غُربة ثانية
حسن مدن
حاورتني باحثة أجنبية تُحضّر ورقةً لمؤتمرٍ علمي يُناقش قضية العائدين إلى أوطانهم بعد غربةٍ طويلة، عن طبيعة المشاعر التي يحس بها من مرّ بمثل هذه التجربة.
دارت محاورة هذه الباحثة حول أسئلة من نوع: هل يشعر من غاب عن وطنه سنوات طويلة بأن تلك كانت سنوات مهدرة من عمره، خاصة حين تكون ما توصف بزهرة العمر قد ذبلت وهو بعيد عن داره الأولى وأهله؟
ثم كيف يستطيع العائد إلى وطنه بعد غيابٍ طويل أن يُعيد “إقامة” علاقاته مع محيطه الأول الذي انقطع عنه دهراً من العمر كان قد طال أكثر مما يجب؟
مثل هذه الأسئلة كانت تشغلني أساساً، وتناولتها بالتأمل ومحاولة الإجابة في كتابي وشيك الصدور:”ترميم الذاكرة”.
لكن حين يُحاورك أحد في مثل هذه الأمور، فكأنه يُحرض لديك رغبة كامنة في محاولة البوح بما ترغب في البوح به لنفسك في المقام الأول، قبل أن تفكر في أن هذا البوح سيستمع له أو يقرأه آخرون.
أكثر ما يؤلم في مسألة الغربة هو أن تكون اضطرارية. في عالم اليوم المفتوح على بعضه بعضاً يغترب الكثيرون، ويُهاجرون لأسباب شتى، إما بحثاً عن ظروف عمل ومعيشة أفضل، أو رغبة في استكشاف عوالم جديدة، تعد مجهولة بالنسبة لهم، قياساً إلى عالمهم الصغير، المحدود، الذي ولدوا ونشأوا فيه.
لكن هؤلاء وهم يغتربون فإنهم يظلون مسكونين بالحرية: حرية اختيار الهجرة وحرية العودة إلى الوطن متى شاؤوا.
قسوة الغربة تتجلى في أوضح صورها حين تكون محمولاً على هذه الغربة لظروف قاسية خارجة عن إرادتك.
في حالات كثيرة لن تكون الغربة، أو المنفى إن شئنا، سنوات مُهدرة من العمر كما في سؤال الباحثة المشار إليها، فبوسع المنفي أن يجعل من منفاه مدرسةً غنية في الحياة، لكنه سيظل مسكوناً بالشعور المعذب أن هذا المنفى لم يكن اختيارياً.
لا يمتد المنفى بالضرورة ليغطي مساحة العمر كله. تحدث تحولات تُنهي مبررات هذا المنفى، وتُيسر عودة المغترب إلى وطنه.
لكنه، بعد أن طال به الغياب، سيجد وطناً آخر غير الوطن الذي خلفه وراءه في سنوات الصبا والشباب حين غادره للمرة الأولى.
حتى الناس الذين يعرفهم ويحبهم لم يعودوا هم أنفسهم.
ساعتها تنتهي معاناة الغربة عن الوطن، ليلج المرء غربة أخرى داخل الوطن ستلازمه حتى آخر العمر