متى نعرف الحقيقة ؟
ميشيل كيلو
ليس الشعب العربي حاضرا في السياسة عامة وفي سياسات بلدانه خاصة، لذلك لا تخبره حكوماته بما تقوم به من تدابير وإجراءات في هذه المسألة أو تلك. الشعب العربي غائب، غيّبته حكومات تنفرد بالشؤون العامة، وتحول بينه وبين أن يكون له أية شؤون خارجة عن رقابتها. لهذا، تراه عديم التأثير في السياسة بعيدا عن قضاياها، بما فيها تلك التي يرتبط بها حاضره ويتوقف عليها مستقبله. ولأن الشعب العربي مغيب، فإنه يجهل حقيقة ما يحدث، خاصة في المسائل الحساسة، التي تتصل بين أشياء أخرى بعلاقات حكوماته مع “إسرائيل”، ولا يعرف إن كانت صحيحة أم هي مجرد اختلاقات هدفها إثارة البلبلة في عقله والإساءة إلى كرامته.
ومع أن أية حكومة تستحق اسمها تحرص على إقامة علاقة صحيحة بين شعبها وبين حقيقة ما يجري من تطور، وتزود مواطنيها بمعلومات تمكنهم من تبين الغث من السمين والحق من الباطل، فإن حكوماتنا تبقي مواطنيها غائبين عن الأحداث عاجزين عن فهمها والتأثير فيها، وتصرّ على العمل في بيئة تخلو من دور خاص بهم، لاعتقادها أن الحقبة التاريخية الحساسة، التي أعقبت حرب عام ،1973 ونضجت فيها شروط تسوية سلمية مع “إسرائيل”، تتطلب قدرا من تضليل المواطن، هو شرط نجاح سياساتها الجانحة أكثر فأكثر نحو مصالحة العدو، الذي لم يتوقف يوما عن قتل العرب واحتلال أرضهم.
واليوم، تتطاير أخبار متنوعة حول انتقال العلاقات العربية – “الإسرائيلية” إلى مرحلة نوعية جديدة، ويعلن مسؤولون صهاينة كبار أن زعماء عرب وافقوا على زيارتهم، وتتناقل وكالات الأنباء أخبارا تشير إلى وجود حركة نشطة بين عواصم عربية وإسلامية كثيرة وبين تل أبيب، التي يقول رئيس وزرائها، ويوافق على كلامه مسؤولون عرب عديدون، إن انسحاب جيشه من غزة يعتبر نقلة تاريخية نوعية لمصلحة السلام والدولة الفلسطينية، يجب أن يشجع العرب على استكمالها بإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع “إسرائيل”، لأنها تنجز خطوات سياسية تقربها مما هو مطلوب عربيا، ولأن من الضروري مساعدة قيادتها الراهنة شارون إياه – على كسر المقاومة الداخلية التي تواجهه من المستوطنين وأوساط رسمية مؤثرة تنشط داخل أحزاب وحكومة وجيش العدو، لإحباط مساعي السلام، التي بدأها شارون وتجعله جديرا بلقب “رجل السلام”، الذي كان الرئيس بوش قد أطلقه عليه قبل نيف وستة أشهر !.
يتحدث “الإسرائيليون” عن علاقات تربطهم بدول عربية كثيرة، بينما يصمت زعماء عرب فلا يؤيدون ولا يكذبون ما يقال، كأن الأمر لا يعنيهم ولا يتعلق ببلدانهم وشعوبهم، أو كأن “إسرائيل” في طرف قصي من الكون وليست قائمة في قلب الوطن العربي، أو كأنها لا تمارس إذلالا عسكريا وسياسيا يوميا على الأمة العربية بأجمعها. يصمت الزعماء، لأن ما يقوله “الإسرائيليون” صحيح، ولأن الاعتراف بصحته مفيد اليوم، ما دام يشوش دور الزمن في جعله مقبولا غدا من شعوبهم أيضا. يحدث هذا، في حين تشير وقائع كثيرة إلى أن العلاقات العربية تتحسن مع العدو، وتقترب من اعتراف كامل به، يؤكد هذا قبول وامتداح أية خطوة “إسرائيلية” تجاه الفلسطينيين، مهما كانت محدودة وجزئية ومؤقتة، وتجاهل ما يرتكبه الصهاينة من مجازر ضدهم ومن استيلاء يومي على أراضيهم وحقوقهم، حتى ليمكن القول : إن السياسات العربية من العدو لم تعد ترتبط بأي رابط مع الصراع الجاري على فلسطين وفيها، وإلا ليشرح لنا أحد معنى أن تستمر المكاتب “الإسرائيلية” السرية والعلنية في أكثر من عاصمة عربية، رغم سنوات أربع ماضية عصفت خلالها القوة الصهيونية الباغية بفلسطين، ودمرت مدنها وقراها، وقتلت وشردت بناتها وأبنائها، وخربت أرضها وقطعت أشجارها. وليفسر لنا أحد مبرر الدعوات العربية الواضحة، التي تطالب بتطبيع العلاقات مع تل أبيب بحجج واهية هي تارة انتهاء العداوة بيننا وبينها وتغير الأزمان وانتهاء سياسات المجابهة في عالمنا الراهن، وأخرى فشل سياسات عزلها ومواجهتها. وليقل لنا أحد لماذا تضرب هذه الدعوات عرض الحائط بإصرار “إسرائيل” على مجابهة العرب في فلسطين ولبنان والجولان، وبإعلانها أنها لن ترد أراضيهم إليهم، بل ستتمسك بها وستعمل، فضلا عن ذلك، على اختراقهم في العراق والأردن وشبه الجزيرة العربية، وتطويقهم في كل مكان بأحزمة أمن خانقة.
يبدو أن ما تعلنه “إسرائيل” عن علاقاتها مع العرب أكثر قربا إلى الحقيقة من تصريحات حكوماتنا، وما يقوله قادتها أكثر تعبيرا عن واقع الحال من صمت قادتنا. وقد أكدت أحداث كثيرة صحة ما كانت تقوله حول علاقاتها العربية، وكذّبت ما كانت الرسمية العربية تدّعيه، وبينت أن عالم العرب السياسي يشبه بناء يضم طوابق متعددة، لكن معظم ما يدور فيه يجري في قسمه التحت أرضي، كي يبقى سريا وبعيدا عن أعين الشعب. بينما سياسة العدو تجاهنا منظورة ومعلنة، أكدت وقائع سابقة كثيرة صحتها، وتؤكد وقائع اليوم صدق ما تقوله، إلا إذا أخبرتنا حكوماتنا بحقيقة ما يجري، واحترمتنا واعترفت بأن حدسنا الداخلي، الذي يساعدنا على كشف الكذب، سيمكننا هذه المرة أيضا من معرفة الحقيقة.
إن كثرة تصريحات “إسرائيل”، التي تطالب حكوماتنا بإعلان طبيعة علاقاتها معها، تلزم حكوماتنا بكشف ما يجري وإشراكنا في معرفته، أسوة بما تفعله “قطر”، التي تكشف علاقاتها مع الصهاينة وتدعو العرب إلى إقامة ما يماثلها، علناً ودون مزايدات سخيفة!.
يعيش العرب منذ أربعة عقود في زمنين قاتلين أنجب أحدهما الآخر: زمن كذب وزمن هزيمة. هل نستغرب أن تقيم حكوماتنا علاقات مع العدو يمليها عليها زمن الهزيمة، وأن تنكرها بألاعيب وذرائع من زمن الكذب؟