسماح بحريّة التعبير لكل التيارات الفلسفيّة والدينيّة، ليكون النقطة التي أطفحت الكيل. فما كان من السلطات إلا أن جرّدته من جنسيّته، ووضعته على متن طائرة حملته إلى فرانكفورت، لتلحق به زوجته وأبناؤه الثلاثة بعد أسابيع. هكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة أشهر المنشقّين الذي سيتنقّل بين ألمانيا وسويسرا، قبل أن يستقرّ في ولاية فيرموت شمال شرق الولايات المتحدة… حتى عودته «الظافرة» إلى بلاده في عام 1994 بعد رحلة قطار عبر أنحاء روسيا «المحرّرة» استغرقت أكثر من خمسين يوماً.
لقد أفلت سولجينتسين مراراً من الموت. أفلت من ويلات الحرب وأهوال الغولاغ ولعنة السرطان. كان يردد «سأعود إلى روسيا في حياتي»، وهذا ما كان له. وها هو يلتحق بستالين، يأخذ معه قرناً من الطغيان والأحلام الثوريّة المجهضة. لقد شهد موت الشيوعيّة الرسمية ثم مضى وراءها، كما ليؤكّد نهاية تلك الحقبة السوداء… تاركاً للأجيال التي تأتي بعده أن تستعيد المُثل الطوباويّة القديمة، وتواصل الحلم الثوري حيث تركه على الجبهة الشرقيّة، ذلك اليوم من 1945.
البطل الرجعي الذي أحبّه الغرب
رأى الغرب في سولجينتسين كاتباً شجاعاً، ومناضلاً ضدّ التوتاليتاريّة، وجعل منه أحد أبطاله المفضّلين. لكنّه سرعان ما سيكتشف أن صاحب اللحية الطويلة التي جعلت كثيرين يشبّهونه بالأنبياء والقديسين والكتّاب الروس الكبار، ليس أكثر من كاتب محافظ ورجعي وشوفيني ومتديّن… ولاسامي أيضاً! جمع في خطابه، كما لدى اليمين المتطرّف إجمالاً، مقولات متناقضة من الكره للشيوعيّة إلى احتقار الرأسماليّة التي حوّلت العالم إلى بازار كبير، فضلاً عن مناداته بالعودة إلى القيم الأخلاقيّة التقليديّة، وتعصّبه الديني الأرثوذكسي وتمسّكه بعظمة العرق السلافي… المفاجأة الأولى كانت خطابه الشهير في جامعة هارفرد (1978)، ثم كرّت سبحة التصريحات والمؤلّفات، ومن آخرها عشيّة العودة إلى بلاده، الكتاب ذو الوصفات المدهشة الذي بيع بالملايين في روسيا: «كيف نعيد بناء بلادنا روسيا» (1990). هناك أيضاً محاولته تسجيل تاريخ اليهود في روسيا في «قرنان معاً» (2002 ــــ 2003)، من دون أن ننسى مؤلّفه الضخم الذي أعاد فيه، على مراحل، كتابة تاريخ روسيا، أي «العجلة الحمراء» (1972 ــــ 1998).
صاحب «أرخبيل الغولاغ» الذي صار له برنامجه التلفزيوني في روسيا، وخاصم بوتين ثم قَبِل منه جائزة الدولة قبل عامين، كان يتوقّع، بعد العودة من المنفى، أن يؤدي دوراً مهمّاً في بلاده، حيث أعاد إليه غورباتشيف الاعتبار عام 1990. لكن الخيبة كانت بالمرصاد، وزعماء المافيا الجدد كانوا قد أخذوا مكانه. هكذا ابتعد عن الأدب وبات يعدّ نفسه مؤرّخاً في المصاف الأوّل.
غير أن الأعمال الأدبيّة ستبقى تلاحقه، وقد فرغت من بُعدها الآني (الدعاية المضادة للشيوعيّة)، لتقول رحلة البحث عن الحريّة في كل زمان ومكان. نصوص ذات بنية دراميّة متينة، الزمن فيها مكثّف، والمكان مغلق (الزنزانة، المعسكر، غرفة المستشفى)، ما يعطي لأعماله بعداً تراجيدياً أكيداً. كما أنها تقدّم غالباً لوحة اجتماعيّة واسعة تحتضن صراع الجلادين والضحايا، البسطاء والجبابرة، الفلاحين والمثقفين… علماً بأن البعد الاجتماعي لا يكفي لتحديد الشخصيّة بالنسبة إلى سولجينتسين، فالعنصر الحاسم ــــ كما يقول ــــ هو «الخيار الأخلاقي»!

——————————-
خيار سولجنتسين
حسام عيتاني
كان الكسندر سولجنتسين بمثابة إحراج زائد بالنسبة الى بلده السابق، الاتحاد السوفياتي، كما بالنسبة الى اليساريين العرب. عندما نشبت أزمة نزع الجنسية السوفياتية من الكاتب الراحل ومن ثم إبعاده الى الغرب بعد أربعة أعوام من منحه جائزة نوبل للآداب في عام ،١٩٧٠ لم يناقش أحدٌ، صحة أو عدم صحة ما تحدث عنه في رواياته، وخصوصا في عمله الضخم »أرخبيل غولاغ« الذائع الصيت. كان النقاش كله منصباً على أسئلة من نوع: ما مبرر تقديم هذا النوع من الخدمات المجانية الى الغرب؟ ما الدافع الى هذا العداء الشرس للنظام السوفياتي، حتى لو ارتكب ما نسبه سولجنتسين اليه من جرائم؟
السلطات السوفياتية التي سمحت بنشر »يوم من حياة ايفان دينيسوفيتش« أثناء فترة »ذوبان الثلوج« التي أرساها نيكيتا خروتشوف، تراجعت عن موقفها المتسامح مع وصول ليونيد بريجينيف الى الحكم وبدء »زمن الركود« الذي استمر الى منتصف الثمانينيات والذي تخلله تحوّل سولجنتسين الى نجم عالمي، في الادب وفي الدوائر المناهضة للشيوعية على السواء. لقد تحول الكاتب، بفعل مزيج من ضيق الأفق البيروقراطي السوفياتي ومن الاستغلال الاميركي ـ الغربي لظاهرة كاتب كبير، الى جندي في الحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين آنذاك.
لم يسع سولجنتسين الى تبرئة نفسه من هذه التهمة، ولا كان من السذاجة بحيث تفوته الحقائق البسيطة للطبيعة السياسية الواضحة لجوائز نوبل، خصوصا أن تجربة سلفه الكاتب السوفياتي بوريس باسترناك (مؤلف »دكتور جيفاغو«) لم تكن بعيدة. لقد تحوّل باسترناك الى الضحية المفضلة للحزب الشيوعي السوفياتي بسبب الجائزة التي أرغمه الحزب على رفضها من دون أن يرأف به أو يعفو عنه الى أن توفي بعد عامين، على الرغم من أن مسألة باسترناك حصلت أثناء فترة انفراج داخلي نسبي في الاتحاد السوفياتي.
اذاً، خاض سولجنتسين الصراع وهو مدرك أن عدوه هو النظام الحاكم في بلده، وان حليفه ليس سوى الشيطان في نظر أبناء جلدته. غير أن الغرب لم يشعر بامتنان كبير للكاتب الروسي عندما انتقل هذا اليه، وكان من أول الأعمال التي قام بها إلقاء عدد من المحاضرات التي حمل فيها بشدة على الغرب وعلى أساليب الحكم فيه وعلى الطريقة التي يعامل بها شعوب العالم الثالث والشعب السوفياتي. حصل ذلك قبل أن ينعزل سولجنتسين في مزرعته في الولايات المتحدة منصرفا الى الكتابة ومنتظرا حتى عام ١٩٩٤ ليعود الى دياره وقد انقلبت أحوالها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
بطبيعة الحال، لا تكفي السطور هذه للاحاطة بشخصية مركبة مثل شخصية الكاتب الراحل. لكن الرجل أعاد، بحضوره الأدبي والسياسي، طرح السؤال المقلق عن العلاقة بين السلطة وصاحب الرأي المختلف. السؤال يصبح أشد وقعا عندما تكون السلطة شديدة الحضور في المجال الثقافي وشديدة التمسك بالنقاء الايديولوجي على غرار ما كانت عليه السلطة السوفياتية، وبين المثقف الذي خبر آليات عمل السلطة من الداخل، بالأحرى من حضيض حضيضها على غرار ما فعل سولجنتسين الذي أمضى أعواما طويلة يتنقل بين السجون في ذلك الأرخبيل الرهيب من المعتقلات.
الخيار السياسي الذي تبناه الكاتب الروسي هو في نظر الكثيرين خيانة موصوفة، إذ كيف يمكن إعلان العداء للحكم في الوطن عندما يكون هذا في حالة صراع محتدم مع أعداء خارجيين من طينة الولايات المتحدة وحلفائها. الخيار الادبي لم يكن أقل إشكالية في النظر ذاته: لماذا تلطيخ صورة البلاد بهذا الشكل فيما تسعى الى تضميد جراحات حروبها الداخلية والعدوان الذي شنته عليها ألمانيا النازية؟ بحساب بسيط، يكون سولجنتسين قد اختار الوقوف ضد أبناء وطنه في الشأن السياسي المباشر وفي الشأن الثقافي من خلال كشفه حجم الجرائم التي ترتكب في ظل نظام يحظى بتأييد داخلي متين في تلك الحقبة.
غير أن »الخيانة« هذه تلفت الى أمور أقل بساطة. منها ما يتعلق بالموقف الأخلاقي للكاتب الذي يجد نفسه في وسط من الادعاءات الايديولوجية التي لا تتورع عن إطلاق الأسماء على غير مسمياتها (لا ننسى أن الفترة التي بدأ سولجنتسين الكتابة فيها كانت قد شهدت ظهور النسخة التي وضعها سكرتير الحزب الشيوعي اندريه جدانوف »للواقعية الاشتراكية« بصفتها المدرسة الفنية الوحيدة المقبولة في الاتحاد السوفياتي، أي تلك النسخة المشددة على أولوية التصدي للامبريالية والوقوف الى جانب قوى الاشتراكية العالمية، على أي مناقشة للمسائل الداخلية أو الهموم الفردية). السؤال المهم الذي تجوز صياغته ببساطة هو: هل كان على الكاتب أن يساند الحكم في بلاده في مواجهة التهديد الاميركي، ام ان يعلن أمام العالم، بما فيه تلك الدول التي تهدد بلاده، الفظائع التي تصيب مواطنيه وتحيلهم رمادا في طاحونة الحكم الشمولي؟
في اعتقادنا أن السؤال لم يفقد جدته ولا أهميته، خصوصا في عالمنا العربي، على الرغم من وفاة واحد من أبرز من تولوا طرحه.
السفير
———————————
سولجينيتسـن فـي الكفـن الروسـي المزركـش
منذر بدر حلوم
كيف يمكن لريح الشمال أن لا تجتاح أصقاع الأرض! شعرت حين سماعي بموت سولجينيتسن كأن روسيا بجبالها وغاباتها وسهوبها وأنهارها وسككها الحديد و(جعبة زاخار) الدونكيشوتي، حارس الدم في كاليكوفا، والآلاف المحشورة في (الأرخبيل) وفي دوّامات (الدولاب الأحمر) ورفاق (إيفان دينيسوفيتش) وبقايا جلودهم المندغمة مع الطوب، وخوذ القتلى الخارجين أحياء من (محطة كوتشيتوفكا) وآلاف المحطات الأخرى لملاقاة الموت، الخوذ المنغرزة في الأرض الروسية، من موسكو إلى بريست، مملوءة ثقوبها بالطين والثلج، متكئة على جماجم أصحابها المثقوبة أو منشلعة عنها، منذ ستة عقود ونيف.. كأنّ هذه الروسيا كلّها كتاب عظيم هبطت صفحة منه في ليل الثاني إلى الثالث من آب لعام ثمانية وألفين، حين توقف عن النبض قلب سولجينيتسن، الرجل الذي كان لا يزال ممسكا بالحبر على عتبة روسيّاه وعتبة التسعين من عمره، حين تنافس الحبر مع الدم على القلب فأوقفاه. هبطتْ صفحة من تاريخ لا معنى له دون سولجينيتسين، إلا معنى إغماض العين عن عذابات البشر وعمّا يمارس عليهم من ألوان الشرور وأشكالها، هبطتْ فإذا بالكلام المضغوط بين الحبر والدم يولّد ريحا تنادي وسع الكون: ألا فلتنقذوا الإنسان أيها الأحرار، فالوحش يأتي على كل ما فيه! ألا أيتها الريح كيف لا يشعر بك المجوَّعون، المستغَّلون، المعذَّبون، المنتهكة كراماتهم الإنسانية.
نداء سولجينيتسن، على الرغم من تمسّكه بإيمانه المسيحي العميق، ليس نداء تولستوفيا يتكئ على الدين، إنّما هو ينطلق من فكرة العدالة التي لا قيمة لأي دين لا يقوم عليها، وفكرة الحق، وقيمة المجاهرة بالحقيقة، والعيش في مواجهة الرياء والكذب والادعاء وكل أشكال طمس الحقائق، الأشكال التي ينتجها الاستبداد ويقوم عليها، وبالمجاهرة بالحقيقة ننتصر للإنسان في دواخلنا، مبدأً لحيوات كريمة لا يعرف قيمتها إلا كل عزيز نفس، أو ننتصر للوحش مجمّلين ضعفنا وترددنا وخوفنا وطمعنا وتواطؤنا مع الظلم. وليس إنسان سولجينيتسن مسيحاً مرفوعا بأل تعريفٍ، تجعل منه كائنا افتراضيا لا يداخل نفسه تردد أو ضعف، إنّما هو إنسان من لحم ودم، هو ابن الجغرافيا والتاريخ، وهو ابن أمّه وأبيه، وهو الخارج من قومه وإلى قومه في معظم الأحيان، يقتِل ويُقتَل، لكنّه كائن عنيد في مقارعة الظلم، ينتصر لحريته وكرامته. وسولجينيتسن في بحثه عن صيرورة الإنسان نحو كائن لا يفرّط بحريته وكرامته، تجلّى مقاتلا غير هيّاب، يجاهر بما يراه حقيقة، متسلحا بقوة الكلمة في مواجهة الفولاذ، أو صار إلى هذا المقاتل مع كل قطرة حبر وقطرة عرق وقطرة دم، دون أن يتخاذل أو يضل الطريق.
لم يصب سولجينيتسن دائما في رحلته الطويلة مع الكلمة، لكن خطأه وصوابه كانا دائما في نزال مع الكذب والادعاء. لم يصب سولجينيتسن في رؤيته لكيفية ترتيب البيت الروسي حين بدأ هذا البيت يتداعى تحت هزّات أسئلة البيريسترويكا. فهو من منفاه راح يرى روسيا سلافية قبل كل شيء وللسلافيين قبل غيرهم، لكنه ما إن عاد إلى روسيا وفجع بما رآه من خراب خلّفته جائحة يلتسين وعائلته، عائلة اللصوص الأوليغارخيين التي تكالبت على إرث الامبراطورية المنهارة وأمسكت بخناق روسيا، ما إن عاد ورأى ذلك وغيره حتى عادت إليه ألوان الطيف، ألوان شعوب روسيا مع ألوان فجيعة الانهيار والفقر والعنف، فإذا بنداء وحدة شعوب روسيا يغلب على غيره من نداءات سولجينيتسن، وإذا بنداء الوقوف في وجه نهب شعوب روسيا وسلبهم إرادتهم وأسباب عيشهم الكريم يغلب، وإذا بنداء الوقوف في وجه الانهيار يغلب على كل نداء، وإذا بنزعته الإنسانية تخرج من تحت ملايين الجثث رافعة حبر المقاومة في وجه الجشع الذي ينبئ بموت أكبر وأكثر بشاعة.
تمسّك سولجينيتسن بندائه الإنساني غير واثق من قدرة هذا النداء على الوقوف في وجه الوحشية. »ضُرِبَ عرض الحائط بنداء النزعة الإنسانية، بصورةٍ مريعةٍ، مرّتين في القرن العشرين، في الحرب العالمية الأولى والثانية« يقول سولجينيتسن في أحد لقاءاته التلفزيونية! وبدا كأن أنهار الحبر المبذولة أعجز من أن تخرج الوحش من الإنسان، واليوم تعاني النزعة الإنسانية، الخارجة من مسيحيتها إلى ما يتجاوز حمولتها الدينية ويتجرد عنها، امتحانها وربما الأخير أمام تمسك المليار الذهبي الأبيض، من أميركا الشمالية إلى أوروبا إلى أستراليا، بنزعة التفوق العنصري على الجنوب وادعائه الحق بالسيطرة على خيرات العالم ونهب شعوبه وإبقائها تحت السيطرة. وقال سولجينيتسن، وكان الأسى يخالط البريق في عينيه قبيل موته بقليل، وربما يكون ذلك في آخر لقاء تلفزيوني أجري معه في بيته حيث أرشيف ملايين المعذَّبين: كل العالم جنوب أمام هذا المليار الذهبي. وما أفقر هذه الأرض وما أعجزها عن إشباع الشمال!! قال سولجينيتسن قوله محاولا البحث عن موقع لروسيا بين آسيا وأوروبا، السؤال الذي كثيرا ما تطرحه الثقافة الروسية على نفسها منذ عقود: روسيا ليست آسيا ولا أوروبا. روسيا أشبه بقارة مستقلة، وهي حضارة مكتملة، فكما هناك حضارة غربية وحضارة إسلامية، هناك حضارة روسية. لكن السؤال الآن ليس هنا. السؤال ـ عبّر سولجينيتسن بما معناه ـ في أنّ روسيا التي يراها ليست هي روسيا التي طالما سعى إليها ولا العالم الذي يراه هو العالم الذي طالما تاق إليه، السؤال عمّا نستطيع فعله لجعل العالم يغيّر وجهته. وكان واضحا في حوار الصحافة التلفزيونية مع الرجل الممسك بقلمه على العتبة الفاصلة بين الحياة والموت، أن مليار الشمال الذهبي دائم الحضور في ذهنه بوصفه مصدر الأخطار على شعوب الجنوب ومحدد مصائرهم، بل على مصير الكرة الأرضية التي بدا أنّها أصغر وأفقر من أن تلبي مطامعهم، وبالتالي فعلى محك هذا المليار الأبيض سيختبر نداء النزعة الإنسانية التي تنادي الثقافةَ لأن تشتغل عليها بصرف النظر عن كل الإخفاقات التي أثبتت هشاشة الثقافة الإنسانوية الأوروبية أمام المال ووسائل جنيه، اشتغالا على المشترك بين الشعوب والبشر بصرف النظر عن اختلاف معتقداتهم وألوانهم، بوصفهم ضحايا لمولوخ واحد يلوكهم، حتى لو بدا لبيض الشمال اليوم أنّهم بمنأى عنه.
ليس أكثر إثباتا للجهل من ادعاء امتلاك حقيقة منتهية! وما أكثر ما عبّر سولجينيتسن في حواراته الأخيرة عن ارتيابه بالأشياء التي رآها واضحة من قبل، إلاّ ضرورة مقاومة الدجل والكذب والرياء وما يخدمها وتخدمه ومن يقوم عليها وتقوم عليه، فأشياء لم يبدُ أن سولجينيتسن ارتاب في شأنها يوما. فكان منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه عن نفسه كاتبا، واضعا نفسه بين يدي شعبه إلى يومه الأخير، مقاوما أصيلا للاستبداد ولأدواته وركائزه.
وأمّا في ليل الثاني إلى الثالث من آب، ومع انطفاء ذينك المصباحين البراّقين في ذلك الوجه الحكيم المتطاول، فقد انطوت حقبة من التاريخ، وليس لكل رجل أن يتحدد بموته التاريخ، كما ليس لكل يوم أن يكون عتبة للتاريخ. قبيل موته وضع سولجينيتسن توقيعه على الطبعة الأخيرة التي طالما انتظرها من »الأرخبيل«، طبعة أضيفت إليها أسماء أولئك الذين سبق أن كُتمت أسماؤهم خوفا عليهم وعلى ذويهم من ملوك الأقبية ومعسكرات الموت، والذين من مصائرهم ومصائر أمثالهم قدّت الرواية.. واتجهت عينا الرجل نحو ثلاثين مجلدا تجمع ما كتبه في التاريخ والأدب والفكر، وإليها اتجه قلمه منقحا ومزيدا هنا وهناك، إلى أن زاحم حبرُ القلم دمَ القلب فأسكتا النبض وسكتا معا.
رحل سولجينيتسن.. تاركا لنا، نحن الذين نخال أنفسنا أحياء، السؤال عن إمكانية العيش بلا كذب ولا دجل ولا ادعاء، عن أصالة مناصرتنا للحرية والكرامة الإنسانية، وعن استعدادنا لدفع أثمان في سبيل ذلك، مؤكدا أن الكاتب الأصيل لا يمكن أن يكون بمنأى عن آلام شعبه، ومن يكنْ مع شعبه يكنْ له محل في قلب هذا الشعب، وهكذا هو سولجينيتسن في كفنه المزركش بألوان شعوب روسيا وطيوفها.
السفير

————————————

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى