من الإصلاح إلي محاربة الإرهاب النظام السوري يعيد حساباته
ميشيل كيلو
بعد سنوات خمس من طرح مشروع الإصلاح السلطوي، الجزئي والمحدود، يبدو أن النظام السوري يعيد اليوم حساباته، ويفكر بانتهاج استراتيجية جديدة يعتقد أنها يمكن أن تحقق جملة أهداف: تشتيت المعارضة الحزبية المنظمة ـ الضعيفة أصلا ـ، كبح الحراك المجتمعي والمدني، توحيد أهل النظام ومصادر دعمه، وفتح أبواب واشنطن المغلقة، التي عجزت عن فتحها عروض التفاوض بلا شروط مع إسرائيل، والتعاون غير المقيد في العراق.
ولمزيد من الدقة، بدأ هذا التحول قبل المؤتمر العاشر لحزب البعث، لكنه أعلن عن نفسه خلاله، وتجسده اليوم سياسة تري في جماعة الإخوان المسلمين خطا احمر يحظر علي أية قوة تجاوزه، وتصر علي إبقائهم بأية حجة وأي ثمن خارج الحياة السياسية السورية، بما أن الموقف منهم هو المدخل إلي سياستها الجديدة: سياسة إعادة خلط أوراق السياسة السورية، في الموالاة والمعارضة، وإعادة أمور النظام وعلاقاته مع المجتمع إلي حالها المألوف، أي القديم، أو إلي حال يشبهه.
يقترح هذا السيناريو خطة جديدة، تنبع ضرورتها من سببين هما:
–ان الإصلاح يبدو صعبا، إن لم يكن مستحيلا. وأن حديث الإصلاح خدم المعارضة والخصوم، وهيج البلد، وبلبل توازنات القوي الحساسة داخل النظام وبينه وبين من هم خارجه.
–ان الإصلاح سمح بانتعاش قوي متنوعة، وخاصة علي صعيد الطبقة الوسطي، مصدر الخطر الوحيد اليوم علي سكون توازنات القوي السياسية السورية، ومكنها من تجديد رؤاها وتقديم نفسها في صورة جديدة، مؤثرة، تبدو معها كمن يتولي مسؤولية وطنية عامة هي منطلق وهدف سياساته الوحيد، التي قررت فتح صفحة جديدة يصعب علي السلطة رفضها، تعطي الأولوية لحل مشكلات الدولة والمجتمع، وتسحب شعار إسقاط النظام ومواجهته، وتتخلي عن القول بوجود تناقضات عدائية معه يستحيل حلها بغير إسقاطه أو تغييره، وتقترح سياسات وطنية عامة تتخطي علاقاتها المباشرة والثنائية مع السلطة، تنهض علي التوافق والمصالحة والحوار، وعلي تعاون موسع ومتزايد من شأنه توحيد جهود البلد في مواجهة الأخطار الخارجية وفي سبيل معالجة مشكلاتها الداخلية المستعصية. بما أن تخلي القوي الديموقراطية والإسلامية عن سياسة المجابهة بدا وكأنه يدفع بالنظام إلي موقف دفاعي، ويجبره علي القيام بتغيير ما في سياساته ومواقفه من قضايا البلاد المختلفة، فإن النظام رأي في هذا التطور خطرا قد يفضي إلي تغيير ما في طابعه أو في أساليب عمله وآليات اشتغاله، إذ لا شك في أن تحقيق المصالحة الوطنية، التي تطالب بها جميع أطياف المعارضة وبعض أطياف الموالاة، يعني عمليا بداية تغيير النظام بوسائل سلمية وتدرجية وتوافقية.
ثمة، إذن، حاجة إلي وضع حد لهذا الجو، الذي نقل المشكلة إلي داخل السلطة خلال أعوام الإصلاح الخمسة الماضية، وأدي إلي تسيب عام نتج عنه توسيع الحراك المجتمعي والسياسي في البلاد، ووصلت نتائجه وتفاعلاته إلي داخل الحزب والسلطة، حيث أشاع مناخا بدا معه وكأن السلطة مرشحة لتغيير حتمي، سيكون محصلة عجزها عن التوفيق بين الإصلاح والاستمرارية، بعد أن ضاق مجال نفوذها الخارجي وصار الداخل ميدان إعادة إنتاجها الرئيسي، لذلك لم يعد من الجائز التساهل فيه، من لبنان فصاعدا، وصار من الضروري معالجة مشكلاته بما يتوفر للسلطة من قدرات متاحة، أمنية أساسا، تجمع بواسطتها وتحت إشرافها طاقاتها العاملة والاحتياطية، وتحشدها لمعركة تقوم علي المفردات التالية:
–وجود مؤامرة خارجية ضد سورية الوطن والشعب أداتها جماعة الإخوان المسلمين، التي تحاول الانتقال من الخارج الي الداخل، لبدء الجانب التنفيذي من عملها التخريبي.
–وجود غطاء داخلي للجماعة، يعمل علي دمجها في جسدية البلد السياسية باسم الحوار والمصالحة الوطنية، بحجة حق جميع القوي السياسية في العمل السياسي، السلمي والقانوني. هذا الغطاء الداخلي هو المعارضة الديموقراطية: حصان طروادة، الذي يخفي، وراء شعارات معسولة تقول بتوافق وطني سلمي وآمن وبالإصلاح، خطة خبيثة وخطيرة هدفها الأخير قلب النظام، فلا بد من خوض معركة ما ضدها، لأن ضربها أو تحجيمها يعني منع الجماعة من اختراق الوطن والحيلولة بينها وبين التوطن فيه، ومنعها من فتح أبوابه أمام تدخل خارجي سيساعد علي حسم الصراع لصالحها.
أعتقد أن السيناريو المطروح لخطة المعركة يعتمد الوصفة التالية: التحول من سياسة تعد بالإصلاح إلي سياسة تستند إلي معركة عامة وشاملة ضد الإسلاميين، تكون جزءا من الحرب الدولية ضد الإرهاب. إذا كان الإصلاح قد أضعف النظام وبلبله، فإن المعركة ضد الإسلاميين والإرهاب ستطوي صفحته، دون أن تطوي بالضرورة جوانب معينة منه أو تلغي الحاجة إلي الحديث عنه، وستمكن النظام من ملاحقة المطالبين به بتهمة إضعاف موقف البلد في معركة تمس أمنه وسلامة مجتمعه وشعبه، وستعطيه ذرائع تمكنه من تعبئة وتوحيد قواه ضد من لا ينتمون إليه، وخاصة منهم التيار الديمقراطي، الذي سيجد نفسه مخيرا بين بديلين سيئين هما: الوقوف مع النظام ضد الإسلاميين أو مع هؤلاء ضد النظام. لا داعي للقول إن أصحاب هذا السيناريو يريدون أن تفتح المعركة ضد الإسلاميين باب الخارج المغلق، وخاصة منه باب امريكا، التي تفرض عزلة متزايدة علي النظام، الذي يأملون أن يستعيد بعض دوره السابق في لبنان والعراق وفلسطين، ويتحول من قوة يتهمها الامريكيون بتوتير الأجواء هناك إلي قوة تسهم في تهدئتها، ضمن توجه حده الأول إقامة اقتصاد سوق ، وحده الثاني توسيع دوائر السلطة بإدخال عناصر وقوي جديدة إليها؛ توجه يمكن تسويقه خارجيا كسياسة تتفق وتصور امريكا للديموقراطية في المنطقة العربية، الذي يقول بإنهاء حكم الأقلية وإدخال حساسيات سياسية واثنية وثقافية مختلفة إلي دائرة السلطة، وبالانفتاح التام علي السوق الدولية من خلال اقتصاد حر ـ سوق.
يقول السيناريو إن المعركة ستكون ذات عائد كبير، فهي ستسمح أولا بتقويض القوي الديموقراطية وإلغاء ما حققته من تقدم خلال السنوات الخمس الماضية. وستحول ثانيا دون فتح حوار داخلي لا لزوم له حول مستقبل البلاد، تطالب المعارضة به وسط تأييد شعبي متعاظم. وستوقف ثالثا الحراك المجتمعي والمدني، لأن أحدا لن يتجرأ علي مواصلة التحرك، مدنيا كان أم سياسيا، إذا كان سيتحرك سلميا وسط صراع عنيف ومسلح، أو إذا كان سيتهم بدعم مؤامرة خارجية أداتها الإسلاميون عموما والإخوان المسلمون خصوصا، سيجد نفسه مجبرا علي دفع ثمن باهظ لها، مع أنها لا تعبر عن خياراته ولا تخدم توجهاته. وستمكن رابعا النظام من إنجاز تحولات مرغوبة دوليا، تتطلب الحفاظ علي بنيته الأمنية ـ وليس تقويضها بالإصلاح ـ والحفاظ علي توازنات القوي القائمة فيه وليس التخلي عنها في سياق مصالحة وطنية، ووقف نقض أسسه بيديه عبر إصلاح يفقده سيطرته علي البلاد والعباد، كلما أمعن فيه وقطع شوطا أطول علي طريقه. وستعينه خامسا علي تجاوز مآزقه الصعبة مع امريكا، وعلي إعادة تعريف نفسه في حاضنة داخلية وخارجية قريبة من الحاضنة التي له اليوم، ويتقن العمل في ظلها.
هل هذه الخطة قابلة للتطبيق؟
يعتقد أهل هذا السيناريو إن نجاحها يتوقف علي شروط منها:
–موافقة الولايات المتحدة الامريكية عليها، والاستجابة لتنفيذها عبر تقديم ضمانة تبقي علي النظام الراهن وبنيته الأمنية.
–إقناع الشعب بأن المعركة ضد الديمقراطيين والإسلاميين هي المهمة الرئيسية اليوم، وأن الإصلاح ليس ضروريا لأن أوضاع سورية جيدة ـ كما قال الأستاذ فاروق الشرع وزير الخارجية أمام الصحافيين، ووزير الإعلام أمام الحزبيين في الرقة… الخ ـ فلا حاجة إلي إصلاح يسبب مشكلات داخلية خطيرة، يقول المطالبون به أن أولويتهم حل قضايا ومشكلات عامة، لكن هدفهم المضمر، الذي يتسترون عليه، هو تغيير النظام. ما هي فرص نجاح هذا السيناريو؟. يقول أصحابه: إنها كبيرة، لأن السلطة الأمنية نفذت ما يشبهه في الماضي بنجاح، ولأن أجهزتها مدربة علي تنفيذه، في حين تفتقر إلي الخبرة اللازمة لإنجاح مشروع إصلاح سيتم، إن تم، لغير صالحها.
ما عيوب هذا السيناريو؟. يكمن عيبه الرئيسي في أن حامله أمني، وفي كون قاعدته المجتمعية والسياسية ضيقة، وفي أنه يتم داخل بيئة دولية وإقليمية ودولية غير ملائمة، وفي أنه موجه ضد طرف ينبذ العنف، حتي ليمكن القول إنه موجه ضد عدو لا وجود له، وفي أنه يحقق عكس ما هو مطلوب: عنيت الانتقال من الدولة الأمنية إلي الدولة السياسية، وفي أنه يعالج مشكلات سورية الراهنة بالوسائل التي تسببت بها، وفي أنه يبدو كآخر سهم في جعبة النظام، فلا شك في أن فشله يعني نهايته الأكيدة!