تعقيب على سلامة كيلة: كيف نفهم الطائفية وكيف لا نفهمها؟
ياسين الحاج صالح
هذا تعليق على نقطة محددة، تخص مشكلات الطائفية، في تعقيب للصديق سلامة كيلة (تعقيب على تعقيب ياسين الحاج صالح: مسألة “بناء الأمة” في سورية، الحوار المتمدن، 10/12) على تعقيب لي (تعقيب على سلامة كيلة: نكوص إيديولوجي للماركسية السورية، الحياة، 25/11) على تعقيب له (تعقيب على ياسين الحاج صالح… التفكك الوطني والطيف الحداثي في سورية، الحياة، 12/11)
على مقالة لي (في توازي التفكك الوطني وانقسام الطيف الحداثي في سورية، الحياة، 28/10، والمقالات كلها متوفرة في الحوار المتمدن أيضا). متابعة تعقيب سلامة نقطة بنقطة جهد شاق ولا طائل من تحته. ويبدو لي أنه أصل التباعد بيننا هو في الموقف المعرفي الأساسي لكل منا. قراءة نصوص سلامة تولد الانطباع بأنه يعيش في عالم ما من شيء إشكالي فيه، إنه عالم مكفول المعنى، كل شيء فيه مفهوم، ومفاتيحه كلها موجودة في “الماركسية”. كل ما يلزم للمثقف هو أن يتمسك بيقينه الماركسي ليحسن الفهم والعمل. بالمقابل يبدو لي العالم معقدا، متشابكا، متعدد الوجوه، مخاتلا، لا يكف عن التبدل والتحول، ولا تفي بتنظيمه أية نظرية أو منهجية واحدة، ما يدعونا إلى بذل جهد مرهق لمقاربته بالتحليل والفهم، جهد محدود الثمار في النهاية. نحن إذن في حالة أزمة دوما، قلقون دوما، ومدعوون دوما إلى تغيير أفكارنا وقول شيء جديد. وهذا سباق لا ينتهي، لا ننجح فيه، لكننا قد نحقق تقدما جزئيا هنا أو هناك.
يبدو لي كذلك أن ما يعوق سلامة عن فهم ما أقول، وفي تعقيبه شواهد وفيرة على ذلك، هو فهمه بالذات. أعني أن لديه فهما مكتملا في أساسياته، وربما في تفاصيله، لتشابكات هذا العالم. فمن الطبيعي أن يكون كل فهم آخر قاصرا أو مختلا. شأنه في ذلك شأن إسلامي مقتنع بأننا مستغنون بالإسلام عن كل شيء آخر. لكن أليس مضجرا هذا العالم المكفول والعلم المكتمل؟ أليس قول الأشياء ذاتها مرة تلو المرة مدى الحياة أشبه بالسجن المؤبد؟
الطائفية كعملية اجتماعية
ليست “المسألة الطائفية مسألة أقليات” إن كان لهذا الكلام من معنى، ولا هي “تكوينات إثنية”، أو “وعي”، أو “إيديولوجية مفوتة”، أو “اشتقاق إيديولوجي في الدين” إن كان لهذه العبارات التي وردت في تعقيب سلامة الأخير أي معنى أيضا. وإذا استطعت أن أفهم شيئا فإن سلامة يقابل بين “عودة الأيديولوجيا التقليدية”، أي “الأصولية السنية” حسب شرح يبدو أنه يتبناه لأصل الطائفية، وبين ما يفترض أنه فهمي أنا لها، المتمثل في اعتبار “المسألة الطائفية كمسألة أقليات”. وأخشى أن هذا الشرح الطائفي للطائفية لا يكشف شيئا غير فهم سلامة نفسه لها. إذ يبدو أنه يفترض أني أقصد بالطوائف “الأقليات”، فيرد هو بأن أصل الطائفية هو “الأصولية السنية”، ولعل تداعيا ذهنيا من “أقليات” إلى “أكثرية مذهبية” هو ما ساقه إلى هذا المساق. بيد أنه إذا كان اعتبار المسألة الطائفية مسألة أقليات قراءة طائفية للمشكلات الطائفية فإن اعتبارها مسألة “أيديولوجية تقليدية” و”أصولية سنية” قراءة طائفية بدورها. والحال إني لست طرفا في هذا التقابل الذي يتغير فيه “المتهم”، فيما تبقى المقاربة طائفية منطقا ومنطوقا. ولا سند لنسبة أي من الفهمين إلى مقالتي المنقودة، أو إلى أي من مقالات عديدة كتبتها عن المشكلات الطائفية. وإذا عاد إليها سلامة (أحيله إلى مقالاتي “صناعة الطوائف: الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية؛ و”الطائفية والأوليغارشية”؛ “من رفض الطائفية إلى نقدها ومقاومتها”؛ “أية أكثرية لحل المشكلات الطائفية؟”؛ ومقالات أخرى، وكلها في هذا المنبر) سيجدني أقول إن الطوائف ليست كيانات معطاة ولا إيديولوجيات ولا هويات موروثة، ولا هي أقليات ولا أكثريات. إنها بالأحرى عمليات اجتماعية، عمليات تطييف لا مجال لفهمها انطلاقا من المجال الديني والاختلاف الديني، ولا من “الوعي” أيا يكن. إن منطلق فهمها هو علاقات السلطة والتنافس الاجتماعي على السلطة والثروة والنفوذ واحتلال المواقع الأنسب لتوجيه الموارد العامة. بعبارة أخرى، التطييف لا يفهم إلا في نطاق الصراع السياسي لقوى ونخب اجتماعية ضمن حقل سياسي محدد في بلد محدد.
ولا توجد الطوائف إلا كنتاج لتطييف حقل الصراع السياسي وما يبطنه من منافسات ونزاعات تحركها رهانات سياسية دنيوية. أي أن الطوائف لا توجد في “الطبيعة” على شكل هويات ثابتة أو كيانات قائمة برأسها، بل فقط في السياسة والصراع الاجتماعي والسياسي. وبعبارة أخرى، ليس الطائفية حصيلة طبيعية لوجود طوائف، بل إن الطوائف أشكال محتملة للانتظام السياسي في ظل الطائفية. والطائفية نفسها خاصية لحقول سياسية تتميز، وصفيا، بضعف الرابطة الوطنية وتضخم السلطة على حساب الدولة (أي الحيثيات المشخصة للحاكمين على وظيفتهم العامة) وحدّة نسبية للصراع السياسي (ولو كانت حدة منسوبة إلى هشاشة الأطر المؤسسية التي يفترض أن تضبطه).
والحرز الحريز للإيديولوجية الطائفية هو المفهوم الجوهراني للطوائف، أي اعتبارها “كيانات أو جماعات دينية أو مذهبية محسوسة، وليست علاقات وعمليات اجتماعية. والمفهوم الإيديولوجي للطائفية هو الذي يلتقطها من التداول الشائع على ما يفعل “الماركسي” سلامة، فيفترض أن وجود الطائفية في سورية مثلا منقوش في وجود مسلمين ومسيحيين، سنيين وعلويين إلخ. وكل ما يسعفه فيه “علمه الماركسي” هو إلقاء اللوم في الطائفية على عقيدة أو جماعة مذهبية معينة بدل أخرى، لكن دون مبارحة الطرح الطائفي ذاته. في وسعي، تاليا، أن أوجه اتهامات خطيرة لتفكير مساجلي. غير أني لا أرى جدوى من ذلك لسبب جوهري يتصل بفهمي لها: إن كون الطائفية عملية اجتماعية يعني كذلك أنها عملية عامة و”موضوعية”، ولا أحد منا خارجها لمجرد رفضه الذاتي لها. لا نتحرر من الطائفية إلا بقدر ما ننخرط في عملية مقاومة واعية ضدها، ونلتزم بإعداد موقع نظري وسياسي مناسب لتجاوزها. ليس هذا سهلا ولا ينال بمجرد الرغبة فيه، بيد أنه يحكم فورا على الاتهام والتبرؤ الطائفيين بانعدام المعنى، بل إنه يجعل منهما وجهين لمخاتلة الظاهرة الطائفية ذاتها وتلاعبها المحتمل بوعينا. وفي واقع الحال السوري يلحظ المتابع المدقق أن من ينكرون الطائفية عن أنفسهم يسارعون إلى اتهام خصومهم بها. هذا في نظري مؤشر على اكتساحها الوعي العام، وعلى ضرورة الخروج من المقاربة الذاتية والإيديولوجية للطائفية نحو مقاربة سوسيولوجية وتاريخية وسياسية أكثر موضوعية.
ثم إن كون الطوائف نتاج تطييف عام يعني أيضا أنه ليس في مجتمعاتنا أكثريات، ليس ثمة إلا أقليات. بهذا المعنى، بلى، “المسألة الطائفية مسألة أقليات”، لكن ليس بمعنى أن الطوائف أقليات بل بمعنى أن الشرط الطائفي هو شرط منتج لأقليات فحسب، وأن تجاوز الشرط الطائفي يقتضي تكون أكثرية وطنية، متميزة حتما عما يحتمل وجوده من أكثريات دينية أو مذهبية. وهو ما يدفع مسألة بناء الأكثرية هذه لتكون أساس الأمة إلى صدارة العمل العام في بلداننا. هذه من القضايا التي تحتاج جهودا كبيرة، نظرية وعملية، أحاول قدر المستطاع المساهمة فيها.
على أني أعتقد أننا بحاجة إلى مزيد من الجهد والأدوات التحليلية المبتكرة لاكتناه “سر” الطائفية ولتجنب أحابيلها ومراوغاتها. سأقول أيضا إننا بحاجة إلى الاعتراف بها، بل و”احترامها”، من أجل قليل من معرفتها. وهذا نقيض ميل عام في أوساطنا، سلامة مثال عليه، إلى توهم معرفتها دون الاعتراف بها؛ وإلى الاستغناء عن تحليلها بتحريم النقاش حولها، أو افتراض أننا نعرفها أصلا فلا داعي للمثابرة على التفكير بها.
ومن جهتي أفضل الكلام على مشكلات طائفية بدل مسألة طائفية، لأن الطائفية ليست تحديا عمليا فقط وإنما هي تحد فكري كذلك. ونحن نواجه صعوبات كبيرة لا في التصدي السياسي لها، بل وفي مجرد مقاربتها بالتحليل والمعرفة. وبمجرد أن تكون لدينا مسألة طائفية فحسب فإنها تكون محلولة مبدئيا. هذا لأن صوغ المشكلات الواقعية في مسائل نظرية واضحة، أي صنع مسائل من المشكلات، هو في اعتقادي ثمرة قدرة اجتماعية على السيطرة عليها واستيعابها (نظريا وعمليا) و”موضعتها”، فتمسي مسألة عملية، وتغدو معالجتها قضية جهد ووقت فحسب. محلولة مبدئيا كما قلت للتو.
***
أعود إلى القول إن الطائفية اسم عام للشرط الاجتماعي السياسي الذي تنتجه وتشتغل ضمنه عملية التطييف وتتكون ضمنه الطوائف. وليس ما يورثنا إياه التاريخ من تمايزات دينية أو مذهبية سوى أطر محتملة للتطييف، أدوات محتملة في الصراع على السلطة والثروة. ليس العلويون والدروز والسنة..، وليس المسيحيون والمسلمون، طوائف من تلقاء ذاتهم، سواء كانوا أقليات أو أكثريات دينية ومذهبية. ما يمكن أن يجعل منهم طوائف هو شيء لا يصدر من الفوارق الدينية والفكرية بينهم، ولا من اختلاف أنماط حياتهم، بل من استخدامهم المحتمل أدوات في الصراع السياسي بين نخب قد لا تتميز باحترام خاص للعقائد الدينية، ولا يحركها نصرة الدين أو المذهب إلا بقدر ما يخدم تطلعاتها إلى السلطة والنفوذ السياسي والمادي والمعنوي. فلأن ما يهم النخب تلك هو نجوع التكوينات الدينية والمذهبية هذه كأدوات في التنافس الاجتماعي والسياسي، فإن الاعتبار العقيدي والإيماني يتراجع إلى الوراء في دوافعها، حتى لو اندفع إلى الصدارة في الخطاب المعلن.
***
والقول إن الطوائف نتاج تطييف وليس العكس يعني أيضا أنه يمكن صنع طوائف من مادة اجتماعية لا دينية أو مذهبية. التطييف هنا يأخذ معنى “تكوير” جماعات حول مبدأ ما، وتحولها إلى ما يقارب أصناف اجتماعية مختلفة نوعيا عن غيرها. ويمكن للمرء أن يكون وكيلا للطائفية أو فاعلا طائفيا، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنه يعلي من شأن “طائفته” (بالمعنى الشائع للكلمة، أي رابطته الدينية أو المذهبية الموروثة) أو ينصرها على غيرها. فالطوائف هنا شكل للانتظام الاجتماعي في سياق سياسي نزاعي، لا تطابق بالضرورة حدود “الطوائف” بالمعنى الشائع. وقد تتشكل “طوائف” حديثة حول أنماط حياة وأذواق وسلوك، دون أن يكون لها أصل ديني سابق. لماذا نسيمها طوائف؟ لأنها ميالة إلى التكور أو الانغلاق على نفسها، وتستبدل الانفتاح النفسي والفكري والسياسي الضروري للعمل العام على المجتمع ككل بالانزواء والتحزب الضيق والعصبوية.
والصراع بين حماس وفتح في فلسطين يأخذ شكل صراع طائفي دون تمايز ديني أو مذهبي بين أنصار الجماعتين (أحيل إلى مقالة لي في هذا الشأن بعنوان “تطييف السياسية وصناعة الطوائف”، الحياة، 4/2/2007، موجودة في “الحوار المتمدن” أيضا). ومن سمات الصراع الطائفي أنه صراع مطلق، إلغائي، لا يقبل تسويات، وهو معاد بالخصوص لثقافة التسوية التي قد تنظر إلى الاختلافات المحتملة كفوارق جزئية ونسبية يمكن الوصول إلى حلول وسط لها بتقديم تنازلات متبادلة. مثل ذلك ينطبق على العلاقة بين إسلاميين وعلمانيين في غير بلد عربي، لدينا في سورية وكذلك في المجال المغاربي، حيث يتجاوز الفارق بين الجماعتين كون خصومة ففكرية وسياسية ليمسي “تناقضا تناحريا” أو “صراعا وجوديا” لا حل له إلا بزوال أحد الطرفين. ولعل مثل ذلك ينطبق على التنازع بين الفرانكوفونيين والعروبيين في المغرب.
من سمات الصراع الطائفي أيضا أنه لا ينفتح على إعادة تشكيل العام الوطني. هذا لأن الطائفة أداة محافظة، إن لم نقل رجعية، في الصراع الاجتماعي، ولا يمكنها لمآله المرجح إلا أن ينحصر بين تقاسم السلطة، ما يسمى في لبنان المحاصصة الطائفية، أو تقاسم البلد على ما يخشى أن يكون سير الأمور في العراق متجها إليه. أما تمخض دولة لا طائفية من صراع طائفي فأشبه بتوقع الحصول على عنب من الشوك.
ويفيد المثالان الفلسطيني والمغاربي للقول أيضا إن العدد الأدنى للطوائف هو اثنتان. لا يمكن أن توجد طائفة واحدة في أي بلد كما لا يمكن أن توجد طبقة واحدة. هذا لأن الطائفية مرتبطة كما قلنا بالصراع السياسي والاجتماعي، ما يقتضي طرفين على الأقل.
إن كان لي أن ألخص، في الختام، سأقول إن الطائفية ليست جوهرا ولا هوية ولا كيانا، ولا يكفي حتى القول إنها علاقة اجتماعية؛ إنها بالأحرى عملية أو جملة عمليات اجتماعية، لها نتاج نوعي هو الطوائف. سأقول أيضا إن مقاربة الطائفية من جهة الدين أو الوعي أو الإيديولوجية هي ذاتها مقاربة طائفية، وأن الأجدى مقاربتها من جهة الصراع السياسي والاجتماعي. ومن الجهة هذه يحتل مفهوما الأكثرية الوطنية والأمة موقعين مركزيين.
***
وبعد لست أدري إن كانت مقاربتي ماركسية. الأكيد أنها ليست كذلك إن كانت مقاربة سلامة ماركسية. في ختام غير نقاش شفهي بيننا كنت أمازح سلامة، جادا، بالقول إني أكثر ماركسية منه. وفي هذا النقاش المكتوب لا أجد ما يدعوني إلى أن أقول شيئا مختلفا.