تآكل الطبقة الوسطى
صالح سليمان عبد العظيم
يؤكد الكثيرون من الكتاب والمحللين على تآكل الطبقة الوسطى في العالم العربي. ويرتبط هذا التأكيد بالخوف من ضياع الطبقة المؤهلة لحمل مشاعل التغيير في المجتمعات العربية وتحديثها.
فرغم ارتباط عصر النهضة في العالم العربي بالنخب الحاكمة والثرية إلا أن العناصر الفاعلة التي قادت التغيير وأرست بدايات التحديث في عالمنا العربي كانت من أبناء الطبقات الوسطى، أو التحقت بالطبقات الوسطى بفعل الحراك الاجتماعي الذي ارتبط بالتعليم من ناحية وعطايا النخب الحاكمة والثرية من ناحية أخرى.
ورغم أن الكثير من الكتابات تعول على دور الطبقة الوسطي في التغيير في العالم العربي، إلا أن هذه الطبقة تنطوي على الكثير من المشكلات البنيوية المرتبطة بطبيعة تشكلها في العالم العربي.
فالطبقة الوسطى العربية نشأت بالأساس في أحضان النظم الحاكمة، كما أنها حصلت على امتيازاتها المختلفة من فيض هذه النظم. لذلك فإن أهم سمات هذه الطبقة أنها نشأت خاضعة للقيم والأعراف الموجودة في المجتمع ومتوافقة، إلى حد ما معها، رغم أنها أيضاً كانت صاحبة السبق في تجاوز هذه الأطر القيمية الموجودة حال سمحت لها السلطات الحاكمة بذلك.
ويمكن القول ان اللقاء قد تم هنا بين الثروة والمال وبين الفكر والتقنية؛ فمن ناحية وفرت الطبقات الحاكمة والنخب الثرية المال والإمكانيات المختلفة ومن ناحية أخرى اكتسبت عناصر الطبقة الوسطى الخبرات والمعلومات والإمكانيات التحديثية الجديدة التي لم تعهدها المجتمعات العربية من قبل. من هنا فقد اختلفت نشأة هذه الطبقة في عالمنا العربي عن واقع نشأتها في المجتمعات الغربية التي ارتبطت بالأساس بحركة مجتمعية شاملة تقود التغيير المادي والفكري على السواء.
وهو الأمر الذي لم يجعل من قيم الطبقة الوسطى الداعية إلى التغيير والتحديث في عالمنا العربي حركة مجتمعية شاملة؛ فقد ظلت هذه القيم محصورة ضمن نطاق ضيق لبعض نخب الطبقة الوسطى والعليا على السواء، بحيث أنها لم تشكل تياراً عاماً وشاملاً عبر كل أرجاء المجتمع وطبقاته المختلفة.
فقد ظلت الهوة واسعة على سبيل المثال لا الحصر بين نخب الطبقة الوسطى وباقي الأفراد المنتمين لها، كما ظلت أكثر اتساعاً بين هذه النخب وبين القطاعات الواسعة والعريضة من أبناء الطبقات الدنيا والفقيرة والمعدمة.
وهو ما أدى بدرجة أو بأخرى إلى انعزال هذه الطبقة عبر أركان المؤتمرات والندوات والصالونات المغلقة بدون أن يكون لها تأثير فعلي وحقيقي في الحركة المجتمعية العامة. وهو الأمر الذي أدى إلى انعزال نخبها من ناحية وسقوط الكثير من عناصرها إلى وضعية الطبقات الدنيا أو الكادحة.
ولا يتعلق الأمر هنا بالمستوى الاقتصادي فقط لكنه يتعلق أيضاً بفقدان هذه الطبقة للقيم والسلوكيات الحاكمة للطبقة الوسطى. فلم تعد هذه الطبقة تحمل هذه الرغبة في التغيير وإعلاء قيم التحديث والنقد والحرية. كما أنها افتقدت أيضاً القيم الجمالية المرتبطة ببناء المدن والحفاظ على جمالياتها بوصفها مسألة أساسية نحو التغيير وقيادة المجتمعات الإنسانية، وهى التجربة نفسها التي مرت بها المجتمعات الغربية.
والغريب في الأمر هنا أنه رغم التوسع الهائل في التعليم الجامعي الذي يتولى تخريج الآلاف سنوياً في كل أرجاء العالم العربي، إلا أن هناك إحساساً متواصلاً بتآكل الطبقة الوسطى وضعف المخزون القيمي المرتبط بها. وتلعب الظروف الاقتصادية دوراً هائلاً في الكثير من الدول العربية في إضعاف الطبقة الوسطى وتحويل الكثيرين من أعضائها إلى الطبقات الكادحة وربما المعدمة.
لقد راهنت العديد من الأسر في عالمنا العربي على قيمة التعليم الذي تحدثت عنه الدولة وأجهزتها المختلفة في مرحلة ما بعد الاستقلال، الأمر الذي جعل من بناء الجامعات رمزاً قومياً ودليلاً على التحرر من ربقة الاستعمار.
ولا يمكن للمرء هنا أن يقلل من أهمية التعليم والدور الذي لعبه في مرحلة ما بعد الاستقلال في تخريج العديد من الكوادر المهنية المختلفة التي احتل الكثير منهم مختلف المواقع الرسمية للدولة. وفيما بعد فورة الاستقلال عجزت الدولة عن استيعاب الآلاف من الخريجين في أسواق العمل المختلفة وبشكل خاص القطاع الحكومي المتخم أساساً بأعداد هائلة ممن لا قيمة لهم داخل مؤسسات الدولة، ويمثلون شكلاً واضحاً وفجاً من أشكال البطالة المقنعة.
وكما لعب التعليم دوراً كبيراً في الحراك الاجتماعي في مرحلة ما بعد الاستقلال بالنسبة للكثيرين من عناصر الطبقات المعدمة والوسطى على السواء، فإنه قد لعب دوراً معاكساً في مرحلة الليبرالية الاقتصادية التي هيمنت على العالم العربي في السبعينيات وحتى الآن.
وأشاعت قيم الكسب السريع والقيم الجديدة التي ارتبطت برأس المال المحافظ. فلم يعد التعليم يمثل أية قيمة بجانب شيوع قيمة المكاسب السريعة التي ارتبطت بالاستيراد والتصدير وفي أحيان كثيرة بالتهريب والعمولات والرشاوى وغيرها من جوانب الاقتصاد غير الرسمي وغير الشرعي في الوقت نفسه.
وهو الأمر الذي دفع بالكثير من عناصر الطبقة الوسطى للدخول في حمأة هذه التغيرات ومحاولة النيل من تلك التحولات المادية الوافدة وغير المضمونة. وهو الأمر الذي أدى على المدى البعيد إلى تغير مستودع قيم الطبقة الوسطى الحقيقية، والتحلل الأخلاقي والقيمي والمعنوي الذي ارتبط بها، ولهذا حديث آخر.
جريدة البيان