صفحات ثقافية

ملتقى الرواية العربي» في دمشق شهد مواجهات … الروائيون الشباب يتمردون على وصاية الآباء

null
دمشق – ابراهيم حاج عبدي
بدا المشهد أشبه بعرض مسرحي، فعندما قال الشاعر السوري حسين بن حمزة إن عشرين روائياً من جيل الشباب هُزِموا على يد اثنين من «القدامى» وهما، كما أعلن صراحة، فيصل دراج ونبيل سليمان، حاول الروائي الشاب خالد خليفة أن ينتصر لجيله، مسدّداً ضربة قاضية إلى الخصم، مصدراً حكماً مبرماً: «في رأيي أن مذكرات نجيب محفوظ لم تكن لتستحق النشر»!. فسارع الروائي المصري المخضرم خيري شلبي إلى الاحتجاج، وانسحب من القاعة، وهو يردد غاضباً: «هذا تجديف»! بينما علت وجوه الحاضرين علامات الحيرة، والدهشة من حكم الروائي الشاب، ومن تصرف الروائي العتيد.

حصل هذا المشهد في الجلسة الأخيرة لـ «ملتقى الرواية العربية: تحولات السرد الروائي»، الذي استضافته دمشق على مدى أربعة أيام 3 – 6 آب (أغسطس) 2008 في إطار احتفالية «دمشق عاصمة للثقافة»، ولعل هذه الواقعة التي اختزلت الأجواء التي سادت الملتقى، تنطوي على دلالات بليغة تشير إلى ذلك العداء الخفي أو المعلن الذي يتحكم في العلاقة بين الروائيين «الرواد والمؤسسين»، ونظرائهم من الشباب الذين قدموا نصوصاً جديدة، تحمل رؤى وتقنيات وأشكالاً مغايرة، وتندرج في سياق ما يطلق عليه «الرواية الجديدة».

الملتقى، الذي صاغ ملامحه الروائي السوري خليل صويلح، بدءاً من اختيار الضيوف وصولاً إلى المحاور المطروحة، سعى إلى البحث عن أجوبة لأسئلة إشكالية من قبيل: هل ثمة «قطيعة» (وهو، بالمناسبة، مفهوم تكرر بكثافة على ألسنة الجميع تقريباً) بين النصوص الروائية المكتوبة بأقلام الجيل الشاب، وتلك الروايات التي كتبتها الأجيال السابقة؟ هل هذه النصوص التي تعرف بـ «الجديدة» هي حقاً جديدة ومغايرة؟ وما سمات هذه الجدة، وتلك المغايرة؟ وأسئلة أخرى كثيرة تمحورت حول اللغة الروائية، وحول تحولات الشكل في التجربة الروائية العربية، ولم يغفل الملتقى تلك الطفرة الروائية النسائية التي طغت، في الأعوام الأخيرة، على المشهد الروائي العربي.

–> وإذا كنا نعيش «زمن الرواية» كما يبرهن جابر عصفور في كتاب يحمل الاسم ذاته، فإن من البديهي أن يطرح هذا النوع الأدبي أسئلة تواكب، انتشار الرواية وتتزامن مع رواجها في الأعوام الأخيرة حتى كادت أن تكون «ديوان العرب» بعدما حمل الشعر هذه الصفة لقرون مضت! ثمة آراء، بالطبع، تعارض مثل هذا التصنيف، إذ يرى أدونيس، مثلاً، أن الشعر هو لكل الأزمنة، ومع ذلك لا يمكن متابعاً منصفاً أن يتجاهل هذا الانتشار الواسع لفن الرواية ضمن المشهد الثقافي العربي. ولعل هذا ما يعطي تبريراً لإقامة مثل هذا الملتقى الذي سعى، كما يقول المنظمون إلى «تأصيل هذا الحقل الإبداعي، واختبار آفاق الكتابة الروائية الجديدة وموقعها ضمن المشهد»، وفي سياق النقاشات التي دارت برزت خلافات حادة، وأثيرت سجالات كثيرة، خصوصاً عندما كانت النقاشات تتطرق إلى قديم الرواية وجديدها، فالشباب أو «الأبناء» يبحثون عن الاعتراف، وحق الوجود، والقدماء أو «الآباء» يطالبون بالبقاء أوصياء على ذلك «الابن الروائي الضال»!.

في الواقع أن هذا السجال يذكر بالسجال العقيم الذي دار طوال عقود حول مدى قصيدة النثر إلى أن نالت هذه القصيدة مشروعيتها في شكل تدريجي. وكذلك فإن السجال حول قديم الرواية وجديدها عقيم، ذلك أن لكل جيل، بل لكل مرحلة معطياتها وملامحها وسماتها، وإذا كانت الرواية، كما يقول الروائي الفرنسي ستندال «مرآة تجوب الشوارع»، فإن هذا التعريف البسيط والعميق، يشير إلى أن هذا الفن يبحث في وقائع الحياة وأحداثها. يرصدها، ويراقبها، ويتعقبها، ويقتفي آثارها، ومن ثم يدونها في قالب فني وجمالي. وبالتالي فإن الاختلاف في الشكل والمضمون هو أمر تفرضه طبيعة المرحلة، فلا يمكن نصاً معاصراً أن يشبه نصاً للجاحظ، مثلاً، بل أن نصوص توفيق الحكيم ونجيب محفوظ لا بد من ان تكون مختلفة عن النصوص التي يكتبها اليوم، الروائيون الشباب، وهو ما أشارت إليه الروائية السورية سمر يزبك حين قالت إن لكل جيل تجربته ومغامرته، ولا يمكن أن يلغي جيل جيلاً آخر، فمجرد الدعوة إلى قتل «الأب» لا تعطي مشروعية للنص الروائي «الجديد»، مثلما أن عدم اعتراف الروائيين المكرسين بجيل الشباب لا يمكن أن يلغي تلك المغامرات الروائية الشابة، فالنص المبتكر يصمد، ولا يحتاج إلى أي دفاع.

رأى الناقد فيصل دراج في مداخلته أن الرواية العربية جمعت في ميلادها الأول بين الوضوح وبداهة المنتصر، وارتكنت إلى سرد خطي محدد البداية والنهاية، وأوكلت قولها كله إلى بطل رومنطيقي منتصر كما لدى توفيق الحكيم في «عودة الروح»، وطه حسين في «الأيام». ثم ظهرت رواية التحرر الوطني التي أكدت البعد القومي وأخذت بدورها، ببطل إيجابي الملامح والمصير كما لدى توفيق يوسف عواد وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد ديب، ولم تكن رواية «الواقعية الاشتراكية» – بحسب دراج – مختلفة عن النموذجين السابقين. فمع أن البطل المنتصر بدأ بالانحسار بعد إخفاق دولة الاستقلال الوطني في إنجاز وعودها، فإن فكرة البطل النموذج لم تنته بل أخذت شكلاً جديداً هو: «البطل المغترب» الذي أسست له رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب». ويلحظ دراج أن «اضطراب العالم العربي المستمر ودخوله إلى أطوار سديمية ما لبثا أن أنهيا فكرة النموذج، واقترحا منذ بداية تسعينات القرن الماضي أشكالا روائية جديدة تحدثت عن الإنسان المهزوم، المتشظي، الفرد الذي لا تسمح له شروطه أن يكون فرداً، والجماعة التي هي مجموعة من الوجوه الغائمة… إلى أن جاء زمن لا وضوح فيه، يمحو الحاضر السديمي فيه ملامح البطل والمستقبل معاً، كما لو كان الحاضر هو الزمن الوحيد المتاح. وأشار الروائي العراقي علي بدر إلى أن روايات الجيل الجديد ابتعدت عن أشكال التعبير الروائي لدى الأجيال السابقة المفتتنة بالإيديولوجيات والبطولة والوطنية وحروب الاستقلال. وامتلأت بدلاً من ذلك، بكم هائل من الحماقات، وقاموس الأفكار اليومية، وألبوم المزاح والنكات، وهدمت «المثال» بواقعيتها، وبرسمها الفج لكل ما ينقص المجتمع، ورسم بورترهات لكل أشكال الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من فقر، وجوع، وقمع واستبداد. ويتفق شاكر الانباري مع هذا الرأي، ويرى أن المثقف لم يعد نخبوياً متعالياً على الحياة اليومية للناس العاديين الأميين، بل صار أكثر التصاقاً بجريان الحياة اليومية. وهو ما يقود بالضرورة إلى معاينة العيوب والأمراض عن كثب والتعبير عنها من خلال النص. وكذلك وجد الروائي والناقد نبيل سليمان أن الرهان الروائي الحداثي الأكبر كان على الخروج من الأحادية اللغوية الشعرية المتعالية، كما الحال لدى ادوار الخراط وحيدر حيدر، إلى فضاء لغوي آخر يلعب فيه لسان العوام، فإذا باللغة الروائية تتعدد وتتهجن وتغتني بتعابير وتراكيب وجماليات مختلفة.

القطيعة الروائية

–> ورأى الناقد المغربي محمد برادة أن مفهوم «القطيعة» الذي يمهد للتجديد ويكشف أبعاده، يخضع للنسبية. لكن الأهم في مسألة القطيعة داخل حقل الرواية أنها لا تتم في معزل عن أصداء أو تأثيرات القطائع الابستمولوجية التي تتحقق في مجال العلوم الإنسانية لإنتاج معرفة مغايرة أو جديدة. وعلى ضوء هذه الرؤية قدم برادة قراءات نقدية لروايات كتبها روائيون شباب محاولاً الوقوف على ما تتضمنه من تجديد وقطيعة قياساً إلى اتجاهات سابقة لها في الزمان والسياق. واعترض الروائي التونسي على مفهوم القطيعة لأن مثل هذا الطرح مبكر، فالرواية العربية لا تزال تخوض مغامرتها، فضلاً عن أن الأمر يتوقف على ما نقصد بـ «القطيعة»، و «التجاوز»، قائلاً: ليست هناك كتابة جديدة في المطلق، وكل رواية جيدة هي جديدة في معنى ما».

وشهد الملتقى، الذي كاد أن يقتصر حضور جلساته على الضيوف وبعض الصحافيين، سجالاً حاداً عقب مداخلة للروائي المغربي سعيد بنكراد الذي لم يجد في المنتج الروائي النسوي سوى «الجسد والهروب من المواجهة». ففي مداخلته المعنونة بـ «السرد النســـائي أو الفحولة المسترجلة»، شن بنكراد هجوماً حاداً على الرواية النسائية الحافلة بـ «الإغراء»، معتبراً أن «المرأة تضع رغبتها في الكلمات قبل جسدها نفسه»، ومحدودية تجربة المرأة الكاتبة في معرفة الفضاء الإنساني حتمت عليها «الالتفات بما يشبه النكوص النرجسي الذي لا مثيل له إلى جسدها فأودعته اللغة والوصف والسرد…». وكانت الناقدة اللبنانية يسرا المقدم تطرقت في الجلسة نفسها إلى مصدر الفوارق في اللغة بين المذكر والمؤنث، ورأت أن «النحو المنحاز» كرس هذه الفوارق لجهة «طغيان وغلبة» ذكوريين. وفي حين بدت صاحبة «مؤنث الرواية» مستاءة من آراء بنكراد، فإن الروائية علوية صبح تجاهلت السجال، وتحدثت عن لغتها الخاصة في كتاباتها الروائية وبحثها عن لغة تقدم أبطالها ولا تقصيهم.

أتاح الملتقى لقاءات مفتوحة مع بعض الروائيين، ولابد هنا من الإشارة إلى تلك الجلسة الممتعة التي أدارتها الروائية المصرية ميرال الطحاوي، وتحدث فيها الروائي خيري شلبي، بتلقائية وعفوية، عن تجربته الروائية والحياتية، وراح ينبش في أروقة الذاكرة أعوامه الأولى حين أراد أن يخوض تجربة الكتابة وهو متشرد بين أزقة القاهرة. ولم تقل جلسة الروائية كوليت خوري متعة إذ اختلط فيها الجد بالمزاح، وقد أكدت أن الكتابة بالنسبة لها هي «الحياة».

الحياة     – 11/08/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى