الصحافة السورية واقع قلق.. وإرث هش.. وفساد منمّق!
عبد الرزاق دياب
(من يعمل في مهنة الصحافة يقضي النصف الأول من حياته في البحث عما يجهل، والنصف الثاني في السكوت عما يعرف).
• كاتب ألماني ساخر
تاريخ الصحافة السورية عريق جداً، وهي من الأقدم في الشرق، فقد ظهرت أوائل الصحف في بعض مدننا في منتصف القرن التاسع عشر، ثم ما لبثت أن تبعتها المئات من الصحف والمجلات مع مرور السنوات والعقود والمراحل المختلفة..
فأثناء الحكم العربي ما بين عامي 1918-1920 صدرت في سورية أربع وخمسون دورية، أما في عهد الانتداب الفرنسي الذي دام 26 عاماَ فقد صدرت 183 دورية منها 114 في دمشق، أما بعد الاستقلال فقد حدد المرسوم التشريعي رقم 50 الصادر بتاريخ 17/10/1946 بأن تصدر الصحف السياسية بمعدل صحيفة واحدة لكل 50 ألف شخص. أما الآن، ونحن نمضي في القرن الحادي والعشرين، فحتى اللحظة لم يزل بسام ومحمد وفريال، يبحثون عن الاستكتاب المذل، من جريدة إلى أخرى، وما زالت ناديا تحلم بفضائية تضم موهبتها في الإلقاء، دون أن تقع فريسة من يريد تشغيلها، فقد منحها الله دون ذنب منها، وجهاً يثير شهوانية المتربعين قسراً على عرش الإعلام.
في حين يتصيد همام ووسام ونورا الفرص ليصيروا على الأقل اسماً يمكن أن يشتري منه أحد ما، في جريدة ما، ألفي كلمة مقابل 1500 ليرة سورية.
مهند المسكين يدور من فضائية إلى أخرى حاملاً صوته وحظه العاثر، السيرة الذاتية، الأعمال التي شارك بها، أعمال الدوبلاج التي نفذها. عندما حالفه الحظ عمل في محطة لم تكمل بثها، وأخرى لم يستطع تحمل نفسية صاحبها ومزاجه الناري، ومحطته التي تتحدث عن إنجازاتها وهي في مرحلة البث التجريبي.
هذا باختصار واقع الشريحة التي تخرجت من الجامعة، أو التي تمتلك الموهبة دون شرط أكاديمي، أما البقية التي تعمل بانتظام في القطاع العام الإعلامي (الإعلام الحكومي)، فتبدو للوهلة الأولى مستقرة الحال، ولكن الواقع يعكس غير ذلك.
من هنا يمكن أن نتحدث عن واقعين، الأول يتعلق بالصحيفة، والآخر بالصحفي.
الصحافة الحكومية
والتي تعرف بالصحافة الرسمية، الناطقة باسم الحكومة، والمنافح (غالباً) عن خطواتها والمُبارِكة لها، وإن كان لها في الآونة الأخيرة شرف محاولة نقد سياساتها في المجال الاقتصادي والاجتماعي، وتسليط الضوء على الأخطاء في الدوائر الحكومية الدنيا، وكان لبعضها شرف الإشارة إلى حالات كبرى من الفساد، إلا أنها تبقى دون شك، الناطق الرسمي بلسان حال الحكومة.
والصحف الرسمية الثلاث التي تصدر صباح كل يوم، يُجمِع أغلب السوريين على أنها تكاد أن تكون نسخة واحدة عن بعضها، والسبب يعود إلى مركزية الإعلام الرسمي، واعتماده على مصدر أنباء واحد في أخباره، وخاصة السياسية منها، هي وكالة (سانا).
الصحافة الخاصة
في استعراض سريع لتاريخ الصحافة السورية الخاصة، وعلى الأقل منذ 20 عاماً، أي منذ أواسط الثمانينات لم تكن هناك صحيفة سورية واحدة يمتلكها مواطن سوري، السبب أن قانون المطبوعات في تلك الآونة كان يضع الصحافة في يد الحكومة فقط.
في تلكم الفترة كانت موضة الصحافة الخاصة الوافدة فقط. السوريون كانوا مستثمرين على المناسبة، لتلك الصحف التي يمتلكها لبناني أو سواه.
يذهب السوري إلى بيروت ويوقع عقد استثمار من اللبناني لمدة 99 سنة أي أنه يصبح بحكم المالك الرسمي، يبدأ العمل في سورية بعد أن يحصل على موافقة التداول في سورية، عن طريق وزارة الإعلام، أما الطريقة الثانية فكانت الحصول على تراخيص من صحف عربية كبرى تعيش في الخارج مثل اليونان وقبرص.
لكن ما الذي قدمته تلك الفترة من تاريخ الصحافة السورية الوافدة، (إن صحّ النسب)، للصحافة السورية وللمواطن السوري؟!
هذا النوع من الصحافة عاش على ابتزاز المؤسسات الرسمية، من وزارات وبلديات ومؤسسات، من باب الإعلان عن إنجازاتها، حيث يتصدر رئيس بلدية صدر صفحة ملونة وبمبلغ 20 ألف ليرة سورية، من ميزانية كان من المفترض أن تذهب إلى عمل خدمي للناس، هذه الصفحة التي تشيد بمهاراته في العمل، قد تصل إلى الجهات العليا التي ستبتسم له وتمدد ولايته.
الأسلوب الآخر الذي روجت له هو الاعتماد على التعاميم التي تصدر عن المحافظين، بالإعلان والاشتراك في هذه الصحف، التي عاشت وترعرعت على هذا الشكل لسنوات طويلة.
أما كيف كانت تدير العمل الإعلاني؟! فبكل بساطة كانت مجموعة من الفتيات الجميلات تشكلن في تلك الفترة نموذجاً كالنجوم، وتعرفن من أين تؤكل الكتف، ولم تزل بعضهن في العمل الصحفي حتى اليوم، مع اجتهاد في تغيير الأسلوب بعد دخول الصحافة الخاصة بشكل رسمي إلى السوق الإعلامية السورية.
أحد أقطاب الإعلان في تلك الفترة يمتلك مكتباً خلف مشفى المجتهد، على خصره مسدس وبين فخذيه ليتر ويسكي فاخر، وخمس فتيات في أول العمر، ينتشرن في الملاهي، من الربوة حيث صغار المطربين في (العراد) ومطعم القصر، إلى كازينوهات الغوطة، حيث السكارى ومطربي الأعراس. هكذا كان المذكور يدير الإعلانات لأغلب الصحف والمجلات الخاصة آنذاك، عمولة 25 % إذا تمكن صاحب المطبوعة من الحصول على الـ 75 % المتبقية مع المؤسسة العامة للإعلان.
أما كيف يتهرب المعلنون والصحيفة ومندوب الإعلان من دفع حصة مؤسسة الإعلان، فقد ظهر وعمم حتى تاريخه (الريبورتاج، اللقاء المعلن)، إعلان على صيغة المادة الصحفية، ليس إعلاناً فجاً.. وإنما يقبض ثمنه على كل حال.
الصحافة الخاصة الآن
ما زالت الصحافة الخاصة تحبو على ركبتيها، فقط خانة الاستثمار في المجال الإعلامي، ما قاد إلى ظهور عشرات الصحف الخاصة المنوعة، وفي الغالب ما زالت رهينة التجربة السابقة، وتمارس الأساليب نفسها في التمويل، وكبار المستثمرين أرادوها صوتاً لهم، وهذا ما تؤكده النظرية الإعلامية التي تقول: (الإعلام صوت السيد)، والسيد هنا هو المالك.
من يدير العمل هو مجموعة الباحثين عن فرصة عمل، وهو ككل القطاع الخاص، يبحث عن الصحفي الذي يمكن أن يرضى بالسعر الأقل، وفي مجملها لا تزيد رواتب المحررين عن 25 ألف ليرة إذا كان اسماً لامعاً، والأفضل أن يكون خريجاً جديداً، أما أغلب المواد الإعلامية، فمصدرها المستكتبون على القطعة التي لا يزيد ثمنها على 2000 ليرة.
هذه الصحف، وإن طورت مفردات عملها، في الجاد منها، وتعد هنا على الأصابع بسبب استخدامها للخبرات الكبيرة على الساحة الإعلامية في سورية، لكن عقلية المستثمر تبقى هي الطاغية، ففيها الكثير من المداهنة للقطاع الذي تنتمي إليه، والموارِبة من أجل إعلان ينقذ ماء الوجه، بعضها لم يدفع في شهور، أجور الصحفيين الذين يصدرونها، وبعضها (يطنش).
في صحافة الأحزاب
كل يغني على مبدئه، وبعض هؤلاء يدعي حمل النظريات التي همها الأوحد الدفاع عن مكتسبات الجماهير على غير يقين أو مبدئية..
الذين يحررون هذه الصحف هم أعضاء الحزب غالباً، بالإضافة طبعاً لبعض المستكتبين الذين يمكن أن يغيروا بعض اللغة الكلاسيكبة في خطابها المتأخر عن حاجات الناس والمرحلة.. ويوسعوا الهامش الضيق الذي يفرضه التحالف الجبهوي على مواقف وإعلام هذه الأحزاب وصحفها والمواضيع التي تعالجها..
إحدى الجرائد الحزبية أثارت في أحد أعدادها قضية شركة فاسدة، صال المحرر وجال، وجمع ما استطاع من وثائق تدين المدير وبعض المتعاونين معه، وبدت الأمور وكأن الصحيفة تسعى لإحداث ثورة في عالم الصحافة المحلية، لكن في العدد التالي مباشرة، قامت الصحيفة نفسها بنشر إعلان عن الشركة وما تقدمه من خدمات جليلة للجمهور، مع تصريح للمدير الفاسد يظهر فيه «بطولاته الإدارية والإنتاجية». والذي حدث من تحت الطاولة بكل بساطة، أن مندوبة إعلان أكلت المبدأ مع جهد الصحفي، مع الحقيقة!!.
ولكن ما تقدم ليس كل ما في صورة الصحافة الحزبية أو القريبة منها، فثمة أمثلة أخرى أكثر موضوعية ومبدئية ومهنية..
لغة وفن جديد
من بين الصحفيين اجتهد من اجتهد، من قدر له العمل كمراسل لإحدى الصحف العربية، مستكتباً عن طريق المكاتب الصحفية التي ابتزت الكثيرين، ومارست كل الضغوط بحقهم، ولعبت دور مكاتب السمسرة التي تأخذ العمولة. أجر الصحفي قد يصل إلى 100 دولار عن المادة، يقبض 2000 ليرة والباقي عمولة لهذه المكاتب.
البعض الآخر صار عرّاباً لبعض الاقتصاديين ينشر أخبارهم، يدور في فلكهم، ويعيش على الفتات الذي اشترى للبعض سيارة وأكثر.
بعض من يصفن أنفسهن بالصحفيات مارسن دور تلميع رجال الأعمال، مقابل الحصول على إعلانات لمؤسساتهم.
من بين الصحفيين نجد بعض الذين يعملون في الصحف الرسمية، وقد دفعتهم أحوالهم المالية للاتجاه للصحافة الخاصة، كبديل مادي للتعويض عن سوء الحال، وبعضهم حقق ما صبا إليه رغم صدور قرارات كثيرة بالعمل فقط في صحفهم الرسمية.
في الإعلام الالكتروني
في هذا النمط الجديد الذي لم يحدده أي قانون، جاء على هيئة الخليط الكثيف لمجموعة الصحف، بالإضافة إلى اعتماده على المواد المنشورة في مواقع أخرى، محلية أو عربية أو عالمية، باستثناء بعضها الذي قدم محاولات جديدة، بما يتعلق بالترجمة الإستراتيجية، لكنها تشترك جميعاً، في الهم نفسه الذي تعانيه كل مفاصل الصحافة السورية.
في المحصلة
ما زال الصحفي السوري يبحث عن لقمة العيش، يكتب هنا وهناك، في صحيفة رسمية وأخرى خاصة، أو في موقع الكتروني، يمدح الحكومة في الرسمي، ينتقد أداءها في الخاص، ما يجبره على ذلك هو محاولة الوصول إلى حياة كريمة، ربما تمنحه الاستقرار.
في الصحافة الخاصة البحث عن الهوية دون أن يكون للمستثمر سطوة علاقاته ومزاجيته، المطلوب صحافة ذات مشروع تثقيفي وطني، خارجة من ثوب الماضي، ودون قلق الحاضر
فلاشات صحفية..
• كلما ازداد حديث بعض المسؤولين في الحكومة عن «حرية الصحافة»، ازدادت بالمقابل إجراءات التضييق على الصحف والمجلات المعروفة بجديتها وموضوعيتها، حتى بتنا نسمع كل يوم تقريباً خبراً عن منع توزيع دورية ما، أو سحب أعداد مطبوعة أخرى من التداول لسبب أو لآخر، وكان آخر ما انشغلت به الأوساط العامة وخاصة الصحفية في هذا السياق، هو منع توزيع العدد الثالث عشر من الزميلة جريدة «الخبر» الصادر في 2/8/2008.. لأسباب غير مقنعة..
• حتى يومنا هذا، حين يعجز بعض المسؤولين الكبار عن تبرير أخطائهم الإدارية، أو تورية فسادهم بالصورة التي اعتادوها، أي عبر المراوغة واختلاق الحجج والذرائع، يميلون لإسكات الأقلام الجريئة التي تفضحهم عن طريق الأساليب الكلاسيكية التي توفرها لهم صلاحياتهم التنفيذية.. وسطوتهم ويدهم الطولى؟!..
• يحاول الكثير من المدراء العامين، ومن بحكمهم، وبعض المحافظين، وبعض الوزراء اعتماد أسماء صحفية محددة للترويج لهم وتجميل صورهم، وبالمقابل لا يقصرون تجاههم بالحماية، وتوظيف المقربين منهم، وتزويدهم بالأخبار الساخنة، وخصهم باللقاءات الصحفية والدعوات الشهية..
• يعاني الكثير من الصحفيين الشرفاء العاملين في الصحف الرسمية أو شبه الرسمية، وخاصة أولئك الذين يمتلكون مهنية عالية ووعياً وطنياً نقياً، من ضغوطات شديدة في مواقع عملهم، وكثيراً ما نسمع عن صدامات عنيفة بينهم وبين رؤسائهم المباشرين وغير المباشرين.. وقلة منهم من يستطيع التحمل لفترات طويلة قبل أن يجمع أوراقه ويرحل إلى غير رجعة..
• الصحافة في بلدنا ليست سلطة رابعة أو سابعة أو عاشرة.. إنها ليست سلطة على الإطلاق، وإلا لكان المسؤولون المتربعون في مناصبهم حتى الآن، والذين أثبتت الصحافة عدم كفاءتهم، أو فسادهم.. داخل السجن.. أو على أقل تقدير في مزارعهم المنهوبة من المال العام، يربون الدجاج والأرانب..
قاسيون