تشدد الضعفاء
ميشيل كيلو
يبدو أن الهروب إلى التشدد سيكون سياسة النظام السوري في الحقبة القادمة. فما هي ممكنات التشدد المحتملة في الشرط الدولي والمحلي الراهن؟
ثمة نمطان ممكنان من السياسات المتشددة:
نمط أول، تكتيكي، قريب ومتوسط الأمد، داخلي المنطلق، يضع الدولة والمجتمع تحت حكم الأجهزة الأمنية، ويوكل أمرهما إلى الأوساط الأكثر محافظة في السلطة، فيشحن علاقاتها مع الداخل الوطني بتوترات تجعلها حقل صراع، بدل أن يطبّعها، في حقبة خطيرة تعزل النظام دوليا وتبلبله داخليا، هي الفترة الأقل ملاءمة لعقد صفقة استراتيجية مع أمريكا و”إسرائيل”، لأسباب منها أن الصفقة لن تكون من صنع السلطة، بل سيمليها ظرف انتقالي يصنعه “الأعداء”، من الصعب على دمشق التكيف معه والانضواء فيه، بسبب افتقارها إلى الوسائل الضرورية لذلك. والغريب أن النظام لم يفكر في مواجهة هذا الظرف عبر إجراء تحولات هيكلية في أبنيته، تعزز مناعته الوطنية، بل عمل على تحقيق مستلزمات الصفقة – الوهمية حتى الآن – عبر تشديد قبضته الأمنية في الداخل، كأن الشعب هو العدو الذي يحل قهره مشاكل النظام، أو كأن التشدد ضده يقنع الخارج بعدم وجود بديل له!
في هذا الخيار الداخلي المنطلق، ليس التشدد موجها ضد أمريكا، كما يوحي ظاهر الأمور، بل هو موجه ضد الداخل، لذلك يعبر عن نفسه في تدابير أمنية استباقية تعتقد السلطة أنها كفيلة بالحيلولة دون وقوع تطورات مباغتة قد تترتب على نتائج تقرير ميليس أو وقوع تغيير يخدم أمريكا في العراق من شأنه هز النظام أو تقويض استقراره. ومع أن أحدا لا يضمن أن ينتهي التشدد الداخلي إلى تفاهم مع الخارج، فإن السلطة تصر عليه كنهج، ربما لأنها لا تعرف طريقة أخرى تواجه بها أزمتها، في ظل تقلص دورها الإقليمي، وتغير وظائفها الخارجية وضعفها تجاه المستجدات الدولية. ترد السلطة على التحدي الخارجي في الداخل عبر التذكير بميزان قوى تحرسه أجهزة قمع كبيرة، مع أن سلوكها يبطل ما كانت القيادة الجديدة تتباهى به من إطلاق للحريات العامة، ويخضع المواطنين لقدر من الردع يخرجهم من علاقة يريد التشدد لها أن تكون ثنائية: حدها الأول أمريكا، والثاني النظام الأمني، الذي بلغ حدا من البلبلة جعله يحول معركته مع الخارج إلى معركة داخلية أيضا.
احتمال ثان استراتيجي، خارجي المدخل، يأخذ شكل توجه عام يراد به توحيد السلطة وتعزيزها في مواجهة الآخر، أينما كان. في هذا الاحتمال، لا تكون زيارة بشار الأسد إلى إيران مجرد خطوة أرادت تنشيط غطاء خارجي صديق يمكن أن يقوي النظام تجاه تطورات إقليمية مهددة، بل هي كذلك تذكير للعالم بوجود خارج تستطيع السلطة الاستقواء به، يؤكد دوره أن دمشق ليست معزولة أو مكشوفة إقليميا ودوليا، وأنها جزء من تكوين إقليمي بوسعه خوض مواجهات محسوبة، خاصة في العراق، حيث أمريكا في مأزق جدي، فلا خوف إن شاركت سوريا في محاصرتها وخنقها، ما دامت هزيمتها ممكنة، وما دام وقوعها سيقلب المعادلات الراهنة وسيمثل انتصارا حاسما للحلف السوري / الإيراني. في هذا الاحتمال، الاستراتيجي، ليس من مصلحة سوريا ترك أمريكا تفلت من الفخ العراقي، مهما كان الثمن الذي يتطلبه إبقاؤها فيه، ولا يجوز لقيادتها تجاهل نتائج انتصارها المحتمل على الواقع الدولي والإقليمي، وموقعها من نظم وبلدان وثروات المنطقة، وعلى مكانتها في نظام عالمي جديد سيكون للعروبة والإسلام – دمشق وطهران -، دور كبير في امتداده الآسيوي والأوروبي، قيامه أعظم حدث في تاريخ العالم منذ انتهاء العصر الوسيط.
يعتمد الاحتمالان على فرضيات منها ان سوريا وإيران في وضع يمكنهما من رسم وتنفيذ استراتيجيات وتكتيكات هجومية ضد أمريكا مدعومة أوروبيا، وأن واشنطن ستسمح لهما بإلحاق هزيمة بها في العراق، ستقضي على نظامها العالمي الجديد وستضعفها كثيرا كقوة عظمى وحيدة، وستجعل إمبراطوريتها أقصر إمبراطوريات التاريخ عمرا. ومنها أن التشدد الأمني، الذي ضبط طيلة نيف وثلاثين عاما الوضع السوري – والإيراني يصلح لحسم صراعات دولية تتعين بعلاقات قوة تتجاوز كثيرا قوة أية سلطة أو دولة محلية، مهما بلغ تفردها بأوضاع بلدها الداخلية وأحكمت قبضتها على مواطنيها. ومنها أنه يمكن قهر قوة عظمى بالأدوات والوسائل التي تعتمد لإركاع شعب فقير ومجتمع ضعيف، وأن تشدد الضعفاء يستطيع حل مشكلاتهم، مع أنه ليس غير هروب إلى الأمام يمليه عجزهم عن حل أزمات بلدانهم الداخلية والخارجية، وضعف نظمهم، الذي يراكم ويفاقم مشكلاتها ويؤدي إلى تقويض قدرتها على ممارسة سياسة مواجهة تستطيع كبح خارج متفوق وعدواني، ومنها، أخيرا، أن سياسة حافة الهاوية ليست، في نهاية المطاف، غير الخطأ الأخير، الذي يبين كم يفتقر الضعفاء إلى معرفة العالم وأوطانهم، وكم يبتعد بهم التشدد عن السياسات الصائبة