أغوال دمشق وجهاً لوجه مع “غيلان الدمشقي”
(أيها الناس ما أتاكم من خير فمن الله، وما أتاكم من شر فمن بني أُمية)
“غيلان الدمشقي”
وهيب أيوب
كان من غير الطبيعي ألاّ تمنع سلطات النظام في دمشق عرض فيلم المخرج هيثم حقي “التجلي الأخير لـ غيلان الدمشقي”، لِما لهذه الشخصية في التاريخ العربي الإسلامي من وهجٍ تلفح ظلاله كل التوّاقين للحرية والتمرّد على واقع الفساد والاستبداد المُعاش في حياتنا المعاصرة.
إضافة لكون غيلان الدمشقي الذي عاش في ظل الخلافة الأموية، والذي ذهب إلى المدى الأبعد في تمرّده وتحديه لفساد وظلم أهل الحكم من بني أمية تجاه الناس، من حيث إفقارهم وإذلالهم بحيث تتشابه ظروف تلك المرحلة مع ما آلت إليه أوضاع الشعب السوري في وقتنا الراهن، ولا يميّز المرحلتين إلاّ فارق الزمن وتطورات العصر وأسماء الخلفاء.
لقد كان غيلان الدمشقي وهو من أشهر “القدريين” في عصره المؤمنين أن الإنسان مُخيّرٌ لا مُسيّر. وفي هذا يقول ثاني أشهر القدريين (معبد الجُهمي): “هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم ويقولون: إنما تجري أعمالنا على الناس بقدر الله تعالى”.
استمراراً لما ذهب إليه أحد الصحابة في زمن الدعوة وحتى نفيه من قبل الخليفة عثمان “للربذة” الصحراوية التي مات فيها، وهو أبي ذر الغفّاري صاحب المقولة الشهيرة” عجِبتُ لمن يبات جوعاً ولا يخرج للناس شاهراً سيفه”.
وغيلان الذي كان ثائراً من الطراز الأول وصاحب رؤيا فكرية واضحة ومتمرداً لا تلين له عريكة في محاربة الظلم والاحتكار والاستغلال وفساد أهل الحكم، لم يهن أو يتهاون في المطالبة بحقوق الفقراء والمظلومين ولم يحفظ لسانه بعد أن قُطِّعت أطرافه. فما كان من الخليفة هشام بن عبد الملك إلا أن أمر بقطع لسانه فمات على أثرها وتم صلبه على أسوار دمشق، بعد أن ناظره الأوزاعي ثم أفتى بقتله، كما لم يتورّع الأوزاعي نفسه عن الإفتاء بقتل الأمراء الأمويين من قِبل من انقلب عليهم وانتزع خلافتهم… إخوانهم العباسيين… فاستمرّ على صنعته.
وكيف لا يفعل هشام ذلك وهو الذي سمع غيلان الدمشقي بأذنيه – بعد أن عيّنه الخليفة عمر بن عبد العزيز خازناً على بيت المال- ينادي على متاع بني أُمية جهاراً نهاراً وعلى رؤوس الأشهاد:
“تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظَلَمة، تعالوا إلى متاع من خَلَف في الرسول أمته بغير سنّته وسيرته، من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أيمة الهُدى… وهذا مُتاعهم والناس يموتون جوعاً”.
إن التشويه والتجني الذي لحق بأعظم حركات وشخصيات التاريخ العربي الإسلامي من قبل المؤرّخين الإسلاميين المتعصبين، الذين قذفوا بتهم الردة والكفر على مُجمل تلك الحركات والشخصيات وأدّت إلى قتلهم وحرقهم ثم محاولة إبادة كل تراثهم الثوري والفكري والعلمي الذي لم يكن إلاّ نتيجة الظلم والفقر والقهر الذي أذاقهم إياه خلفاء وحكام الطغيان والاستبداد.
وهذا ما تم شرحه تفصيلياً في الجزأين “النزعات المادية” من مؤلفات المفكر حسين مروّة واللذان كلّفاه حياته. فما يصح قبل أكثر من ألف سنة يصح اليوم؟!
يجب إعادة الاعتبار لهذا التراث الغني والذي دفع أصحابه حياتهم في سبيله، من الجُعد بن درهم الذي أمر بقتله مروان بن عبد الملك إلى غيلان الدمشقي إلى معبد الجهمي، إلى قائد ثورة الزنج علي بن محمد ورفيقه يحيى بن محمد البحراني الذي ذُبح وأُحرق على يد المعتمد، وأحمد بن نصر الذي قتله الخليفة الواثق بالله، وبابك الخُرّمي، وحمدان بن قرمط، والمعتزلة وإخوان الصفا، وليس انتهاءً بمعظم الفلاسفة والعلماء من الرازي والكندي وابن سينا والراوندي والحلاّج والسهروردي وابن المُقفّع والمعرّي وبشّار بن برد وسواهم الذين ذُكر معظمهم أو جميعهم في كتاب “مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة” للمفكّر جورج طرابيشي، وصولاً إلى حرق مؤلفات ابن رشد في ساحة قرطبة بعد حرق المكتبة، أسوة بمكتبة الفاطميين ومكتبات أُخرى في بلاد الشام تناهز الأربعة ملايين كتاب بعد الإجهاز على دولة الفاطميين.
بعد انقضاء العصور الوسطى الظلامية في أوروبا التي حكمتها الكنيسة ورجال الدين، وبداية عصر النهضة وما تلاها من عصر التنوير والحداثة ثم ما بعد الحداثة، قامت الكنيسة والدول الأوروبية الحديثة بالاعتذار والتكفير عما اقترف أسلافهم من قتل وحرق واضطهاد بحق فلاسفة وعلماء العصور الوسطى من جيردانو برونو إلى كوبرنيكوس إلى غاليليو وآلاف مثلهم وإعادة الاعتبار لهم.
على الرغم من حدوث كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم العربي والإسلامي، يقوم اليوم وبالقرن الواحد والعشرين جهابذة الإسلام والإفتاء وأنظمة الاستبداد باستعادةٍ جديدة للعصور الوسطى وما قبلها، ليسيروا بشكلٍ معكوسٍ تماماً لروح الحضارة والعصر والتطور.
لا يفصلنا زمنٌ بعيد عن تكفير ومقتل المفكر فرج فودة وتطليق نصر حامد أبو زيد من زوجته، وطعن الروائي نجيب محفوظ في رقبته، ومطاردة نوال السعداوي والسيد القمني، وتكفير وملاحقة العديد من المفكرين والكتّاب والفنانين والمخرجين ليس آخرهم المخرج المرحوم يوسف شاهين. مرّة على ألسنة وأيدي الإسلاميين وأُخرى على أيدي أنظمة الأمن والمخابرات… فأين المفر؟
فكيف يا سيّد هيثم حقي بعد كل ذلك… تقوم بتحريك الوسواس في صدور وعقول السوريين؟ وتقوم بإسقاطات “خبيثة” تُأَلِّب فيها الرأي العام على أغوال دمشق الحاليين؟! لا شك أنك بهذا تثير فتنة طائفية وتعمل على تهديد أمن الدولة وإضعاف الشعور القومي والوطني لدى المواطنين السوريين الآمنين الهانئين بعيشهم وبحبوحتهم والمحفوظة كراماتهم على الـ 24 قيراط؟! ثم فوق كل ذلك تقوم بإسناد دور البطولة إلى المرتد الكافر فارس الحلو؟! ألا يكفينا ما فعله وقدّمه زملاؤك المخرجون عمر أميرالاي وأُسامة محمد ومحمد ومَلَص وسواهم الذين ولولا فطنة السلطة وأجهزتها الساهرة على أمن الوطن والمواطنين من تلويث وتسميم أفكارهم لخربت البلد…! قاتلك الله على إثارة الفِتن؟!
أهكذا تأتي بالمرتد والخارج عن طاعة الدين والخليفة منذ أكثر من عشرة قرون لتضعه وجهاً لوجه مع أغوال دمشق الجُدد… سامحك الله وكفّر ذنوبك… ما الحكمة من ذلك؟؟؟
وهيب أيوب
الجولان المحتل – مجدل شمس
waheeb_ayoub@hotmail.com
21 \8 \2008
خاص – صفحات سورية –