ماتيس كورال: الـمـصــوّر الـذي لا يـسـرق الـصــور
محمد علي الأتاسي
تعرفت الى المصور الفوتوغرافي الأرجنتيني الشاب ماتيس كورال في بيروت قبل ثلاثة أعوام تقريبا، عندما كان يقوم بأول زيارة له للمدينة متأبطاً كاميراه وباحثا في امتداد البلد عن مواضيع تثير اهتمامه وتستفز مخيلته وتتلاءم مع فهمه للفن الفوتوغرافي. ما هي إلا مدة وجيزة حتى وجد ضالته في المخيمات الفلسطينية في لبنان. يومذاك تخيل بعض الأصدقاء، أن ما شدّ اهتمام هذا الرحالة الأرجنتيني المتعاطف مع القضية الفلسطينية إلى المخيمات هو بؤسها وفقرها وجرحها السياسي، وأن ما سيخرج به من حصيلة عمله هناك لن يعدو كونه مجموعات أخرى من الصور التي حفظناها عن ظهر قلب لكثرة ما تم عرضها في وسائل الإعلام مع ما تنطوي عليه من تنميط للفقر والتطرف والعنف والعسكرة والميليشيات المتنازعة.
قبل فترة وجيزة سنحت لي الفرصة أن أطلع على حصيلة عمله الفوتوغرافي في المخيمات، وكم كانت مفاجأتي كبيرة بالسوية الفنية العالية لعمله وبعمق مشاعر الحب والاحترام والإنسانية التي تنطوي عليها مجموعة الصور التي حققها مع أطفال المخيمات والعجائز.
تخبرنا هذه المجموعة، التي نعرض بعضا من صورها، عن المصور الفوتوغرافي الشاب ماتيس كورال (29 عاماً) الذي يقبع خلف الكاميرا، بقدر ما تخبرنا عن المواضيع التي سجلتها عدسته. يقول ماتيس إنه لا يأخذ صورا للناس ولكنه يأخذ صوراً مع الناس، ولأجل ذلك فإنه لا يسرق صورا الناس، بل يستأذنهم دائما قبل التقاط صوره. كما لا يطلب من أحد البتة أن يتخذ أمام عدسة كاميراه وضعية مناسبة للتصوير، بل هو يأخذ وقته في التعرف الى هذا الإنسان وفي تجاذب أطراف الحديث معه وفي تعريفه بنفسه وبطبيعة عمله، وينتظر ماتيس أن تنبني الثقة بينهما وأن يهبه هذا الإنسان في النهاية وضعاً فتكون الصورة التي تسجلها كاميراه.
الخيط الرفيع الذي يربط صور هذه المجموعة بأطفالها وعجائزها هو مسحة الطفولة التي تختزنها الشيخوخة ومسحة الشيخوخة التي تنطوي عليها براءة أطفال المخيمات. لا بل مسحة الفرحة الممزوجة بالحزن، أو لنقل مسحة الحزن المغمسة بالفرح. يكفي هنا أن ننظر إلى صورة الطفلة المحجبة فاطمة واقفةً تنظر إلينا في أحد أزقة شاتيلا، أو أن نتأمل في تعابير وجه العجوز المولودة في فلسطين هاجر مصطفى من مخيم عين الحلوة والتي تخطت الخامسة والتسعين من العمر، أو ننبهر بمسحة القداسة التي تبثها صورة طفل شاتيلا ذي الشعر الطويل الذي كأني به في حركة رأسه وتعابير وجه، يشبه الفلسطيني الأول يسوع الناصري.
نحن هنا إذ نتكلم عن براءة الطفولة التي تفيض من هذه الصور، فذلك لا ينسينا سنوات العمر القاسية التي تركت بصماتها على ملامح بعض الأطفال الكبار، من مثل الطفل الذي ينظر إلينا ومن خلفه النهر قرب مدينة صور أو الطفلة التي تلهو بحذائها ولا تعير الكاميرا اهتماماً.
الحيز الأساسي الذي توجد فيه شخوص ماتيس هو أزقة المخيم حيث تسجل عدسة كاميراه الكثير من اللحظات الحميمة والخاصة. لا يخفي المصور الشاب تفضيله هذه الأزقة وهذا الفضاء العمراني والبشري على المدينة وشوارعها وناسها. فهنا الكادر أكثر عمقاً والتفاصيل أشد غنى والضوء أقل حدة والألوان أكثر تنوعاً وحياة. وعليه، فكيفما تموضع الطفل أو العجوز في أزقة المخيم فهناك دائما في الخلفية شيء ما يعطي الصورة عمقاً ومعنى ونبضاً. يكفي هنا أن ننظر في صورة السيدة العجوز في مخيم الجليل في بعلبك ومن خلفها بورتريه لياسر عرفات، أو أن نتأمل في ضحكة الطفل ومن خلفه صورة أبو عمار وقد غابت عنها ضحكته الشهيرة وغطّت عليها ضحكة الطفل الفلسطيني.
إذا كانت شوارع المخيم أكثر صخبا وحياة من شوارع المدينة، فلأن الناس يعيشون ويتخالطون ويتجاورون في الشارع بقدر عيشهم داخل البيوت التي تبقى أبوابها في الغالب مفتوحة على الشارع. قد يكون هذا التداخل بين الحيزين العام والخاص من الأمور التي سهّلت على ماتيس في بعض الأحيان أن يعبر عتبات البيوت وأن يصور أهلها من الداخل، كما صورة هاجر مصطفى أو صورة صانع الأحذية أبي السيوف من مخيم البداوي بطاقيته العجيبة وزينته التي يتقدم فيها كل التظاهرات في المخيم متلاعباً بسيوفه المزخرفة.
أول ما يشد الانتباه في صور الأطفال التي حققها ماتيس كورال هو هذا التناغم بين العدسة والطفل موضوع الصورة. يعترف هذا الأرجنتيني الشاب أنه دائم الاستعداد للعب مع الأطفال وهم دائما مستعدون لمبادلته الشيء ذاته. يكفي هنا أن ننظر في صورة الطفلة المتشيطنة التي كان يكفي أن يقول لها ماتيس ممازحاً إنها شيطانة حتى يمثل في تعابير وجهها الشيطان. وغالبا ما يرغب أطفال المخيم، عل عكس الأطفال الأغنياء، في أن تؤخذ صورهم ونادرا ما يطرحون عليه الأسئلة عن سبب أخذ هذه الصور، حالهم كحال الطاعنين في العمر الذين يكونون دائما راغبين في تبادل أطراف الحديث ولا يمانعون كذلك في أن تؤخذ لهم الصور.
ينبهر المصور الشاب بمدى التنوع والغنى في الوجوه التي يختزنها الشعب الفلسطيني مع ما تنطوي عليه من مشاعر وتعابير وما تظهره من أحاسيس. كان خياره منذ البداية أن يمضي في البحث والتقصي في هذا الاتجاه. وفي أحيان كثيرة كان يوم عمله ينتهي بما يزيد على المئة صورة، لا يبقى منها في النهاية إلا واحدة أو اثنتان يرضى عنهما ويضمهما إلى أرشيفه.
يعترف ماتيس أن هناك دائما شيئاً من العنف في وضعية المصور مع عدسته الموجهة دائماً إلى “الهدف”، كما أن هناك شيئاً من السرقة الخبيثة في حالة المصور الذي يباغت الناس من بعيد ويلتقط لهم الصور من دون علمهم. لذلك غالبا ما يستخدم العدسة الواسعة الزوايا التي تسمح بالاقتراب إلى أقرب نقطة من الشخص موضوع الصورة، محاولا أن يكسر من حدة عنف الكاميرا بدخولها المباح في حميمية الآخر، محاولا، بشكل أو آخر، أن يكون جزءا من صورته ¶
النهار الثقافي