لبنان ودوره العربي
ميشيل كيلو
أمام أمواج النقد والممانعة العارمة، التي تطاول الأسس التي يقوم عليها نهجها السياسي، تكابر النظم العربية وتزعم أن الاخطاء التي ترتكبها لا تتصل بمبادئها، بل بالبشر الذين يطبقونها. تقول النظم هذا للالتفاف على افتقارها الى شرعية قانونية وسياسية، وعلى ضياع الجزء الاكبر من وظيفتها، الذي يتجلى في اعترافها الصريح بضرورة تجديد نفسها بوسائل من خارج منظومتها الاصلية، التي بها قامت وعليها اعتمدت خلال السنوات الاربعين الماضية.
ثمة أزمة شرعية في معظم بلدان العرب، ترجع في جانب منها الى الحقبة الانتقالية الراهنة، التي تجتازها، والى نجاح نظمها في الحيلولة دون تبلور بديل داخلي لها، ودون اجراء تغيير داخلي عن غير طريقها. ولو تأملنا حال مصر وسوريا، لوجدنا ان السلطة في مصر تركز جهدها على احتواء الحراك الشعبي والمجتمعي بدل التعبير عنه او ملاقاته الى منتصف الطريق، بينما تطارده السلطة السورية وتقمعه بحجة انه اسلامي ـ طائفي ورجعي ـ تارة، وديموقراطي ـ أميركي ـ تارة أخرى. والنتيجة: تمسك السلطتين بالامر القائم، رغم تعامل الأولى المرن مع الآخر وموقف الثانية المتشدد والقاسي منه، ووجود ازمة في كلا البلدين يجسدها سخط شعبي عام عليهما، وعجز مجتمعي عن زحزحتهما، ودورانهما في حلقة مفرغة تظهر في تهافت سلطتهما وقصور وتقادم اساليبهما ووسائلهما وهياكلهما وخططهما، واشتداد الامراض التي انجباها، وعجزهما عن الخروج من حال ليس مؤهلا للاستمرار. وعن ايجاد بديل لهما يحظى بشيء من قبول شعبي يضفي بعض الشرعية عليه، بينما الخارج عاجز بدوره عن ايجاد بديل لهما من خارجهما، وعن اجبارهما على قبول خططه، لكونهما صاحبي القوة المنظمة الوحيدة في بلديهما، التي عملت لفترة طويلة في فضاء يخلو من معارضة فاعلة، وتملك اجهزة قمع كبيرة العدد وضاربة، حدثها النظام الدولي السابق وزودها بأفضل ما لديه من ابتكارات تقنية، وعلمها افظع ما عرفه من اساليب الضبط والربط والترهيب والتعذيب، وحرضها ضد مجتمعاتها، التي عانت الامرين من بطشها ووحشيتها.
دار العالم العربي خلال السنوات الخمس الاخيرة في الحلقة المفرغة، التي وصفت بعض مظاهرها، واتسم وضعه بضعف وعجز المحكومين والحاكمين، الذين فقدوا الايمان بقدرة النظم القائمة على حل مشاكلهم ومشاكلها، الا انها تستمر، رغم انه لم يعد لها اية وظيفة غير الاستبداد بالمحكومين وافقارهم، وكشف بلدانها أمام الخارج.
واليوم، ومع اقترابنا من ساعة استحقاقات حاسمة، واعلان قياداتنا ان قدرة السياسة على معالجة مشكلاتنا الداخلية والخارجية غدت محدودة، يبدو جليا اننا نقترب من حقبة صراعات جديدة لن تنفع فيها الوسائل السلمية وأدوات الشرعية الدولية، التي اعتمدت الى الامس القريب في تسوية الازمات وحل المشكلات، وتمس حاجتنا الى توافق تاريخي جديد بين المجتمعات ومن ينحازون اليها من اطراف السلطة والاحزاب السياسية، يتم بدلالة بديل يأخذنا الى دولة قانون ويضع حدا لكارثتين تطرحهما حالنا القائمة، هما: الفوضى الداخلية او السقوط امام الخارج.
تتوفر في لبنان اكثر من اي بلد عربي آخر الشروط اللازمة لتوافق تاريخي جديد، فهو صاحب اعرق مجتمع مدني، واضعف دولة استبدادية، وأعظم حركة مقاومة. ولديه من الحريات ما لا يوجد لدى غيره، ومن تقاليد الحوار والتعايش ما يؤهله للخروج من حاله الصعبة الراهنة، والا كان حقل اختبار للكارثة الوشيكة: فيه وعلى النطاق العربي عموما من هنا، لا يستطيع لبنان التخلي عن مسؤولياته او الاكتفاء بخطوات جزئية، مهما كانت مهمة وصائبة، وعليه استغلال مقوماته الايجابية من اجل اقامة نموذج حياة وطني يخرجه من نفق، ويساعد في الوقت نفسه بقية العرب على تجميع قواهم والابتعاد عن الكارثة المحدقة.
هل يقنع لبنان نفسه بأنه قادر على القيام بدور كهذا، أم يمعن في الرجوع الى حقبة من تاريخه سبقت عام 1975، عانى هو وعانى المشرق بأسره من ويلاتها وما زال، سيسوقه الاستسلام لها الى كارثة رهيبة، وسيجر بقية المشرق الى وضع افظع من اي وضع عرفه خلال عصر ما بعد عام 1948، لانه لن تبقى بعده دول ومجتمعات عربية موحدة او قادرة على الحياة؟!
السؤال الان هو: هل نتفرج على لبنان ونعوق عمله ونحاصره ام نساعده على تحقيق النقلة المهمة، التي تعتبر مصلحة وطنية وقومية عليا بالنسبة للعرب جميعاً، بمن فيهم سوريا؟