صفحات ثقافية

محنة الترجمة

null
نديم جرجورة
تعاني الترجمات إلى اللغة العربية، الصادرة عن دور نشر لبنانية وعربية، مآزق شتّى. أبرزها: غياب التحرير. غياب المراجعة اللغوية. غياب المعرفة الثقافية الخاصّة بالمادة المترجمة. غياب التدقيق بالمفردات، والبحث عن مرادفها العربي. غياب الأمانة. غياب أدنى إحساس بالمسؤولية، ثقافياً وأخلاقياً وأدبياً. غياب الوعي بالأهمية الإبداعية للترجمة، في مقابل اهتمام مطلق بالبدل المادي، إن كان البدل المادي مغرياً.
تعاني الترجمات مآزق كهذه في مدن عربية شتّى، يُفترض بها أن تكون منارة للعلم والمعرفة. أو هكذا نشأ تاريخها، قديماً وحديثاً. بيروت أولى هذه المدن الملتبسة الوجود والنكهة. قيل مراراً إنها منارة الشرق. مهد الحرية. مرتع الديموقراطية. ملتقى الحضارات والثقافات. بوابة الشرق إلى الغرب. مدخل الغرب إلى الشرق. لن أناقش هشاشة الوعي المعرفي فيها. الأمّية متنامية فيها، في أمور عدّة. الجهل منتشرٌ بقوّة، في أوساط ثقافية وأكاديمية ومعرفية. غالبية دور النشر المقيمة فيها واقعةٌ في مآزق الترجمة. لا يهتمّ أصحابها بإنتاج نوعية جيّدة، إلاّ لماماً. يُكلّفون «يداً عاملة» رخيصة لإنجاز مهامّ جوهرية في العلم والمعرفة. يكترثون بالشكل، أحياناً. لكنهم لا ينتبهون إلى فداحة الأخطاء المسيطرة على النصوص المترجمة، أساساً. لا يأبهون بالمادة المُقدَّمة إلى قرّاء، يتناقص عددهم عاماً إثر آخر. هناك من يجهد في إتمام أكبر قدر من السلع، أقصد الكتب المترجمة، في أقلّ وقت ممكن. هؤلاء معنيون بالكمّية، لا بالنوعية.
أحد هذه المآزق، الذي يُعتبر الأقلّ خطراً، كامنٌ في عدم الرجوع إلى النصوص الأصلية. روايات مكتوبة بالإنكليزية، تُترجم عن الفرنسية مثلاً. وأخرى مكتوبة بالروسية، تُنقل إلى العربية عن الإنكليزية. وقِسْ على ذلك. دور النشر الغربية تتعامل مع مترجمين يُتقنون لغات الأرض كلّها. يطلبون من متخصّصين مراجعة الترجمة، ومن آخرين تحرير المادة. هذا غائبٌ كلّياً عن سياسة العمل في دور النشر اللبنانية والعربية، بل في غالبيتها الساحقة. قليلون هم من يُتقنون لغات أوروبية غير الفرنسية والإنكليزية. وإن وجدوا، فنادراً ما يُطلب إليهم ترجمة هذه النصوص أو تلك.
الاستسهال سمة رئيسة في عمل دور النشر تلك، بالإضافة إلى رداءة الطباعة، على مستوى الورق والتصميم ونوعية الحروف. الرداءة فاقعة في دور النشر العربية، خصوصاً في مصر وسوريا. في لبنان، الطباعة أفضل، ربما للتغطية على رداءة الترجمة، أو النصوص المؤلَّفة أيضاً.
تنعكس مآزق الترجمة على القراءة. المهتمّون بهذه الأخيرة قليلون، لكنهم مقبلون عليها بشغف وحماسة، إذا مُنحوا فرص الاطّلاع على نصوص جيّدة، على ترجمات جيّدة. الترجمة فن، يأتي قبل الصناعة والتجارة. بعض المترجمين أنجز ترجمات بدت أجمل من النصوص الأصلية. هل تتذكّرون الراحل عفيف دمشقية، وترجماته الرائعة للروايات الأولى لأمين معلوف، مثلاً؟ كم عفيف دمشقية موجود حالياً في مجال الترجمة، في لبنان والعالم العربي؟ هناك قلّة، لكنها قليلة جداً، يكادون معها يختفون عن المشهد.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى