الرقص على إيقاع الإنتظار
عناية جابر
هذا الصباح، صباح حياتي الأمريكية الصغيرة الجديد كان الفجر حدثاً بقدر ما كان عزاء. من نافذتي، الشارع الطويل النظيف لا يزال مظلماً، مبللاً، ضارباً الى الزرقة. حفيف أشجار تحت سماء موصدة وقد تعوّدت عليها الآن. إن رؤية شاطئ بيروت في خيالاتي صارت تفوق طاقتي. بدأت أرقص على إيقاع إنتظار، وكأني هنا في نقاهة إلزامية، إبتسامة ساخرة على شفتي، أنا جلادّة ذاتي، شغفة بالمدن التي تعذبني أكثر، بالرجال ذوي العاهات، بقصص الحب الناقصة، ثم المستحيلة.
ماذا لو إشتعلت الحرب في بيروت الآن، وتعذرت عودتي! إستحالت؟ رشفت من فنجان قهوتي مستريحة في المقعد الوثير وقد عملت كل ما استطعت لأن أتخلص ولو للحظة من القلق الذي شغل كل حيزي الداخلي وقطع أنفاسي. أنتِ أردتِ الهدوء و السلام فانعمي بهما الآن ولتذهب بيروت الى الجحيم! بدأ شوقي يتضخم ثانية إثر أخرى، وكأنه سائل تهزه حيويتي الخاصة. جامدة لنصف ساعة بلا حراك وقد تراكم القلق طبقات في قلبي، أو هو رأسي لا أدري. لتذهب بيروت الى الجحيم أجل، ما بالك أنتِ وبال بيروت، دعيهم يتقاتلون حتى يشبعوا واهنئي بهذه الإقامة الخضراء المؤقتة. اسرائيل وأمل وحزب الله، تيار المستقبل والقوات والعونيون والكتائب والحزب القومي السوري وإيران وسورية… ثم امريكا. يا عين!! أنتِ الآن في أحضان أمريكا. في عقر دار أمريكا، ضئيلة نحيفة بالشورت والتي شيرت وأمام باب بيتك ‘بارك’ طويل عريض وأشجار وكلاب وسناجب وناس تنزّه كلابها ـ أحدهم ينزّه خمسة كلاب دفعة واحدة ـ وهدوء ورواق ماذا تريدين بعد؟ إنها قصة كبيرة هذه البيروت، ولعلها قصة عادية وتافهة: إنني أعشق بيروت. تقطّعت أنفاسي وأنا في مقعدي، مع ذلك نجحت في أن أنهض وآخذ من على المكتب صورة لي على كورنيش المنارة. أردت أن أستمدّ من هذه الصورة، من ابتسامتي المرغمة قليلاً والتي أجبرتني آلة التصوير عليها، فأنا لا أحب ابتساماتي في الصور، معنى ما، حقيقة ما تفسيرا ما، وسببا واضحا لهذا العشق الذي لا يبارح، ويوجع، ويترحّل معك أينما رحلت.
حركتّ الصورة يميناً ويساراً، نزولاً وصعوداً، فأصبح وجهي مهتزاً غير واضحاً، لكنه البحر الذي يبدو خلفي، البحر سواء من اليمين او من اليسار، صحيحاً او مقلوباً، انه بحري أنا، بحر بيروت، ولم يُشفني منه المنظر الجميل بل الخلاب هنا، الذي رأيته في ‘نيوبورت’ كاشفة المحيط بعيني في مدى لا يحدّه قرار.
أخذت دفتر صور تجمعني وأصحابي في أماكن هنا وهناك في بيروت وغصت فيه كما أغوص في غابة بللتها العاصفة.
شعرت إثر تتابع الصفحات في ‘الالبوم’ بأني لم أكن إلا امرأة صادقة، وحيدة وحزينة. رحت أقلّب الصفحات في محاولة تفحّص الوجوه التي ترافقني، فشعرت كأنني أمسك في الهواء وجهاً وحيداً أحبه، خيالاً عابراً غير موجود في أية صورة. قبضت عليها خارج الألبوم، في الصدر، في القلب والفكر كما لو وحدها اعترافاتي الحقيقية.
أخرجت سيجارة، وكان حاجز من المطر المنهمر خارجاً قد لطخ الزجاج بسائل فضي كثيف وحجب الرؤية. المطر على كثافته على النافذة على شكل لبن رخو عدواني. قدرت أن أرى سنجاباً على شجرة وهو يطقطق فكه وأسنانه تصطك على ثمرة ما.
ليتقاتلوا ولتذهب بيروت الى الجحيم. إن إيقاع المشي هنا، وطعم السيجارة مختلفان عما أعرفه في بيروت، وقد أديّا الى إخماد شيء ما في داخلي، لا أدري فعلاً ما هو. متوترة توتراً خفيفاً ولكنه نوع التوتر غير الكامل، ولا يُشغل جسمي طويلاً. طيّب.. هذه صورة بيروت تتجمع ثانية أمامي، وليست وحدها، بل كان معها البيت والحي والوجوه والأرصفة والحرب، وبإختصار كتلة الوطن، وحجمه تجّمع في بلعومي كي ينهك عنقي اختناقاً. سيجارة أخرى وكان الضباب يزيد مع المطر والبرودة. برد الهواء هنا، فجائي ومشاكس وأحبّ فعلا هذه الألعاب التي تلعبها الطبيعة.
لم أفهم مطلقاً، إذا كنت قد إجتزت بيروت فعلاً، أو إذا كانت رحلتي الأمريكية هذه، خيالات كلها. طيران خارجي وطيران داخلي أتنّقل بين الولايات تاركة لجسدي أن يأخذ كفايته من التعب، ولعيني كفايتهما من الدهشة، ومن الحاجة الى الإغماض، ومشحونة أيضاً بهذه الطاقة التي تكيل لي الضربات بمجرد أن أستيقظ في ضوء الفجر المتلعثم.
سألتني أمي بقلق على التلفون، عن صوتي الواهن. قلت لها: إشتقت الى بيروت. أنا التي أتخمتها بسعادتي لأنني أغادر بيروت، قلت لها اشتقت الى بيروت. كأن حياتي مجموعة تجارب كيميائية، وفي كل سفر أُدخل عنصراً غريباً على جسمي فيرفضه. بقيت أمي صامتة. لم أعرف إذا كانت تبحث عما تقوله لي، أم أنها كانت تحت وقع النبأ، شأنها شأني أنا نفسي أحياناً، إذ لا أفهم تماماً ما الذي أريده. تَنَفستْ بقوة من طرف الهاتف الآخر تنفساً سقط في أعماق أذني. أقفلتْ السماعة. لقد تطورّت اللعبة تطوراً كاملاً.
القدس العربي