صفحات مختارة

ذلك المجتمع ‘العربي’ الآخر الذي يصنعونه لنا..

مطاع صفدي
هل يعرف المواطن العربي كيف يتَّخذ حكامه قراراتهم السياسية، ذلك سؤال متأخر نسبياً في سياق المراجعة لإشكاليات النهضة المغدورة. فقد مرّ عهد طويل، أعفى المثقفون أنفسهم خلاله من الانشغال بوظائف الدولة العليا وأحوالها المتردية. فكان جلُّ اهتمامهم منصبَّاً على المواقف الشعارية العامة التي كانت هي المحرك الرئيسي لمتغيرات السلطة، سواء في رموزها القيادية الشخصانية، أو عبر الصراعات الحدِّية التي تنخرط فيها رؤوس السلطة تجاه منافسيها في الداخل، وأعدائها في الخارج الإقليمي والدولي.
تلك هي الحقبة المديدة الموصوفة بالثورية، المتواصلة لأربعة أو خمسة عقود، حينما كانت أفكار التحرر وحدها هي المحركة للجماهير، وهي عينها تؤلف المعايير الضرورية لاكتساب سلطات الحكم مشروعيتها. كان ثمة تواصل عفوي بين الحكم، المختفي وراء مصطلح القيادة السياسية، أو الزعامة الثورية، وبين المحكومين، المنخرطين في صيغة الشعب الثائر أو الأمة الناهضة.
في ذلك العصر (الثوري) لم تكن الجماهير واعية لما يسمى بحكم الفرد، ذلك أن رئيس الدولة أو الحاكم الأعلى لم يكن سوى الزعيم الذي أنتجته الثورة، وتابع هو إنجازاتها ورعايتها. فالحكم هو تحصيل حاصل للزعامة، وليس العكس. هكذا تفترض ضمنياً ايديولوجيا الثورة، كونها ليست سلطة حكم، بقدر ما هي المرجعية المتعالية ما فوق السلطات، التي عليها أن تضفي شيئاً من مشروعيتها على كل نظام دولاني يزعم النطق باسمها. لكن تجارب العصر الثورية، عالمياً وعربياً، لم يقدر لأي منها المحافظة على هذه المعادلة الصعبة؛ أصبح النظام الحاكم هو المتحكم بقوة السيادة على الأمر الواقع، بما يدفعه تدريجياً إلى امتصاص أية تراتبية نوعية أو معيارية مع مرجعية الثورة، بحيث تمتصها أجهزته السلطوية كلياً.
مع انتهاء العصر الثوري العربي، حسب نماذجه في الزعامة الكارزمية، دخلت الأقطار العربية جميعها تقريباً في مرحلة التشكلات الحكومية العادية؛ وإن كان بعضها لا يزال متمسكاً بذاكرته الثورية المنقضية. لكن التشكيل الحكومي انصبّ في القالب السلطوي عينه، الموروث عن النظام الزعامي، أو الرئاسي، بحسب مصطلحه الدستوري المخفف. فمن كان مصنَّفاً، من بين دول المنطقة، في الخانة الثورية أو التحررية، راح يعاني من عجزه عن إيجاد بديل للشرعية الثورية، بشرعية أخرى، لا بد أن تكون عائدة إلى مرجعية الشعب عامة. والنظام الوحيد المؤهل لتأمين هذه المرجعية، هي الديمقراطية. هنا يبرز الاستعصاء الأكبر الذي يواجهه أصحاب السلطات القائمة، لما بعد الثوريات. كيف يمكن لهؤلاء أن يردوا إلى الشعب ما لم يعد يجوز لهم أن يمتلكوه من خصائص نظام حكم ماض، فاقد لقواه ومعالمه المعروفة والمميزة له، والمسوّغة لوجوده.
هنالك سبع دول عربية تقريباً تعيش أنظمة سياسية مخضرمة بين العهدين الثوري، أو الشمولي، وما بعده. فهذا النموذج التالي، الموصوف بالمابعدية لما سبقه، هو الفاقد لهويته السلطوية ومشروعيته الدستورية معاً. تشكو هيكليته الدولتية من عسر التلاؤم مع متطلبات التغيير الأيديولوجي المفروض. لكنها في الآن عينه، تحاول التمسك بآليتها القديمة، مع الاعتراف العرضي، بفشل البحث عن البدائل الجديدة. إذ لا يعقل للكيان المهترئ أن يُنبت من ذاته المتهالكة الكيانَ الآخرَ الذي سيقضي عليه نهائياً. فالسلطة إذن تظل عصيَّةً على كل مبادرة للإصلاح صادرة عن أجهزتها عينها، مثلما هي معيقة بالضرورة لتلبية أية مشاريع مغايرة، تهبط عليها من رموز القمم العليا فوقها. حتى عندما تتوفر بعض نوايا (الإصلاح) لدى القليلين من أصحاب هذه القمم السلطوية، فقد تصير ترجمتها العملية إلى جملة مصالح بيروقراطية متحالفة مع الشبكات الزبائنية، من زمرٍ متطفلة، ملتصقة بهوامش الأجهزة الإدارية والحاكمة.
منذ انقضاء الحرب الباردة أُصيبت دول العالم الثالث بما يشبه ضياع بوصلة التوجه، أمسى الصنف الثوري منها متعطلاً عن العمل. لم تكن فئاته الحاكمة مدركة لما يعنيه الانتقال الفجائي المفروض عليها، من ملكوت الإيديولوجيا إلى ملاعب السياسة. وحتى عندما ينزل بعض رموز السلطة إلى مساحة ما من هذه الملاعب، فإنه لا يتعامل مع قواعدها إلا من خلال آمرية التسلط على الشريك الآخر إن كان ضعيفاً، أو تبعاً لتلقائية الاستتباع الذاتي له إن كان جامحَ القوة والنفوذ.
نشأة الظاهرة (الزبونية) قديمة، مترافقة مع أحادية أنظمة التسلط. وقد سيطرت بدايات ممارستها إبان العهد الثوري، عبر التحالفات الفئوية التي كان يعقدها رؤساء الأنظمة مع من يختارونه من المقرَّبين، ولكن تحت غطاء الحزب الحاكم الأوحد. وفي المرحلة المابعدية، والتي تتكنّى بالليبرالية، فإن الظاهرة الزبونية تبرز إلى العلن، باعتبارها صاحبَةَ المشاريع الإصلاحية. وهي المتوكلة بأمور هذا الاصطلاح السحري الجديد: الاستثمار؛ فأرقام الاستثمارات وأسماؤها، تحلُّ محلَّ أفكار الأيديولوجيا المنزاحة ومعاييرها معها. مشاريع التنمية الفوقية للدولة الليبرالية هي حاصل جرد لإنجازاتها (الوطنية). صارت لها الأولوية على الشأن السياسي، وبالتالي سوف تُعرف الدولة الليبرالية (العربية) بأبنيتها وشوارعها وملاهيها.. وفسادها (الجميل) المعمم. فلا عجب إن أضحت ثقافة المفاهيم والقيم والحقائق بضاعة متخلفة من الماضي السحيق بحسب منطق إعلامها السائد.
إنقلاب هيكلة الدولة، يسبق أو يترافق مع انقلاب مورفولوجيا المجتمع؛ إنها أحدث صناعة عولمية مختصة بإعادة صياغة عقول أمم كاملة، مع مختلف أجهزتها الحضارية. فالهوية، حسب المنتوج الليبرالي المحلي، هي مجرد ماركة مسجلة، تلصق ورقةً على كل سلعة تصدرها هذه الشركة من المستثمرين، أو تلك، أهليةً كانت أو أجنبيةً. فليس هو نموذج المجتمع الاستهلاكي الغربي الذي صارت تستورده بالجملة أقطارنا الملكية، وأشباهها الجمهورية معاً. إنه نمط خاص تماماً، من هذا النموذج المستورد، لكنه يُعاد إنتاجُه محلياً، ولكن تحت شرط تحديث التخلف المتوارث. بحيث يتجدد تجذيُره، وتَخَفِّيّه، تحت قشور التحديث المصطنع. الزبونية ورديفها الفساد لا يشكلان فحسب فضيحة الدولة الليبرالية، الكبرى، بل هما معاً أصبحا يؤلفان مؤسسة الدولة هذه، إذ لن تقوم لها قائمة بدونهما. والحال أن استتباب هذا القالب الليبرالي للدولة والمجتمع معاً، أضحى هو الرهان الأخير على إمكان إغلاق خط التطور العربي في منحنى دائري، كل مرحلة فيه تكرر قانونها فيما يستتبعها، بما يضاعف من فسادها، يفعل التراكم المستزاد والمستقوي أكثر بجديدها العرضي، والمتخفي تحت بوارقها الدعاوية الخداعة.
أخطر ما تواجهه النهضة العربية الثانية أن أولوية التهجين والإحباط لم تعد سياسية فحسب، بل أصبحت من طبيعة مورفولوجية تنصبُّ على شكلانية التموضع الاجتماعي، والتغيير الوظيفي لشرائحه المسيطرة. يحدث هذا دونما حاجة إلى إشغال الساحات العامة بالصراعات الأيديولوجية المعتادة، بعد أن تضيع الحدود المتمايزة بين اليمين واليسار. وتسود دينامية التشرذم، مانعة لاستقطاب الجماعات الكبيرة، وتشكيل بنى الحزبيات الواضحة، العاكسة لمصالح عامة. هكذا تنحسر قوى المعارضة، الممثلة لمطالب جماهيرية واسعة، متراجعةً إلى مستويات اهتمامات لشللٍ (بيتوتية) لا يدري بها الشارع إلا لماماً. بينما تستغرق الكتل الجماهيرية الكبيرة في نوع من الخَدَر الفكري واللامبالاة بالأحداث العامة بعد أن فقدت آمالها بتحقيق الأهداف الشمولية التي اعتنقتها أجيالها الشبابية منذ عصر الاستقلالات الوطنية؛ ثم شاخت هذه الأجيال وهي تشهد وتعاني انكسار تلك الأهداف العظيمة واحداً إثر الآخر عبر تجارب الممارسات المنحرفة والشخصانية لأغلب قيادات المرحلة، المتميزة بانعدام الخبرة المعرفية بمكر وخبث السياسات الدولية المطبقة على تطورات المنطقة ككل. لقد نجحت خيبات التجارب القومية الكبرى في تحييد القواعد الجماهيرية الواسعة نفسياً على الأقل، فارتدَّت هذه إلى موروثاتها الغيبية، تستمد منها بدائل سماوية عن أضاليل الحياة الدنيا، وأحلامها الغادرة المغدورة.
مع ذلك إذا كان التحييدُ قد طغى على المساحة الأوسع من الجماهير المتروكة لبؤسها المعيشي وعقلها الأسطوري، فإنه في الوقت عينه قد أخلى هوامش عديدة لاستنبات حركات العنف المطلق الذي سوف تستثمره أشكال من المعارضة الحدّية تحت مصطلحات الجهاديات وطقوسها الجاذبة لقطاعات الشبيبة، الباحثة عن أدوارها عما يكافئ نزوعها الرافض لمذلة الحطام الذي آلت إليه أحوال (الأمة).
خلاصة القول أن التغيير المورفولوجي الذي أصاب البنى الوسطى والعليا في المجتمع العربي، جعله يعوم على بحر من الجماهير المتمردة على كل تأطير أو تنميط مفروض عليها من خارجها. يشتد انطواؤها على خزان هائل من الإمكانيات والقوى المجهولة التي لن تُعرف لها أسماء إلا بعد تفجرها. ما تصنعه أنظمة الحكم بمساعدة الأجهزة الغربية الخبيرة، هو إعادة صياغة لشكلانية المجتمع، بفضل تلك الشرائح العائمة على سطحه. فالقمع الموجَّه إلى غالبية المجتمع المقهورة، والفساد الصانع لبرجوازيات المال والنفوذ والإعلام وكل الظاهرات العبثية الأخرى الأجنبية الضاجة في مشهديات الحياة اليومية (الجديدة) للمدن العربية الكبرى، قد يؤشران معاً، القمع والفساد على مدى انتصارات الارادات الخبيرة في صناعة مورفولوجيا مجتمعات الفقراء، وتغليفها بقشور حداثة مسطحة؛ لكنها لن تستطيع دفن عوامل التغيير الحقيقية تحت ركام أشباهها الزائفة هذه، وإلى أجل غير مسمى.
مئات مراكز الأبحاث والتفكير في أمريكا خاصة، وأوروبا عامة، أصبح شاغَلها المركزي النهضةُ العربية والاسلامية. ما هي شخصيتها المفهومية، ما هي عناصر قوتها وضعفها، كيفية التدخل في ديناميتها الذاتية، وتخريب قواها بتحويل إمكانياتها ضداً على بعضها. تؤازرها في مخططاتها تلك، زُمَرٌ من برجوازيات الفساد/الإفساد المحلية، التي تتبادل قوى الإسناد مع مراكز السلطة الحاكمة الظاهرة أو المقنعة.
بعد أن تم للغرب إجهاض طاقات الثورة السياسية في دينامية النهضة، ولو إلى حين، يلتفت أساتذة التخريب الممنهج إلى تنميط التلاعب ببداهات العقل النهضوي نفسه، في الوقت الذي يتمُّ عزله ما أمكن عن اهتمامات النخب الجديدة الصاعدة، التي تُستقطب مواهبها وميولها وراء أتفه اللذائذ المباشرة والمصالح المادية الضيقة.
هكذا يُفاجأ الوعُي النهضوي بتصنيع مجتمعٍ آخر لا يكاد يعرف له وجهاً.. ولا شرقاً حضارياً حقيقياً.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى