سورية: نضال… من أجل أي شيء؟
ميشيل كيلو
هل يناضل البعث اليوم من أجل الوحدة، أم من أجل الحرية أم في سبيل الاشتراكية؟ إذا كان لا يناضل من أجل هذه الأهداف، التي أفشلها لأسباب كثيرة، منها أنه تعامل معها وسوّقها بوصفها شعارات تتصل بسلطته وليست أهدافا ترتبط بمصالح العرب العليا، وأنه أقلع منذ وقت طويل عن العمل لترجمتها إلي سياسات فاعلة، قبل أن يتراجع صراحة عن بعضها ويقفز عن بعضها الآخر في أدبياته وسياساته العملية، فمن أجل ماذا يناضل البعث السوري اليوم؟
وإذا كان البعث السوري قد استمد شرعيته من وعد الوحدة العربية والحرية، العامة والشخصية، والاشتراكية كسبيل إلي التقدم والعدالة وتكافؤ الفرص، وكان الفشل في تحقيقها قد أفقده الشرعية التي استمدها منها، فمن أين يستمد شرعيته اليوم، وما الشرعية التي يسوغ بها حكمه؟ وهل الشرعية البديلة، التي لا يعرف أحد ما هي وتعتبر من المسكوت عنه والمحظور مناقشته، من نمط واحد وطبيعة واحدة؟. وهل تنتمي إلي أيديولوجية التبشير، وتعد بعالم يشبه العالم الذي بشرت الشرعية القديمة به، أم أنها شرعية متقطعة وذرائعية، تختلف في هويتها وتركيبها عن الشرعية السابقة، التي ضاعت، بكونها من أنماط متعددة وتراكيب متنوعة تعكس ما أصاب النظام من تبدل وتغير، وما جعله نظاما مختلفا عن النظام الذي كانت الأيديولوجية القومية/الاشتراكية قد وعدت الشعب به، وفشلت بسبب فشلها في إقامته؟
ليس هناك اليوم كليات قطعية من النوع الذي سيطر في حقبة البعث الأولي، وجعل الشعب يركن لبرهة إلي سياسات أخرجته من السياسة، وعدته بالوحدة العربية والعدالة الاجتماعية والحرية للأمة ولكل واحد من أبنائها. وليس هناك اليوم مواطنا، بعثيا أو غير بعثي، يري في هذه الكليات اليقينية وعدا، ويؤمن أن السياسات والخطط، التي قيل إنها ضرورية لنجاحها، هي سبيله أو سبيل سورية إلي الوحدة والحرية والاشتراكية. بعد نيف وأربعين عاما من التجربة، فقد الشعب أوهاما كان الأمل قد غرسها فيه، وفقد الثقة بقدرة البعث علي تحسين حياته وتوحيد أمته وإقامة مجتمع الكفاية والعدل، فنشأت عن ضياع الأوهام والوعود ثم ضياع الثقة نتيجة رئيسية هي أن عمارة البعث الرسمية الضخمة صارت بلا أساس مجتمعي وشعبي يحملها، وأن سورية تنقسم اليوم إلي مجتمعين يضم أحدهما فوق ، أي قلة سياسية تمسك منفردة بسلطة تستخدمها في إنتاج وإعادة توزيع الثروة لصالح قلة اقتصادية (اجتماعية) سلطوية تسيطر في الوقت نفسه علي شبكات المعرفة والمعلومات وأنماط توزيعها، وعلي الإعلام وأجهزة الدولة والمجتمع الأيديولوجية، كما تتمثل أساسا في المدرسة والجامعة والقضاء، لكنها تفقد أكثر فأكثر السيطرة علي هذه المجالات جميعها، لأن المجتمع الثاني، مجتمع البشر، أخذ يبلور بنجاح متزايد أنماطا من العيش والتواصل والعمل والتفكير، منفصلة عن الأنماط السائدة في مجتمعها أو مضادة لها، تتحرر أكثر فأكثر من رقابتها، الأمر الذي ينعكس في تطور جديد يمكن مجتمع المواطنين من تكريس ذاته كمجتمع يستطيع تطوير بدائل اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية تخصه، وتعينه علي تكريس نفسه كمجتمع سياسي، بينما يفعل الفشل فعله في النظام القائم، الذي لم يعد قادرا علي الحكم باسم مشروع مستقبلي، ويحكم أكثر فأكثر باسم مصالحه السلطوية الضيقة، التي تنقلب إلي مصالح شخصية، تجبره علي التمسك بطرق قديمة وبالية في الحكم، دون أن يكون قادرا علي تطوير طرق بديلة لها، أو يكون بوسعه تقديم قراءة مختلفة للوعد القديم، لذلك تراه يتجه، بقوة لا راد لها، إلي وضع يعني الحكم فيه إدارة أزمة النظام والسلطة في شروط متغيرة وغير ملائمة داخليا وخارجيا، تقلص قوة المجتمع الأول وتعزز عودة الثاني وخياراته، فهو إذن عالم يموت وآخر يولد، مع كل ما يسببه الموت وتحدثه الولادة من ألم.
ثمة هنا مفارقة مهمة، تفسر كثيرا من جوانب الواقع السوري القائم، هي أن الوليد لا يحتل المواقع التي يخليها الميت، أو لا يحتلها بالسرعة الضرورية، كما أنه لم ينجح بعد في إقامة بنية سياسية شاملة تواجه بنية السلطة الشمولية القائمة، كي تزيحها عن مواقعها. ثمة هنا أسباب شديدة التنوع والتعقيد، منها علي سبيل المثال لا الحصر تبني قطاعات واسعة من المجتمع الثاني فهم للوطنية حدد المجتمع الأول مضمونه، ودأب علي استغلاله باعتباره بديلا لشرعيته الضائعة، يجب الاعتراف بأنه نجح حتي الآن في فرضه علي المجتمع الثاني، مما أعاق تبلوره واستقلاليته، وأعاد قطاعات واسعة من الناس إلي شراكه، انطلاقا من رؤية تري في مجتمع السلطة والوطن شيئا واحدا، وتجعل معارضة الأول تبدو وكأنها معارضة للوطن. فلا مفر من قيام المعارضة ببلورة وعي شعبي يربط الوطنية بحرية الشعب، ما دام الشعب هو الذي يحمي الوطن، وهو مصدر النجاح والقوة والعدل والحرية والتقدم والديمقراطية، وتاليا المقاومة والنصر. الخ. هذا الوعي، يجب أن يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وأن يركز علي فكرة جوهرية هي أن أي نظام يضطهد ويضعف ويقمع ويجوع ويجهّل ويبطّل شعبه يفقد صفته الوطنية، وأي نظام يضع نفسه في مواجهة مع داخله، أو يفرض عليه خيارات لا يريدها أو لم يستشر فيها، وأي نظام يستغل المشكلات الوطنية، خاصة إن تسبب بها هو ذاته، لتبرير قمع مجتمعه والاستبداد به وتجويعه وإفقاره وحرمانه من الحق في العمل والمساواة والعدالة والحرية هو نظام غير وطني وعدو لوطنه، فالوطنية ليست علاقة أحادية الجانب موضوعها الخارج، بل هي علاقة متنوعة المضامين، تتعين بصلات السلطة مع الشعب، فإن كانت قمعية ولصوصية كانت علاقة نافية للوطنية، تضر بالوطن وتعجز عن حمايته وصيانة حقوقه، لأسباب داخلية حصرا تتجسد في إقصاء مواطنها عن الشأن العام، أو في إفقاره، أو إذلاله، أو سلبه حقه في العمل والحرية والكرامة.
ثمة أزمة شرعية تتصل بالنظام، تحاول السلطة التخلص منها عبر نمط من السياسة يري الوطنية في بعدها الخارجي وحده، كعلاقة بين كتلة داخلية غير متميزة تمثلها سلطة تزعم أن الخارج لا يستطيع أن يكون غير عدو، وأن نجاحه ضدها يعني دمار الوطن ذاته، فلا مفر، إذن، من دعمها والامتناع عن مطالبتها بأي شيء، مهما كان عادلا ومحقا، ما دام التقصير في دعمها بشروطها ووفق سياساتها يضعفها ويهدد الوطن.
بهذه الطريقة في قلب الحقائق ووضع العربة أمام الحصان، وبحساسية المجتمع الثاني الوطنية، التي تجعله يقبل بعض معانيها الخاطئة، يساعد العداء للخارج السلطة علي بلورة شعور تهييجي تستغله لمنع حل مشكلات الشعب والبلاد، ولإدارة أزماتها والامتناع عن القيام بواجباتها تجاههما، وللظهور بمظهر سلطة تدافع عن وطنها، من الضروري أن يقف شعبها معها بلا تحفظ، وإلا هدد وطنه وفرط به، وألحق أفظع الضرر بنفسه.
بتجريد المجتمع السياسي المفلس من مصدر شرعيته الجديد، سيفقد آخر أوراقه، والقدرة علي إدارة أزمته وإدامة سلطته، وسيقف عاريا كنظام فشل في مواجهة مشكلات بلده الحقيقية، بما في ذلك مشكلاته الوطنية، التي ترجع أصلا إلي سياساته.إن كسب هذه المعركة ضروري لنجاح المجتمع الثاني في التكون كمجتمع سياسي، وهي معركة تستحق أن تخاض، لان أمورا كثيرة تتوقف علي نتائجها.