تسييس
ميشيل كيلو
لا ترفض النظم والأحزاب في العادة تسييس أي أمر يخصّها، لأن عملها يكمن أصلا في إضفاء طابع سياسي على ما يحدث، وفي جعله قابلاً للانضواء في نسق سياسي خاص بها، تغلبه على الأنساق التي يتبناها خصم أو عدو أو معارض، حتى لا يبقى شأن من شؤونها في قبضة العشوائية أو خارج مجال الأفعال الإرادية، التي تميّز نهجها وتعبِّر عن مصالحها.
ليس التسييس، بهذا المعنى، غير الاسم الآخر لنشاط أية جهة رسمية أو حزبية تعمل في الشأن العام، تفاعلاً أو إدارة أو رقابة أو توجيهاً. هذا على مستوى الحكومات والأحزاب الوطنية. أما على المستوى الأكبر، مستوى العالم، فالتسييس صفة أية فاعلية عامة، خاصة إن كانت موجهة إلى آخر، سواء كانت اقتصادية أو ثقافية أو تنموية أو تقنية أو عسكرية أو اجتماعية… إلخ. ليس هناك دولة واحدة تمارس الشأن العالمي العام كشأن ينضوي في أعمال البر والتقوى. ولا يوجد بلد واحد لا يربط أنشطته ومصالحه بأهداف سياسية، أو لا يؤسسها على أرضية سياسية، أو يستخدم لتحقيقها وسائل سياسية. ومن المعروف أن العالم ليس غير حقل سياسي شديد التشابك والتعقيد، يتصف بكثرة الفاعلين وتقاطع وتضارب المصالح القائمة فيه. ومن يبحث عن حقل دولي بلا سياسة، أو قليل التسييس، هو كمن يبحث عن ماء في السراب….
عندما يجتمع مجلس الأمن، فإنه لا يجتمع كي يسلي أعضاءه بقضايا عالمية، أو يروِّح عنهم عبر البحث في أزمات الكون، بل هو يجتمع ليبحث ضمن إطار سياسي صرف مسائل محض سياسية، يحاول كل طرف فيه، وخاصة الكبار من أعضائه، قراءتها وتفسيرها بما يخدم أهدافه عن سابق عمد وتصميم، وفي إطار ضروب من تسييس إقصائي، إن تطلب الأمر. أما عندما تعقد تسوية بين مصالح ومواقف متعارضة، فإن شأناً سياسياً ما هو الذي يمليها، أي أنها تكون مستحيلة دون قدر من التسييس التوافقي. هكذا، ليس في عالم الدول الصغرى والكبرى، وفي المنظمات الدولية أي شأن غير سياسي، وليس هناك أي جهد عام إلا وهدفه تسييس أمر ما، مهما كان تافهاً أو عظيماً. عندما ارتكبت جريمة اغتيال الحريري، كنا أمام فعل سياسي. وحين اجتمع مجلس الأمن وتدارس القضية وتفرعاتها، فإنه انتهى إلى اتخاذ قرار سياسي هو القرار 1559، وكذلك عندما أصدر قراراً بتشكيل محكمة دولية للتحقيق في الجريمة. وعندما قام مجهولون بقتل الرجل، فإنهم كانوا يقومون بنشاط جرمي سياسي الطابع يستهدف زعيماً سياسياً، فلا مبالغة في القول: إن المسألة سياسية من أولها إلى آخرها، فلا عجب إن كانت النتائج التي ستترتب عليها سياسية بدورها، بالنسبة إلى من قرروا قتل الرجل أو بالنسبة إلى خصومهم وأصدقائهم هنا وفي العالم. لا يعني هذا أن لجنة التحقيق مكلَّفة بإجراء تحقيق سياسي. الحقيقة أنها لجنة قضائية تحقق في موضوع سياسي، وأن مهمتها تكمن في وضع يدها على الأشخاص، الذين خطَّطوا للفعل الجرمي، والأفعال، التي مهدت له، على أن تخضعها لمعايير ومدونات قانونية تطبقها عليها عبر تقنيات وفنون وأساليب التحقيقات القضائية وحدها، لكشف حقيقة ما حدث، مع أن التحقيق سيوجه دون شك تهماً قضائية إلى جهات تعمل في الحقل السياسي، بمعنى أنه لن يحجم عن كشف أشياء تنتمي إلى المجال السياسي، دون أن يفقده كشفها طابعه القضائي – القانوني، ودون أن يكون وراءه مقاصد سياسية. ليس معنى هذا أن الجهات السياسية الدولية لن تجري قراءة سياسية للتحقيق، وتحاول الإفادة منه ضد هذه الجهة أو تلك من الجهات، التي سيبين التحقيق القضائي أنها ضالعة في جريمة قتل الحريري. التحقيق شيء واستغلاله السياسي شيء آخر. إنه يجري في أطر قانونية، لكن إعلانه سيحدث في فضاء سياسي محدد، لا شك إطلاقاً في أن هناك جهات وقوى ودولاً ستستخدم نتائجه لصالحها، ووفق قراءتها الخاصة له! هل يعني هذا أن التحقيق القضائي سيخدم أطرافاً سياسية بعينها تقرر سلفاً أن يخدمها، أو أن نتائجه تعيّنت سلفاً وقبل إجرائه؟. كلا.
التحقيق قضائي، بمعنى أنه لم تتحدد نتائجه السياسية بصورة مسبقة، وأنه لم يتقرر أن تخدم أطرافا ًبعينها، أو أن تمارس اللجنة التي قامت به مهمتها في ضوء اعتبارات سياسية. طبيعي أن نتائجه ستضر بالجهات التي تورطت في جريمة قتل الحريري، وأن أذى لن يلحق بها، إن كانت بريئة من دمه. بكلام آخر: لن يمنع التحقيق البريء من إثبات براءته، ولن يمكّن خصومه من إلصاق تهم به أو من استغلال نتائجه ضده، وهو سيتيح له النجاح في مقاومة أي طرف دولي يريد توريطه في ما لم يفعله، وسيضع حداً لأي لغط يستهدفه. وإذن، فإن التقرير لن يكون بالضرورة لصالح أمريكا، ويمكن أن يفيد في تبرئة من تستهدفهم بضغوطها، بحكم طابعه القضائي – القانوني: ضمانة نزاهة إجراءاته وتحقيقاته، غير السياسية. لا يتفق تسييس التحقيق مع مهمة اللجنة، القانونية – القضائية الصرف.بالمقابل، من غير الممكن أو المجدي رفض نتائجه، التي تتلخص في تقديم أدلة وقرائن كافية لتجريم الجهة التي قتلت الحريري أما النتائج السياسية، التي ستترتب عليها، فتقع جميعها خارج نطاق التحقيق وأهدافه، لاتصالها بمجال لا شأن له فيه ويجب أن يبقى مستقلاً عنه هو حقل السياسة والعلاقات بين الدول.تتخذ سوريا موقفاً غريباً يرى أن على التحقيق تبرئتها وإلا اعتبرته مسيساً: صادراً عن جهة سياسية لا قضائية. ومع أنها تؤكّد على لسان كبار ساستها براءتها من دم الحريري، فإنها تتصرف بطريقة تفتقر إلى الثقة بالنفس، حدها الآخر التشكيك في نزاهة لجنة التحقيق واتهامها المبطن بأنها تنفذ مخطط أعدائها. هذا الموقف خطأ لا يجوز أن يقع فيه نظام دمشق، لأنه سيدخله في متاهة ستفاقم كثيراً مشكلاته، التي يمكن للتحقيق وضع حد لها، إذا كان صحيحاً أنه لم يمس الرجل بسوء. وعلى كل حال، فإن اتهام اللجنة بتسييس مقتل الحريري يتعارض مع الحيدة التي أظهرتها إلى الآن، ومع ما يشهد لها الجميع به، حتى في دمشق نفسها، من حرفية ومهنية، ويقوّض موقف سوريا، ويظهرها بمظهر المريب الذي يكاد يقول خذوني!.