عصر القراء وشيطنات الرأي العام
بلال خبيز
حين نشر ادولف هتلر كتابه “كفاحي” لم ير فيه المثقفون الالمان اي خطر داهم. الكتاب برمته كان انشاء لفظياً منتصراً، ولم يكن يرقى إلى مرتبة الكتب. بل ولم يكلف ايٌّ منهم نفسه الرد على مزاعمه او افكاره الناقصة، لأنهم جميعاً ارادوا الانصراف إلى ما يرون فيه فائدة لهم وللعموم. لكن ادولف هتلر، بعد سنوات قليلة اثبت انه قادر ليس على تدمير الثقافة الألمانية فحسب، بل على ليّ التاريخ برمته. هتلر في هذا المعنى يكاد يكون ابرز الشخصيات التاريخية التي هزّت فكرة الحتميات التاريخية وجعلتها تقع في موقع الدفاع عن نفسها.
الكتّاب والمفكرون رأوا في هتلر كاتباً ناقصاً. لم يكن يستطيع ان يجاري الكتّاب الألمان في متانة الانشاء ولا في استيلاد الأفكار. كان هتلر في هذا المعنى واحداً من الجمهور. اي ان اختياره الكتابة وسيلة للتعبير عما يريد التعبير عنه، يؤكد على نحو لا مراء فيه، انه واحد من الذين يستهلكون هذا الضرب من الانتاج الثقافي.
كتّاب ناقصون
لم يقتصر امر هتلر على الكتابة وحدها، بل تعداها إلى الكثير من انواع الفنون. فكان يفضل فلاسفة على آخرين ويحابي معماريين على معماريين، ويرى نفسه متآلفة مع موسيقيين معينين اكثر مما يراها متآلفة مع غيرهم. وككل مواطن يجيد القراءة والكتابة ويملك الوقت لمتابعة بعض الاعمال المسرحية والسينمائية وحفظ بعض الشعر، كان متلقياً وناقداً. معنى ان يكون متلقياً، انه كان يرى في فاغنر ما لا يستطيع ان يكونه هو نفسه، وانه كان يرى في ما كتبه فريدريك نيتشه ما لا يستطيع هو نفسه ان يكتبه. لكن هتلر مثله مثل غيره من السياسيين الذين طبعوا التاريخ ببصمتهم الشخصية، لم يكن يجرؤ في قرارة نفسه ولا حتى في اكثر احلامه جموحاً ان ينافس نيتشه او فاغنر او غوته. لهذا كان تمجيد بعض هؤلاء على رغم رقة حاشية الصلة احياناً بين السياسي والزعيم والمبدعين عموماً، يؤدي لا محالة إلى ردهم إلى روح الجماعة، ومحاولة تنسيبهم إلى جو عام، كأن يكون احد اسباب عظمة غوته ينبع من كونه المانياً. درجت في اوروبا ما قبل الحرب العالمية الأولى وفي حمأة التحضير لها، حملات تسفيه للشعوب التي تتكون منها اوروبا، فكان الفرنسيون يذمّون الألمان، والالمان يبادلونهم الذم والتحقير، وكذا فعل كل شعب من الشعوب التي تكونت منها اوروبا في ذلك الحين. وصل الامر بالصحافة الالمانية انذاك، وامام استعصاء دانتي، صاحب “الكوميديا الإلهية”، في نسبته إلى التفاهة والاسفاف، ان شككت في نسبه الإيطالي. إذ لم تكن الصحافة الألمانية يومذاك مستعدة لتقبل ان يولد بين ابناء الشعب الإيطالي عبقري بمثل عبقرية دانتي، فأخذوا يبحثون في الجذور توصلاً إلى تنسيبه إلى اصل الماني، هو، أي هذا الأصل، السبب في ابداعه العظيم وعبقريته التي لا جدال فيها.
غني عن البيان ان مثل هذا التأصيل الأعمى يفتح المجال واسعاً لولادة انواع التطرف الشوفيني كافة. الأرجح ان الحرب العالمية الثانية بالنسبة الى هتلر والحزب النازي، كانت في معنى من المعاني استكمالاً لهذه الحمّى التي اصابت اوروبا قبيل الحرب العالمية الأولى وفي اثنائها. لكن الحرب الأولى، وإن كانت تطفح بعفن الشوفينية المحاربة، إلا انها كانت تفتقر الى من كان مثل هتلر وموسوليني وفرنكو لتتحول حرباً شاملة لا هوادة فيها. ذلك ان المانيا قبل الحرب العالمية الثانية، لم تكن فقدت بعد كل منافع الفصل الذي كان قائماً في عصور الامبراطوريات الكبرى بين الفنون عموماً والشؤون العامة. يوم كانت الفنون مرعية وتحتاج الى من يحنو عليها ويسندها ويؤمن الحاجة إليها. فكان اعتراف البلاط بالموسيقي او الشاعر او المفكر هو المآل الاخير لكل فنان او كاتب او شاعر.
لم تكن الفنون والكتابة عموماً تستطيع ان تتخلص من تبعيتها للبلاط الامبراطوري والاريستوقراطيات الكبرى من دون ان تحصّل قبل ذلك قدرة ذاتية على الانتشار بين عموم الناس. ساهم التطور التكنولوجي طبعاً في ذلك. ففي تلك العصور كانت المطبعة هي المحرك الأول، والازدهار الاقتصادي والانفتاح الثقافي الذي ضرب اوروبا في تلك الفترة، فضلاً عن انتشار المدراس والجامعات وتمكن فئات واسعة من الشعوب من التعلم والتثقف وتزجية اوقات الفراغ التي تزايدت بفعل الازدهار الاقتصادي في متابعة اعمال المسرح وبدايات السينما وقراءة الروايات ودواوين الشعر ومشاهدة المعارض الفنية، كانت اسباباً حاسمة في تغير وظائف الفنون والكتابة عموماً. ومع انتشار التعليم وكثرة اوقات الفراغ، اصبح في امكان كارل ماركس ان يكتب “رأس المال” من دون ان يهديه إلى ولي الأمر او الامير او الامبراطور، ويذيّله بعبارة: “انا العبد الحقير الفقير” قبل ان يوقّع اسمه، على ما كان رائجاً في تلك الآونة. ذلك ان من يتوجه اليه ماركس لينصّبه علماً على العصر الذي تلاه، لم يكن الامراء والنبلاء، بل عموم الشعب وصفوف العامة التي باتت تستطيع ان تنصّب ملوكاً وتنزع تيجانأ وتصنع نجوماً. بل ان مأساة ماركس نفسه، ان كتابه “رأس المال” الذي طبع منه في فرنسا ما يقارب الالف نسخة فقط، لم ينفد من المكتبات طوال خمسة وعشرين عاماً. وكان ناشره ارسل نسخاً مجانية منه بواسطة البريد إلى بعض من ظن انهم قد يهتمون لقراءته، فعادت إليه جميعاً لأن احداً لم يقبل ان يتحمل كلفة الخدمة البريدية.
صولجان الورثة
مجد كارل ماركس لم يعط لكارل ماركس. وكذا كانت حال كثيرين غيره من الكتّاب والفنانين الذين لم يملكوا امجادهم بأنفسهم، وورثها عنهم ورثة مختلفون. لقد حاز قراء ماركس مجده كله، على رغم ان المسافة التي كانت تفصل بينه وبين القارئ العادي لم تكن بيسيرة في اي حال من الأحوال. بل ان ستيفان زفايغ يصف الفارق بين برودون وماركس على النحو الآتي: لو ان حلقة تلفزيونية جمعت الرجلين لفاز فيها برودون من دون اي جدال، لكن مناظرة كتابية بين الرجلين ستؤدي لا محالة إلى تحطيم برودون وعقل لسانه، مما يعني ان برودون كان يدرك في وجه من الوجوه ان الصلة المباشرة مع العامة هي التي تستطيع تنصيبه ملكاً على اقرانه وسلطاناً طويل الباع وحاد الأنياب. هذا على رغم ان برودون نفسه لا يتورع عن القول: “انا مدين لليأس بكل ما انا عليه”. الأمر الذي يعني، بداهة، ان برودون ايضاً كان ناسكاً متعبداً لأبحاثه، وان الكتب كانت تملك روحه وجسده في آن واحد. وهذه اكثر صفات الفنانين والعباقرة تبجيلاً ومدعاة الى التقدير العميق.
كان برودون نجم زمانه، اما ماركس فكان نبي زمانه الشريد. ذلك ان قراء برودون كانوا يقيمون صلة مباشرة معه. لم يكن برودون يكتب بالدقة والتعقيد اللذين طبعا كتابات كارل ماركس او ايمانويل كانط، وكان في وسع قارئه ان يباشره من دون وسيط. وفي وقت كان كانط يكتب لقارئ واحد، هو الأمير، فإن ماركس كان يكتب لقراء مجهولين ومتعددين ولا حصر لهم، مما جعل حياة الأخير وموته من دون مجد على الإطلاق، حيث لم يمش في جنازته سوى ثمانية اشخاص بمن فيهم افراد العائلة. ذلك ان ماركس، ككاتب، اخطأ التوجه، فلم يكتب للأمير ولم يبسط ما كتبه ليدخل في افهام العامة من دون وسيط. وتكاد تكون قصة اسحق دويتشر تامة البيان عن محنة ماركس نفسه. ذلك ان المؤرخ الشيوعي في حزب لينين، وكاتب سير ابرز قادة البلاشفة، قرأ “رأس المال”، فلم يفهم منه شيئاً، فذهب إلى مسؤول المال في الحزب يسأله المساعدة، فنصحه هذا الأخير بصرف النظر عن قراءة “رأس المال”، والاكتفاء ببضع وريقات مكتوبة تلخص اهم ما جاء فيه. وحين قرأ دويتشر الاوراق التي قدمها اليه مسؤول المال في الحزب، وجدها مفيدة للغاية وواضحة تماماً، فسأله هل قرأت “رأس المال”؟ فما كان منه إلا ان اجابه: لم اقرأه لكن منظّر الحزب اعطاني ملخصاً للكتاب. فسأله دويتشر ثانية: وهل قرأ منظّر الحزب “رأس المال”؟ فأجابه مرة اخرى: لا، لكنه قرأ ملخص كارل كاوتسكي.
كتّاب مثل كارل ماركس، نجحوا في صنع مراتب للقراء، فتروتسكي ولينين كانا من قراء كارل ماركس. هذا لا يمنع انهما كانا كاتبين مبرزين، لكنهما كانا من قرائه. وعلى هذه الصفة الأساسية انبنت علاقتهما بالشأن العام. كان لينين وتروتسكي خطيبين مفوهين ويستطيعان التأثير في الجماهير المحتشدة، وهذه كانت حال هتلر ايضاً. لكنهما من ناحية اخرى كانا كاتبين مبرزين ايضاً. وان يكون قارئ كارل ماركس كاتباً فهذا يعني ان ثمة آخرين سيكونون من قراء تروتسكي ولينين، لكن الرجلين لم يتنكرا يوماً لصفتهما كقارئين. وعلى اساس من كونهما قارئين، قادا الثورة التي تحكمت بنصف البشرية تقريباً ردحاً طويلاً. ذلك ان الكتّاب لا يقودون ثورات ولا يتحولون زعماء وقادة، إذا استثنينا فاتسلاف هافل ومادلين اولبرايت ربما. نجوم السينما لا يقودون العالم، فرونالد ريغان اقلع عن كونه ممثلاً سينمائياً قبل ان يصبح رئيساً بزمن طويل، وارنولد شوارزينغر لم يعد نجماً سينمائياً كذلك.
ربما يجدر بنا ان ننظر إلى مثال اكثر معاصرة لنستوضح الصورة على نحو اكثر جلاء. حكم جورج دبليو بوش الولايات المتحدة، وكان الفريق الذي عاونه يضم بين افراده من يمكن اعتبارهم كتّاباً، من امثال بول وولفويتز وريتشارد بيرل، وهؤلاء، الذين يمكن اعتبارهم كتّاباً هم بدورهم قراء امينون لكتّاب اعلى كعباً منهم، برنار لويس وجون اركيا وصموئيل هنتنغتون وديفيد رانفيلد، على سبيل المثال لا الحصر. وما ان بدأت المصاعب تطاول إدارة جورج بوش في الميادين كافة حتى بدأ نجم الكتّاب او اشباه الكتّاب يخبو. استقال وولفويتز مرتين من منصبين مختلفين، وريتشارد بيرل ذهب إلى بيته، وحتى جون بولتون استقال من منصبه سفيراً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة قبل ان يتمم ما جاء من اجله. قد يحكم التاريخ على ادارة بوش الابن لها او عليها. وقد يثبت انه كان محقاً في بعض ما ذهب إليه وكان مخطئاً في جوانب اخرى، لكن الكتّاب والمفكرين لم ينتظروا حكم التاريخ. لقد سقطوا في الحاضر، وغيّروا وبرروا وحاولوا جاهدين فصل ما كتبوه عن مجريات السياسة وما آلت إليه، مثلما فعل فوكوياما في اكثر من مناسبة. تم رجم الكتّاب والمفكرين قبل ان يرجم السياسيين، مثلما تم رجم ماركس قبل ان يرجم تروتسكي، ذلك ان المنطق يقول ان ستالين مولود من رحم تروتسكي ولينين اللذين بدروهما ولدا من رحم ماركس وانجلز. وعلينا ان نحاكم الأصل ونرجمه ليتسنى لنا ان نهزّ ايمان الفرع. علينا ان نقتل الكاتب ليتسنى للقارئ ان يستسلم.
المؤمنون بالكتب
القراء يريدون وضع الكتب في موقع من اثنين: إما ان تكون الكتابة جرماً يستحق القتل والتحريق على ما كان يجري في القرون الوسطى وما سبقها، وإما ان تتحول الكتابة ضرباً من التنبؤ الرسولي. وعلى رغم ان جاك اتالي ينشئ سرداً طويلاً في روايته “اخوّة اليقظانيين” ليثبت ان حيازة الكتاب جريمة، وليس كتابته، إلا ان ذلك لا يغيّر في واقع ان الذي يحاكم حراس كتاب المعلم ارسطو هم ايضاً من القراء. فالمؤمنون قراء، لأن الأديان تتمظهر في كتب ومدونات. ثمة دائماً كتب عوملت كما لو انها سبب للإدانة بالقتل لدى فئة معينة تقابلها فئة اخرى تعتبر هذه الكتب منزهة من كل خطأ وعيب. ولا شك ان ايقاع الكتّاب في واحد من هذين الموقعين يجعلهم يحملون اعباء تفوق طاقة البشر على الاحتمال. هكذا تم وسم هايدغر بميسم النازية، واستمر بلانشو طوال حياته متنسكاً تكفيراً عن ارائه السابقة، اما ريجيس دوبريه فلا يزال يدفع ثمن كتاباته المبكرة عن حرب الغوار في ادغال اميركا اللاتينية، على رغم انه حوكم وسجن بسبب هذا الكتاب. كتاب دوبريه كان في لحظة من لحظات الثورات في ستينات القرن الماضي مثابة انجيل الثوريين في العالم. لكن الهزائم التي منيت بها الحركات الثورية التي اعتمدت على حرب الغوار في اسيا وافريقيا واميركا جعلت النبي السابق مداناً بتهمة الخداع المؤدي إلى الهزيمة والموت. طبعاً لم يكن دوبريه يعرف احداً من الذين اعتنقوا افكاره في تركيا او غواتيمالا او الجزائر، لكن هؤلاء لم يتورعوا عن تحميله مسؤولية هزائمهم على نحو مباشر.
ثبتت الديموقراطيات الحديثة معطيين اساسيين يمكن ملاحظة اثرهما الواضح في كل مكان من العالم. الأول تعلق تعلقاً مباشراً بشيوع عادات القراءة والكتابة، والثاني يتعلق تعلقاً غير مباشر، لكنه واضح المعالم وحاد الأثر، بسلطة الشعب وسيادته. تعليقاً على المعطى الأول يمكننا التأكيد بكل بساطة ان ليس ثمة ثورات في العالم من دون قراء، ومتذوقي فنون تالياً. وان التقسيمات الاجتماعية التي يجدر بنا ان نفكر فيها من الآن وصاعداً بعد ذوبان التقسيمات الطبقية، هي تقسيمات من هذا القبيل: قراء ومتلقّون من جهة وكتّاب وفنانون من جهة ثانية، مواطنون يملكون آراء من جهة اولى، وجماهير مؤمنة تحركها حماستها من جهة ثانية. والحق ان التفريق بين الشعب المؤمن والهائج، الذي يحسب انه يملك رأياً، وبين المواطنين المتمهلين والمتمعنين، يردّنا إلى مناقشات ما بعد الثورة الفرنسية في وصفها تمتلك حظاً من الوجاهة القاطعة. كتب ميشال فوكو في هذا الصدد: تظهر الثورة الفرنسية في تحليلات مونلوزييه، في وصفها الحلقة الأخيرة من عملية التحويل التي قامت بها الملكية المطلقة. وكانت الثورة هي الإنجاز الأخير لهذه السلطة. هل قامت الثورة بعملية انقلاب على الملك؟ البتة. الثورة انجزت عمل الملك وأكملته. يجب ان تُقرأ الثورة في وصفها انجاز الملكية. إنجاز تراجيدي، ممكن، ولكنه انجاز واكتمال سياسي حقيقي. وبذلك نكون قطعنا فعلاً رأس الملك في مشهد ا2 كانون الثاني 1793، ولكننا توجنا عمل الملكية. هكذا تم الكشف عن ذلك الاتفاق، عن حقيقة الملكية عارية والسيادة المنزوعة من النبالة بواسطة الملك وتحويلها من ثم إلى الشعب، الذي وجد نفسه، كما قال مونلوزييه، الوارث الشرعي للملك. كتب: “الشعب السيد: لا داعي لأن نوبخه بمرارة كبيرة. إذ لم يقم إلا بإنجاز عمل أسياده السابقين”. هجاء الشعب في هذا المقال لا يقع في موقع الاعتراض على الديموقراطية التي تنادي بالشعب مصدراً للسلطات. بل ان النظم الديموقراطية كما يوضح بول فيريليو تعنى عناية شديدة في تقنين الرأي وحصره في قنوات محددة واختصاصات في عينها. انما هذا كله لا يخفي واقع ان النظم الديموقراطية تتيح، بل وتشجع السعي العام (من العامة) إلى امتلاك الرأي – تعتقد حنة ارنت ان المواطن لا يستقيم مواطناً من دون حيازة الرأي – وفي خضم هذا السعي الذي تحض عليه الديموقراطيات، تولد الجماهير.
صناعة الجماهير
تتيح النظم الديموقراطية للجماهير ان تتلبس بلبوس المواطنة. وحين تقع هذه النظم في شرك مماثل، تغامر في ان تتحول عن جوهرها وروحها. وهذا ما تذكره معظم المناقشات الأولية التي تناولت وصول هتلر إلى منصب المستشار من خلال الاقتراع المباشر والحر. اي ان الفارق بين الجماهير المؤمنة والمواطنين اصحاب الآراء، يكمن بالضبط في السبل التي يتم من خلالها ايقاظ شيطان الرأي العام. هذا الشيطان الذي يصبح بالغ الخطورة حين يعتمد على انفعالاته المباشرة: عشق انجلينا جولي، التحزب لفنية بيكاسو العالية، تنزيه نعوم تشومسكي عن الزلل، عبادة طوني نغري، وسيادة موضة والتر بنجامين من دون رادع. كما لو اننا امام اي مشكلة من المشكلات التي تعترضنا في الفن او السياسة او الاقتصاد نلجأ إلى القراءة في كتاب بنجامين الذي يملك جواباً شافياً عن كل اسئلتنا.
استناداً إلى ما سبق، يسهل علينا ان نلاحظ ان الفنون عموماً تنشد صنع الجماهير على نحو لا فرار منه. فالفنانون على ما يوضح ميشال هرميس هم صانعو اصول. بل ويستطيع الفنان ان يلغي الاصل الذي نسخ عنه ويؤصل النسخة التي صنعها. الرجل الذي اختاره مايكل انجلو لينحت موسى لم يستطع ان يرقى إلى مرتبة الأصل، لكن التمثال اصبح اصلاً ويتم النسخ عنه. ان يصنع الفنان من عمله الفني اصلاً من خلال ابادة الاصل الذي نسخ عنه، يعني ان نحب دور آل باتشينو في “العراب”، لا ان نحب آل باتشينو نفسه. مما يعني اننا نحب من لا نملك اي سلطة على محاسبته، وان نقبل بمزاجه وتقلباته وعنفه وساديته وتعطشه للدماء من دون ان يكون سبيلنا إلى الاعتراض متاحاً. ذلك ان افعال مايكل كورليوني في فيلم فرنسيس فورد كوبولا لا تترك اثارها المباشرة على حياتنا اليومية. لذلك تبدو كما لو انها من افعال الآلهة. وحيث اننا نؤله نجومنا في الفن والكتابة من دون تردد او شعور بالذنب، فإننا نغامر دوماً في ان نجعل روح الفن تناقض روح الديموقراطية كفكرة وجوهر ■
النهار