الثقافة والسياسة في الحزب السياسي
سلامة كيلة
أودّ أن أتناول العنوان أولاً، لأنه يعطي الانطباع بتكرار مفاهيم ومصطلحات، هي في العمق في ترابط مع نمط من الوعي يحتاج إلى تمحيص وتدقيق وأيضاً إلى نقد. حيث إنّ استخدام مصطلح ثقافي هنا يثير إشكالية، أو إنه في الواقع إشكالي. فماذا نعني بـ«ثقافي» هنا في تحديد العلاقة بين الثقافة والسياسة؟ أليس السياسي ثقافياً؟ أم إنّ هذا المصطلح يومي بما هو «خارج» أو بعيد عن السياسي؟
إنه مصطلح إشكالي لأنه يعبّر، في الوعي الرائج، عن عمومية (أو تعميم) هي سمة في «الثقافة العربية». فهو مصطلح يشمل الفكر والفلسفة كما يشمل التاريخ، إلى الأدب والفن. وربما ينحاز في شكل ما إلى هذه الأخيرة، أي الأدب والفن، ليكون المثقف هو كاتب القصة والشاعر، والروائي… لأنّ الفلاسفة أو الباحثين في الاقتصاد والتاريخ، وحتى الفكر، يُطردون من «التفكير»، يُقصون أو يُهمَّشون أو يُتجاهلون.
في كل الأحوال، يجب أن نلحظ أن مصطلح الثقافة هو من إشكالية «الفكر العربي» أيضاً، لأنه يحيل إلى «الثقافة العامة» التي تساوي «المعلومات العامة»، أي المعرفة كمعلومات. إنها «عامة» بعيداً عن التخصص والتخصيص والتحديد، أي عما نقصد بـ«الثقافة» حينما نضعها في تقابل مع السياسة. هل نقصد علاقة الأدب والفن بالسياسة؟ علاقة الأدباء بالسياسة؟ علاقة من ينتجون غير السياسة بها؟ أليست السياسة ثقافة؟
إذاً يمكن أن تناقش العلاقة بين السياسي (أو الحزب السياسي) والأدب والفن، الأدباء والفنانين. ويمكن أن تظل منحصرة في «الثقافة العامة»، أي المعلومات العامة. لقد كان «السياسي» يطرد الفكري، لأنه الماسك في البنية، أو كان الفكر يتحوّل من كونه أساس وعي الواقع كمقدمة ضرورية لتحديد التكتيك، إلى كونه «منظراً» لتكتيك يصاغ على عجل، أو وفق استنساب قائم على وعي «حسي»، وعي مؤسس على ما هو شكلي، سطحي وساكن، هو منطق القدماء (منطق أرسطو)، المنطق الذي يعزل الترابطات ويركز على عنصر انطلاقاً من أنه المطلق الوحيد. لهذا تثير أسئلة «المثقف» ارتباكاً لديه، حيث يميل هذا إلى البحث في الترابطات، وفي العمق، يتجاوز السطح والسكون لكي يكتشف «خلفيات» الأحداث، أساساتها، أعماقها، وهو كـ«سياسي» عاجز عن الإيضاح، حيث إن الحدس المبني على الحس، «هداه» إلى هذا التكتيك، وتلك السياسة، دون صيرورة تحليل منطقي.
الأمر الذي يظهر المثقف كـ«رفيق» متعب، إشكالي، يحب الثرثرة، يحب إظهار الذات، والتميز، والأستذة، فقط لأنه يطرح الأسئلة ويحاول أن يُعمل العقل والتفكير. وبالتالي يجب أن يُطرد، لكي لا يكشف هشاشة القادة، الذين يرون ذواتهم مفكرين كباراً، هم الذين يستطيعون تحديد السياسة والتكتيك، وإخضاع الفكر لمشيئتهم.
الفكر هنا مشاكس، لا يعطي الراحة للسياسي، لا يؤكد يقينيته، بل يشكك فيها. فكيف يكون السياسي دون هذه اليقينية؟ إنه لا شيء. لهذا كان الحزب يطرد المفكر. الثقافة هنا هي الفكر، الفكر النظري، أي بالتحديد: الوعي، الانتقال من الحسيّ إلى العقلي، ومن المنطق الصوري إلى الجدل المادي، حيث إنّ الحزب الماركسي يتأسس على الفكر الماركسي، على الوعي الذي يؤسسه الجدل المادي، على وعي الجدل المادي. وبالتالي فإن المسألة هنا هي مسألة وعي وليست مسألة علاقة المثقف بالسياسي، حيث إن هذه المسألة الأخيرة تنطلق من وضع المثقف (وهنا المثقف الماركسي) خارج السياسي، وبالتالي خارج الحزب. المثقف هنا هو شيء خارجي، آخر غير السياسي، وليس هو سياسياً لأنه عضو في حزب، وجزء من عمل سياسي. بمعنى أنه يوضع خارج المنظومة السياسية، وتُنزع عنه صفة السياسي، ليبدو السياسي وكأنه دون «ثقافة» أو وعي، أو أن «ثقافته» ووعيه ليسا من ضمن الثقافة وليسا فكراً.
هذا يفرض علينا تلمس سمات الوعي الذي يحكم «السياسي»، وهل تأسس انطلاقاً من عمق فكري، أو استند إلى السليقة والبداهة، والحدس والحس؟ وإذا كان المثقف العضوي، أي ذاك الذي يكون جزءاً من الحزب السياسي، ومن العمل السياسي، يمتلك الفكر، المستوى «العقلي»، الفكري، وهنا الجدل المادي، كما تفترض الماركسية ـــ لهذا فهو يبحث وينقد، ويمحّص، ويقلّب الأوجه ـــ فإن السياسي كان ينطلق من الحسي، من الحدس، من البداهة والسليقة و«الخبرة»، لا من الوعي «العقلي»، من الفكر، التجريد، التحليل والاستنتاج، أي من الجدل المادي.
لقد انحكم للمنطق الصوري، منطق الهوية الأرسطي، الذي كان يقوم على كل السمات المشار إليها سابقاً. وبالتالي على ثنائية خير / شر، أو «إما، أو». وهذا كان منطلق تحديد السياسة والتكتيك السياسي، وكل العمل السياسي، وهو جزء جوهري في الأزمة العميقة التي قيدت إليها الأحزاب الماركسية عموماً. فقد طرد المثقف/ المفكر الذي يؤسس لوعي الواقع، وعياً علمياً، وبالتالي وعي آليات تحويله، عبر تحديد الرؤية والسياسة، والنشاط. وبات الحزب دون «عقل»، أو بـ«عقل» صوري. لهذا يمكن القول إن السياسي لم يكن يتعامل مع السياسة كفكر، كوعي، بل كـ«ممارسة» تقوم على الحدس، وتنطلق من تلمّس الحسي. وبالتالي كان يخطئ تحديد الرؤية والسياسة، ويؤسس لتكتيك ضال. ويمكن التحديد بأنه امتلك «ثقافة» متوسطة على الأغلب، لا الوعي الذي يفترض ما هو فكري بالضرورة.
وهنا يجب أن ننظر إلى المسألة، مسألة العلاقة بين «الثقافة» بالمعنى المحدّد للتو، والسياسة، من زاوية أن السياسة هي فكر، وأن السياسي هو مثقف يمتلك الفكر ويحلل الواقع انطلاقاً منه. ولأن «السياسي» هو الذي يهيمن في الحزب، أصبح الفكر خارج الحزب، وهو الأمر الذي أسس للنظر إلى الثقافة كشيء خارجي في علاقة إشكالية مع الحزب. وهذا ما أفضى إلى أن لا تنتج الأحزاب الماركسية مفكرين، منتجي فكر، وكل من كان كذلك أصبح خارجها، طُرد أو أُبعد، أو انسحب بصمت، أو صَمَت. وعلى ضوء ذلك، يمكن تلمّس طبيعة العلاقة بين «الثقافة» والسياسة، أي بين الفكر والعمل السياسي. ما هي طبيعة العلاقة هذه؟ هذا يدخلنا في موقع الفكر في العمل السياسي، وبالتالي موقع الفكر في الصراع الطبقي. إن ما يضيفه الحزب في الصراع الطبقي هو الوعي، الفكر، من أجل تحويله من صراع عفوي، وجزئي، ولحظي، إلى صراع منظم مستمر وشامل، ومبني على هدف. ليس من عمل سياسي دون وعي، فكر، دون الماركسية. ومشكلة الحركة الشيوعية كمنت في أنها كانت تفتقد الوعي الماركسي، على العكس، كانت تطرد كل مدخلي الوعي الماركسي، المثقف العضوي (وفق التعبير الغرامشي) لتبقى عفوية، ساذجة، وعمياء.
* كاتب عربي
الأخبار