صفحات ثقافية

الشعر الجيد لا يخاطب أحداً

null
مايكل هامبرغر
في مُحاضرته عام 1953 حول ” أصوات الشِعر الثلاثة ” يربط ت.س إليوت ” الشاعر الألماني غوتفريد بن ” و ” مُحاضرته الشديدة الإثارة للاهتمام المعنونة مشكلة القصيدة الغنائية بما سمّاه إليوت الصوت الأول – ” الشاعر يُخاطب نفسه – أو لا أحد “. وكان غوتفريد بن يختلف عن إليوت بأنه لا يعترف إلا بالصوت الأول. وعلى الرغم من أنَّ بن كتب قصائد شخصية persona وحتى حوارات دراميّة، لكنّه أصرَّ على أنَّ كل الشِعر الجيد ” لا يُخاطب أحداً “، وأنكر بوجه خاص أنَّه يمكن أنْ يكون للشِعر أي وظيفة عامة. وفي عام 1930 يقول ” الأعمال الفنيّة ظواهر، غير فعّالة تاريخياً، وبلا نتائج عملية. وهذا موطن عظمته ”
بعد ذلك بعشرين عاماً، وفي محاضرة ” مشكلة القصيدة الغنائية “، يختلف بن مع إيحاء ت.س إليوت الشديد الحذَر بأنَّه حتى في الشِعر الصافي poesie pure  يبقى الموضوع هاماً بحق. وكان جواب بن ” ليس للشِعر الغنائي أي موضوع آخر غير الشاعر نفسه “. إذن، يبدو، كما لو أنَّ في عام 1952 و 1953 كان غوتفريد بن و ت.س إليوت على خِلاف حول القضية نفسها التي أرَّقَتْ بودلير قبل ذلك الوقت بقرنٍ من الزمان. لكنَّ إشارات ت.س إليوت المُهذَّبة إلى وِجهات نظر بن لا تبدأ بإبراز مدى اختلافهما – بين شاعرٍ توصّلَ إلى الاعتقاد أنَّ ” الشِعر لا يهمّ ” وشاعرٍ توصّلَ إلى الاعتقاد أنَّ لا شيء يهمّ غير الشِعر. وهناك فرقٌ هام بين توكيد بودلير على أنَّ ” لا غاية للشِعر إلا ذاته ” وتوكيد بن على أنَّ ” لا موضوع للشِعر غير الشاعر ذاته ”
بول فاليري، الذي تبنّى بِنْ مفهومه عن ” الشِعر المُطلَق ” في كتاباته النقدية والجَدَليّة، وصفَ ذات مرة نفسه بأنه ” جَزيريّ[1] “، بمعنى ضبط خاصّ للنفس الذي يبلغ حالةً أطلَقتُ عليها ميلَ فاليري إلى الأنانة solipsism. وكمِثالٍ على صِفته الخاصة قال فاليري إنه ” لم يشعر قط بالحاجة إلى دفع الآخرين إلى مُشاركته مشاعره حول أي موضوع “. وبعد صدور ملاحظة فاليري بعشر سنين، أعلنَ غوتفريد بن : ” أنا شخصٌ إنعزاليّ. إسمي مونرو “. وفي حالة بن كانت الأنانة تتجاوز بكثير مجرَّد الميل أو الخطر. كانت المُحيط الضروري لشِعره ونثره كله، وفِكره حول الأدب، والمجتمع والعلوم الطبيعية. ولطالما شدَّد فاليري على أنَّ فِعل التفكير ذاته يعزُل المُفكِّر عن باقي البشر. وكتبَ في Ausdruckswelt ” إنَّ ذاك الذي يعيش غير ذاك الذي يُفكِّر “. ويُصبح الوعي بحدّ ذاته – الذي يتطابقُ إلى حدٍ بعيد مع مبدأ شوبنهاور ونيتشه عن principium individuationis  (مبدأ الفردية) – مصدرَ عذابٍ لا يُحتَمَل، من النوع الذي عَزَاه نيتشه في ” مولد المأساة ” إلى ” حالة التشخيص[2] ” وأدانه بأنه ” يستحق الشجب المُطلَقَ “. لذلك، فتَّشَ غوتفريد بن عن بديلٍ سِيَريّ للوعي الذي يعزُل الألم ويضربه. من هنا كان مذهبه في التقهقُر البيولوجي – العودة إلى حالةٍ بدائيّةٍ يُختّذَل فيها الوعي أو يُحلّ – ودفاعه عن فن هو تعبيريّ بشكلٍ كامل، إلى درجة خدمة صِلات تقليدية بين الشعور والإدراك. وأعلنَ ” لا وجود لِما يُسمّى بالواقع. هناك وعيٌ إنسانيّ يتشكَّل باطّراد، ويبني باجتهاد، ويُعاني ويترك بصمته العقلية على عوالمَ بعيدة عن متناول مخزونه الإبداعي ”
إنّ لتمجيد بن للغرائز البدائيّة نظائرَ عديدةً في أعمالِ مُعاصريه، ولكن لا د,هـ لورنس ولا المُستقبليين، ولا الدادائيين والسُرياليين قدَّموا مثل هذا الضرب من المُجادلات العقليّة – المُستقاة من العلوم، من عِلم الاجتماع ومن عِلم الجمال – دعماً لنزعة مسعورة من مُعاداة العقلانيّة. الشخصيات والـ personae في قصائد بن المُبكِّرة مُقدَّمة بصورة سلبية بقدر ما هي منفردة. في قصائد بن الرصينة لديوانه الأول، ” مَشْرَحة ” (1912)، تأخذ فرديَّتها شكل مرضٍ لا براءَ منه إلا بفناء الجسد. لذا في قصيدة ” رجل وامرأة يسيران في جناح السرطان ” يقول :
حول كل سرير تمتد حقولٌ .
اللحم يصبحُ على مستوى الأرض. الحرارة تنتقل .
النسغ يستعدّ للتدفُّق. الأرض تنادي .
الكثير من الشيء نفسه يصحُّ على شخصيات بن في قصيدة ” مقهى ليليّ “، التي اختُذِلَتْ فرديَّتها إلى نعوت مثل ” أسنان خضراء، بثور على وجهه “، ” التهاب المُلتحمة “، ” قوباء الذقن “. ويمكن للشهوة الجنسية أنْ تخلقَ نوعاً من التواصُل أو الوِحدة بين مخلوقات بشرية تبدو في حالة أخرى كلحمٍ مريض. وكالموت، تُذيبُ الشهوة الجنسية فردانية كالتي يُضفيها بن على شخصياته هنا، فردانيّة تقتصر على الظواهر، لأنه لا يوجد جسر بين حياة شخص الداخلية وحياة شخص آخر. وحيث تكون النساء شهيرات – كما في ” قطار إكسبريس ” أو ” قطار نَفَقي ” – فمن طبعهنّ أنْ يُحرِّرن الذَكَر من ضميره الموجِع ليبلغَ ما سمّاه بن ذات مرة ” تساميهم البهيمي “، تراجعٌ إلى غريزةٍ قَرَنها بخصب الحياة النباتية الاستوائية :
طوال فصل الربيع تسير المرأة الغريبة .
القدم التي ترتدي الجورب موجودة هناك. أما أين تنتهي
فبعيد عني. أجهشت بالبكاء على العتبة :
خصوبة حارة ورطبة، رطوبة غريبة تعبق .
آه، كيف يُشتت فمها الهواء الحار والرطب !
أنتِ عقل من الورود، وبحر من الدماء، وإلاهة الغسق ،
أنتِ سرير من التراب، ما أجمل تدفُّق خطوتك الواسعة
من ردفيك، الانزلاق الذي هو مشيتك .
ظلام : تحت أثوابها يعيش الآن :
حيوان أبيض فقط، عطر رخو، صامت .
كلام فارغ بائس، مُثقل بالله .
جبيني يُقلقني. آه ذلك إطار
من الأزهار المتعنقده سوف يأخذ مكانه ،
لينتفخ في وِحدة وتدفُّق ورعدة …
هناك توازٍ مُدهِش بين هواجس بن  في هذه المرحلة – التي تراكمت في العَدَميّة منتشيّة لتلك القصائد كما في ” بالاو “، المكتوبة في منتصف العشرينات – ومقطع في قصيدة و.هـ أودن ” مدفوع للجانبين ” :
أيمكن أني كنتُ ساذجاً عاشَ
قبل الكارثة أرسلَ عدَّائيه هنا ؛
أصغر من الديدان، ديدان لديها الكثير لتحمله .
نعم، المعادن كانت أفضل : هل يمكنني إلا أنْ أرى
هذه الغابات، هذه الحقول النضرة، هذا العالم الحيّ
مُجدِباً كالقمر .

بعيداً عن مشهد القمر ” المُجدِب ” في البيت الختامي، يمكن لهذه المقطع من قصيدة أودن أنْ يكون إعادة صِياغة لأول صدور لقصيدة غوتفريد بن ” أغنية ” عام 1913 :
آه لو كنا أسلافنا الأوائل .
كتلة صغيرة من الطين في مُستنقعات فاترة .
حياتنا وموتنا، نتزاوج ونلد
دفق منزلِق من نسغنا الصامت .
ورقة طحلب أو أكمة على الكثبان ،
شكَّلتها الريح وتثاقلَتْ نحو الأرض .
رأس صغير ليعسوب، جناح نورس
سيكون متقدِّم جداً في المعاناة .
في قصيدة أودن ” تمثيلية تحزيريّة ” يتطرَّق أحد الشخصيات، اسمه جون ناور، باقتضاب إلى هذا التوق الرجعي إلى غياب العقل. وشخصيات personae  بن في قصائده المُبكِّرة – شخصيته إيكاروس في عام 1915 وكارياتد في 1916 هما مِثالان بارزان – لا تُعبِّرُ إلا عن توقٍ إلى ” الازدهار حتى الموت “، إلى أنْ تكون ” بلا عقل ” أو ” بلا جبين “. ولأنَّ بن لم يربط أي قيمة بـ ” الواقع ” في تلك الفترة المُبكّرة، لم تزوِّد حياته الخاصة والمِهنيّة (كاختصاصي في الطب الشرعي) قصائده إلا بصورٍ سلبية، وأعراض عن الفردية واجهها بشعور بالاشمئزاز . وكان رفضه لذاته التجريبية من الغطرسة بحيث أنه رأى نفسه قائداً لحياتين متميَّزتين تماماً، الـ ” حياة المزدوجة ” لسيرته الذاتية. وبعيداً عن رغبته في ربط ذاته التجريبية بتلك الشِعرية، أصرَّ على انفصالهما التام حتى عندما ناقضَتْ ممارسته الشِعرية ذلك الإصرار. وفي الوقت الذي نشر فيه سيرته الذاتية ” Dopplleben ” (حياة مزدوجة) (1950)، كانت personae  وشخصيات قصائده قد أضحت أشدّ تنوّعاً وتبايناً. والأسلوب العاميّ والإيقاعات الرخيّة في العديد من قصائد الـ persona المتأخّرة توازت مع استعداده للاعتراف بتفاهة التاريخ والتجربة الشخصية، وإنْ كان ذلك فقط لكي يُنزِل الهزيمة بالمُطلق الداخلي ؛ وذاته التجريبية جليّة تماماً في القصائد المتأخّرة مثل Ideelles Weiterleben ? (هل يبقى المثل الأعلى ؟) :
حديثاً
رجلٌ منشور، عتيق الطِراز
مات باكراً أو ربما متأخّراً
يتكلّمون عنه وكأنه مُغنٍ
طبقة صوته العالية تعبَتْ
أو كأنه صائد ثعالب صغير مسكين مع حفنة من الأشعار –
أو أقل من هذا : عادي ،
لم يركب أبداً طائرة ،
ولم يقُد سيارة بورغوارد –
بنسات تُدفَع على الحافلة ،
في الغالب هي تعرفة العودة …
المتكلِّم في تلك القصيدة ليست ” أنا ” بن ” الشِعرية ” الموجودة في القصائد المُبكِّرة – الذات الشِعرية التي تستخدم ” الواقع ” فقط كوقودٍ لنشوة ذاتيّة، ويُصبح أشدّ كثافة عندما يُستَهلَك العالم الخارجي ويُدمَّر – لكنَّ الرجل الاجتماعي و ” المثقف ” الذي نأى بنفسه عن الشاعر لكي يُثمّنه من وِجهة نظر دنيويّة. وعلى الرغم من أنه ظلَّ صعباً على بن أنْ يتطابق مع أي شخص غير الفنانين، فإنَّ آخر قصائد الـ persona، ” شوبان ” و ” أمسيات حيوات معيَّنة “، وتلقيان بلسان رامبرانت وشكسبير، فتبيِّنان انتقالاً من التشديد إلى التفاهة العملية والمظاهر الخارجية للحياة الإنسانية. لقد تغيَّر شِعر بن ” المُطلَق ” بشكلٍ كامل، والذي بقيَ يُدافع عنه دون هوادة حتى النهاية، بأسلوب وبجدال تينك القصيدتين. وانعكاسات شكسبير على عمله في قصيدة ” أمسيات حيوات مُعيَّنة ” – عبارة ” بجعة آفون تتمخَّط ” هي مقدّمةٍ تُحدِّد النبرة – تستطلع إنجازه بشموليّة تشبه استطلاع قصيدة ” أمسيات حيوات مُعيَّنة ”  إنجاز غوتفريد بن من منظورٍ يقعُ خارج وعي الشاعر المنعزل. والنقيض القصيّ لمعتقدات بن المُبكّرة يظهر في واحدة من آخر قصائدة، Mensche Getroffen (أناس يجتمعون)، المنشورة قُبيل موته في عام 1956. وعلى الرغم من أنَّ هذه القصيدة ليست قصيدة persona كما ينبغي، إلا أنها تقدِّم شخصيات يُميّزها أنها تُلغي ذاتها، تقليدية من الخارج و ” رقيقة وفعّالة من الخارج مثل نوسيكا Nausicaa “. ويختمُ بن، الذي كان قد تباهى بأنه عَدَميّ وأخلاقيّ في شِعره، وليس في حياته، بثلاثة أبيات يُكاد الشِعر فيها لا يهمّ  والـ ” أنا الشِعرية ” تنمحي بقدر امًحاء الشخصيات التي تثني القصيدة عليها :
غالباً ما تساءلتُ، لكنني لم أجد جواباً ،
من أين تأتي الرقّة والطيبة ؛
وحتى اليوم لا أعلم، وحان الوقت للذهاب .
ولكي نقبض على تضمين ذلك التغيير في الأسلوب – وأكثر من الأسلوب بكثير – علينا أنْ نُقارن قصائد لاحقة من هذا النوع (واستمرَّ بن في تأليف قصائد على النمط الرومانسي الجديد أو الكلاسيكي الجديد) مع قصائده التي كتبها في العشرينات، التي يكتسح إيقاعها الأنيق، وإيقاعاتها المنتظمة ونحوها الموجز، أشد الشذرات تنوّعاً من التاريخ، والأسطورة والفِكر المفاهيمي ويُحوّلها إلى دفقٍ ذاتيّ وعَدَميّ بأكمله، دفق بدائي هو رفض لكل نظام متحضِّر. لذلك نجد في قصيدة ” بالاو ” (1925) :
” المساء أحمر على جزيرة بالاو
والظلال تغوص – ”
غنِّ، من كأس المرأة أيضاً
يلذُّ الشراب ،
صِغار البوم تُطلق صرخة الموت
وساعة الموت تواصلُ سيرها ،
قريباً جداً ستخرج
حيوانات الليمور وسيحلّ الليل .
دافئ هذا الحيد البحري. من شجر الأوكاليبتوس يتدفق
مزيج من شراب النخيل الاستوائي ،
كل ما لا يزال صامداً وباقياً
أيضاً يتوقُ إلى الدمار
حتى مرحلة انعدام الأطراف،
حتى الفراغ
عودة إلى العصر البدائي
إلى رحم المُحيط المُظلم.
في شِعر بن في تلك الفترة ليس هناك حيِّز للشخصيات المنفردة، مع أنَّ قصيدة “الدانماركية” توحي بالفردية من عنوانها فقط لاختزالها إلى “إيزولد العدم” ويحتفي بها من خلال الدفق الذي يستهلك كل فرديّة. وصوت الشاعر، في القصيدة نفسها، مُبتعد قدر الإمكان عن الصوت المتكلِّم لغوتفريد بن الرجل. وعلى الرغم من التلميحات إلى ظواهر ومفاهيم مُعاصِرة في ” Die Danin ” – عبارة  ”  philosophia perennis ” تتناغم مع ” tennis “، و ” rewarding odds ” مع ” Gods ” – فإنَّ هذه القصائد هي ” مُطلَقَة ”  في إفنائها للذات التجريبية ووعيها المشروط، الظرفيّ.
[1] – جَزيريّ : نسبة إلى جزيرة .
[2] – أو تميُّز الشخصية .
من كتاب بعنوان “حقيقة الشعر – التوترات التي تجلَّت في الشِعر الحديث
من بودلير وحتى ستينات القرن العشرين”.
ترجمة: أسامة منزلجي
خاص بأوكسجين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى