صفحات ثقافية

هــــل الــحــــداثـــــة غـــيــــر وفــــيّــــــة ؟

null
ليلى غانم
بشّرتنا الحداثة وما بعدها بفجر جديد في ما عنى مساواة المرأة بالرّجل في مجال الحقوق والعمل وبمقاومة مظاهر التعسّف التي تتعرّض لها. استندت هذه الحداثة في المجال الاقتصادي إلى الفكر النيوليبرالي الذي رفع بدوره شعار تحرير المرأة من التقاليد ومن النظام الأبوي (البطريركي) الذي يحكم علاقة الجنسين، وبتشريك المرأة “الشرقيّة” في كلّ مجالات الحياة أسوة بأخواتها في البلدان الغربية. اعتبرت إيديولوجيا العولمة المرأة أكثر قابليّة لإغراءاتها ووعودها. وقد قاد خبراؤها منذ السبعينات حملة واسعة موجّهة للنساء. ظهرت ملصقات في معظم الدول تخدم هذا الغرض. في هايتي ألصق على جدران العاصمة إعلان يظهر فتاة “جميلة” نحيفة ومبتهجة مع شعار يقول: “إنّها مستعدّة للعمل بدولار واحد. زميلاتها أيضا راغبات في ذلك ومستعدّات للتضحية”. أي أن مهر التحرر هو المزيد من “التضحية”؟!
وجدت المرأة نفسها في الواقع في الخط الأمامي للفقر والإجحاف والحرمان من الثروات الطبيعية، كما وجدت نفسها من حيث النوع مجرد سلعة استهلاكية في السوق. هل تمثّل العولمة حقّا فرصة للمرأة الشرقيّة (أو الغربيّة أيضاً) كي تُبرز قدراتها وتساهم بصفة فعّالة في نحت معالم المجتمع وصنع القرار؟
في الأدبيات النسوية خاصة اليسارية منها يكثر توصيف النظام الذي يحكم العلاقات الاجتماعية بين الجنسين بالنظام الأبوي أو البطريركي. وهو تعبير يلخص نظام اجتماعي- سياسي- أخلاقي- عائلي يمكّن الرّجل من الهيمنة على جميع المستويات ويقرّ له الحقّ بأخذ القرارات نيابة عن المرأة بما في ذلك تلك التي تتعلّق بحياتها الخاصّة. يقتصر دور المرأة في هذا النّظام على القيام بالمهامّ المنزليّة وتربية الأطفال، وهو نظام يقوم على عدم المساواة بين الجنسين ويختصّ بقواعد سلوك وأحكام مهينة بالمرأة من ذلك ما يعرف في بعض المجتمعات بـ”العصمة” التي تمكّن الرّجل من سلطة تتواصل حتى بعد وفاته إذ تحرم المرأة من القرار الذي يخصّ أطفالها وتظلّ تابعة في ذلك لأحد الأقارب.
وبدون شكّ يختلف ترسّخ النّظام البطريركي من مجتمع لآخر وذلك بالصلة مع التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي عرفتها مختلف المجتمعات. فلو تعرّضنا لمجتمعات لم تعرف ثورات تحررية كبرى وتحولات اجتماعية عميقة كالمجتمعات العربيّة، نلاحظ أن آثار النظام البطريركي، ماثلة بقسوة رغم انفتاح الأسواق وتوسع الاستهلاك وارتفاع مستوى التعليم، فالاحتكاك بـ”الحداثة” غيّر بعض المظاهر الخارجية ولم يغيّر في أصل الحقوق.
حرية المرأة وصراع الحضارات
تركّز الدّعاية النيوليبرالية على إبراز الفروق بين وضعيّة المرأة في بلدان الجنوب، بالأخصّ منها العربيّة والمسلمة، ووضعيّة المرأة في البلدان المصنّعة وتقدّم لنا صورة للمرأة “الشرقيّة” لا تخلو من عنصريّة. والحقيقة أن موضوع المرأة وتحررها قد استخدم إلى أقصى مدى في تعميق منطق صراع الحضارات. وقد أخذ كثير من المثقفين الغربيين على عاتقهم التحريض بواسطة موضوعات مثل تعدد الزوجات والختان والحجاب…، وقد سقط في هذا الشرك عدد كبير من الكتاب العرب الذين اشتهروا في الغرب، (ولعل ما ساهم بشهرتهم، أنهم لبوا الدور المطلوب منهم). لم ينتبه أولئك وهؤلاء (إذا سلمنا بحسن النية) أن مقاربة هذه الموضوعات ينبغي أن تتم بموضوعية بأبعادها المتكاملة من حيث التاريخ والاجتماع بما فيه البعد الثقافي. ونتساءل هنا لماذا لم يدخل احد في سجال حول الإرث (الذي كان الإسلام فيه سباقا باحترام حق المرأة). لقد وظفت الأجندة الاستعمارية وضعية المرأة على نحو دائم في إبراز “تخلّف معتقدات الشعوب”، وبدائية نظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لتبرير اضطلاع الاستعمار بمحو الفارق الحضاري ونقل الشعوب من الهمجية إلى المدنية.
إن التخلف الحقيقي الذي عانت منه مجتمعاتنا هو محصلة لمرحلة طويلة من الغزو الاستعماري، أدى الى تدمير طرق العيش والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لم تنل المرأة خلاله أياً من حقوقها، بل على العكس من ذلك، قضى الاستعمار على مجمل باكورات حركات التحرر الوطني والاجتماعي، وحرم المجتمعات من كامل طاقتها في التغيير ودعم إلى أقصى حد القوى المحافظة، فعانت المرأة الإضطهادين الاجتماعي والوطني فضلاً عن اضطهادها النوعي.
بين الأمس واليوم
لا يضع الفكر النيوليبرالي على عاتقه، محو الفارق الحضاري، “فالحضارات تتصارع ولا تتكامل”، و”ليس كل الناس مؤهلين بطبعهم للديموقراطية…”، حسب فولفيتش، لكنهم مستهلكون والاستهلاك هو “طريق العبور إلى الحرية والديموقراطية والازدهار”.
تستهوي مقولة الاستهلاك هذه، الحداثيين، لا سيما  دعاة حرية المرأة. فدعاة الإنتاجوية يعزون حرية المرأة في البلدان الصناعية، الى النمو الرأسمالي، ومشاركة المرأة في العمل. هذا التفسير مقلوب على رأسه، فالحقيقة أن إعاقة حرية الرأسمال الكبير، في البلدان الصناعية، هي ما أدى إلى التحرر الاجتماعي، والمتضررون من هذه الحرية انتزعوا حقوقهم بتضحيات جسام، وقد شاركت المرأة في كل هذه التضحيات، وخاضت من ثم معركة المساواة بين الجنسين (في خضم ثورة 68) ولم تنل حقها بالمساواة في العمل والأجر حتى الآن، بل إنها تعاني حالياً، من حملة التراجع عن الحقوق المكتسبة، لأن الرأسمال الكبير يقوم بتكسير كل القوانين الاجتماعية المقيدة لحركته في البلدان الصناعية.
المرأة والاستهلاك
تؤكد الشركات العابرة للقارات أن طريق العبور الى الدّيمقراطيّة والحداثة يمر بالضرورة من تعميم ثقافة واقتصاد السوق وفرض السلع الاستهلاكيّة. شعارها: “إذا أردتم الدّيموقراطيّة فاستهلكوا واشتروا”. تركّز وسائل الدّعاية على المرأة محاولة فرض نموذج الفتاة “الغربيّة-العصريّة” في مخيلة كلّ النسوة. المرأة هي أداة وموضوع للاستهلاك في آن واحد. فهي محطّة من محطّات الإنتاج والتسويق ومفصل من مفاصل النظام الاستهلاكي العالمي. نموذج المرأة هي تلك المرأة المثيرة والتافهة. مرّة تبيع السيارات والثلاجات ومرّة آلات الغسيل ومواد التجميل. والبرامج الأكثر “نجاحا” لبعض قنوات التلفزيّون، هي تلك التي تعتني بـ”تخسيس الوزن” (Régime) أو بجراحة التجميل. في الولايات المتّحدة الاميركية خضعت أكثر من 3 ملايين امرأة لجراحة التجميل ولتغيير الذقن والأنف وتكبير الصدر أو تصغيره. أما في الدول العربية فالظاهرة على انتشار وبدأت تطول شريحة واسعة من الطبقة الوسطى. ولا تخلو هذه الصناعة من مآسٍ، لكنها باتت “قيمة عصرية” لحرية المرأة، مثلما باتت الرضاعة، على سبيل المثال “قيمة متخلفة”، لأن شركات حليب الأطفال تروّج كذباً أن حليب الأم الطبيعي لا يوفر مكملات غذائية كالحليب المجفّف.
عبودية المرأة العصرية العاملة
وإذا كانت العولمة تعني تحرير الأسواق من أية عوائق أو قوانين اجتماعية، فهي تتسم بتغيير مواقع الإنتاج بحثا عن الربح الأقصى واليد العاملة البخسة. وقد وجدت ضالتها في بلدان الجنوب لا سيما في قطاعات الإلكترونيك والنسيج والبلاستيك والمبيدات وإنتاج اللعب، حيث تهدر حقوق العاملات بصورة بشعة. وتبيّن إحصاءات مكتب العمل الدولي أنّ 90% من العمّال في الشركات المتعددة الجنسية هنّ فتيات غير متزوّجات يعملن بين 10 و14 ساعة في اليوم، دون أية ضمانات صحية واجتماعية. في بعض بلدان الجنوب حدّد البنك الدولي الأجر الأدنى الصناعي بين دولار ودولارين في اليوم.
وفي طقوس العبودية المعمول بها في هذه القطاعات تُجبر المرأة على الإنـحناء طوعاً، كلما مرّ مسؤول بجانبها، وتفرض عليها عقوبات الطاعة مثل الطواف حول المصنع، جرياً، مرات عديدة. كما يعمد المسؤولون الى غلق أفواه العاملات بمادّة لاصقة حتى لا يتبادلن الحديث أثناء العمل. وفي قطاعات التنظيف، تعمل المرأة بأجر زهيد بخس ولا تدخل في لائحة العاملات الرسميات. وبحسب مكتب العمل الدولي، لا يتجاوز عمر حوالى 90 ٪ من هؤلاء العاملات، 16 سنة، ويتم استيرادهن من مناطق بعيدة ويتعرّضن للإهانة والتحرّش الجنسي. كذلك تقف المرأة في صدارة الأعمال المضرة بالصحة، وهي أول من يتعرّضن للإقصاء والتهميش إثر أي تغيير أو حادث طارئ.
المرأة سلعة جنسيّة معولمة:
فتحت حرية الرأسمال، فتحاً غير مسبوق في “صناعة الجنس”. مادّتها الأوّليّة الأطفال والفتيات والنسوة، ومعالجتها تقع في مصانع تشرف عليها عصابات الإجرام والمخدّرات والمافيا لتُقدّم للاستهلاك مثلها مثل أي بضاعة. فبالإضافة إلى إعتماد بعض بلدان الجنوب على هذه الصناعة، في نمو “السياحة” والدخل الوطني، مثل تايلندا وغيرها، فإن المادة الجنسية الخام تُصدّر إلى الدول الصناعية من أوروبا الشرقية وبلدان الجنوب. في النمسا تصل نسبة النساء الأجنبيات العاملات في هذه التجارة 90 ٪، وفي هولندا 80 ٪، و في البرتغال 50 ٪…، ويرى الكاتب ريتشار بولان أن هذه التجارة درّت على عصابات الإجرام والمافيا 7.5 مليار دولاراً في السنة إبتداء من عام 1990 وبلغت 9 مليارات دولار عام 2005، بينما يبلغ سعر بيع الفتاة في البلقان، 500 دولاراً.
في كندا أقرّ مجلس الأحوال الشخصية للمرأة، في تقريره السنوي، أن تجارة الجنس في مونتريال تعتمد على إستيراد النساء من روسيا وأن المافيا الروسية تدمجهّن في شبكات الدعارة، خلال ظرف وجيز لا يتعدى ثلاثة أسابيع.
المرأة في الصدارة في مقاومة العولمة:
ما من شكّ في أنّ العولمة النيوليبراليّة لم تأتِ بالحداثة والحرية التي وعدت بها، بل عرفت كيف تتأقلم مع النظام الأبوي وتوظفه لمصلحتها في تسخير دور المرأة وعملها لمصلحة قوانين السوق. وإذا كانت نجحت في إرساء ثقافة معولمة للقمع وهدر الحقوق وتحويل البشر إلى سلعة، لكنها لم تنجح في إطفاء جذوة المتضررين من هذه الحريات، بل لعلها ساعدت على عولمة مقاومتهم. فالمرأة التي تتعرض للتهميش، وهدر الحقوق، تقف على الجبهة الأمامية أينما كان في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، وهي، وإن لم تتصدر مقاومة الزحف العسكري في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان، إنما هي مشاركة في الجبهة الخلفية، وتتميز عن الرجل في باقي أنحاء الأرض بالعمل على إعادة البناء، على الرغم من الإمكانات الطفيفة أو بسبب قلة الإمكانيات. وهي حاضرة على جبهة مكافحة الفقر والإجحاف والجوع للمحافظة على بقاء أولادها وأسرتها، فعلى مستوى المحليات اضطلعت في كثير من الدول، بتجارب انشاء شبكات التعاون والتضامن الزراعي. ثم ساهمت، وهي الأمية بالمقياس الحداثوي، في إنشاء شبكات التجارة المتكافئة في الأسواق العالمية، وشبكات تأهيل العاملات وإعادة تنظيم الأسواق والمدارس. وكذلك شبكات المحافظة على البيئة والمياه والأرض. فقدّمت نماذج حية، في إعادة البناء والتنظيم والتضامن.
وبالمقارنة مع آليات الخراب، التي تعممها مؤسسات الأبحاث الكبرى والحكومات والمؤسسات الدولية، فإن تجارب مقاومة المرأة تنبئ بإمكان إنشاء عالم آخر أكثر إنسانية، وأكثر حرية، من عالم الحروب والشركات الكبرى.
العولمة والمرأة: الأرقام
–    80% من فقراء العالم نساء.
–    تحصل النساء على أقلّ من 1% من خيرات العالم.
–    تعمل النساء 70% من مجموع ساعات العمل، ولا تحصل إلا على عشر المداخيل.
–    تخصّص النساء في العالم بين 31 و42 ساعة عمل غير معترف به وبدون أجر في الأسبوع.
–    تتقاضى النساء في القطاع الزراعي 80% من أجور الرّجال (51% في اليابان).
–    من بين 300 مليون طفل لم يتمكّنوا من الالتحاق بالمدارس هناك 200 مليون فتاة.
–    120 مليون فتاة في العالم سنهنّ بين 5 و14 سنة يشتغلن في المصانع والمزارع.
–    من بين مليار أمّي هناك 650 مليون امرأة.
–    تنتج المرأة 80% من المواد الغذائيّة في المناطق الأكثر فقرا.
–    تدرّ تجارة النساء 9 مليارات دولار في السنة.
–    20% إلى 50% من نساء العالم يتعرّضن للعنف.
–    أكثر من 4 ملايين امرأة اميركية يتعرّضن سنويّا للعنف الجسدي في الولايات المتّحدة.
–    يفوق عدد النساء الاميركيات اللاتي يفقدن الحياة كلّ سنة نتيجة العنف الجسدي المسلّط عليهنّ من أزواجهنّ أو العنف الجنسي والإجرامي عدد ضحايا حوادث 11 ايلول.
–    سبع نساء مغربيات من عشر يتعرّضن للضرب وتبلغ هذه النسبة 25% في مصر و64% في اليمن.
–    في البلدان العربيّة 60% من ضحايا قضايا الشّرف من النساء.
–    تبلغ جرائم الشرف في العالم 5000 في السنة.
–    تبلغ جرائم الاغتصاب 3% من جملة الجرائم في إفريقيا الجنوبيّة و16% في الولايات المتّحدة.
–    في الولايات المتّحدة هناك حالة اغتصاب واحدة كلّ ست ثواني (إحصائيات رسميّة).
–    يتقاضى مدير شركة نايك (Nike)  مرتبا سنويا يُقدّر بمليون دولار وتتقاضى عاملة أندونيسية بشركة نايك (فرع لها يضمّ 5200 فتاة بين 17 و21 سنة) 360 دولارا سنويّا. على كلّ فتاة أندونيسيّة أن تعمل 15 قرنا لتحصل على أجر مدير الشركة.
–    85% من جملة 35 مليون عامل في السلاسل التجاريّة من النسوة.
(المراجع: البيانات الرسمية للدول أو موقع منظّمة الأمم المتّحدة)
(رئيسة تحرير مجلة “بدائل” التي تصدر بالتعاون مع مجلة “ذي أيكولوجيست” البريطانية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى