عفواً كارل ماركس… الأفكار «تحكم» العالم
زينب مرعي
كتب ماركس ذات مرة أنّ «الأفكار لا تحكم العالم». فكرة ثارت على كاتبها، فكذّبته عندما فرضت سطوتها على ملايين الأشخاص حول العالم! لن يبدأ النقاش من هنا إذاً. إذ إنّ بعض الأفكار التي صيغت في نصوص، حكمت العالم وغيّرته بلا شكّ. لكن أيّ نوع من الأفكار تلك التي تقلب الموازين، وتتجرّأ على العبث بالنظام السائد؟ أحد ملاحق مجلّة «لو بوان» الفرنسية، طرح أخيراً السؤال على عدد من المؤرّخين والفلاسفة. وجمع الملحق المذكور 32 نصاً أحدثت تغييراً في هذا العالم. لكنّ القارئ لن يجد بينها، على سبيل المثال، أثراً لشكسبير أو دانتي أو… «ألف ليلة وليلة». بل إنّه لن يجد نصاً شعرياً أو روائياً. فليست النصوص الأكثر شهرةً أو الأكثر قراءةً بالضرورة، تلك التي تنذر باقتراب رياح التغيير، أو تحملها بين صفحاتها. إنّما هي النصوص الفلسفيّة والدينية، السياسية والعلميّة، إجمالاً، من داروين إلى آينشتاين، من كوبرنيك إلى ديكارت، ومن جان ــــ جاك روسو إلى فرويد… مروراً بكثيرين غيرهم جاءت كتاباتهم لتقتلع كل ما قبلها وتؤسّس لعصر جديد.
أهّم خصال النص «التغييري» أنّه نص ثوري. والنصّ الثوري هو ذلك الذي لا صلة رحم بينه وبين النصوص السابقة. يأتي بمثابة الصدمة، ليحدث قطيعة مع الأفكار السائدة أو المتعارف عليها، ويُدخل المجتمع في مرحلة جديدة. ومن الممكن، أيضاً، ألا يأتي النص الثوري نتيجة قطيعة مع ما سبق، بل نتيجة انقلاب عليه. ومن أقدم النصوص «الثوريّة»، نص «التسبيح لآتون» للفرعون المصري أخناتون الذي يعلن فيه الشمس إلهاً واحداً. فكرة عبادة إله واحد، مثّلت انشقاقاً بالغ الأهميّة في عصره حيث كان سائداً تعدّد الآلهة. والناس في ذاك العصر لم يكونوا مهيّئين بعد لتقبّل تلك الفكرة، فلم تعش يوماً واحداً بعد موت أخناتون. إلاّ أنّها، طبعاً، عادت بعد مئات السنين، لتكون ركيزة الديانات السماويّة الثلاث.
ليس من السهل إذاً أن نحدد متى يظهر تأثير النص، إذ يعتمد ذلك على المجتمع الذي ولّده، وقدرته على تقبّل التغيير الذي يطرحه. ومن النادر أن يكون تأثير النص فورياً. يمكن أن يثير ضجّة لحظة نشره، لكن ما يُحدث التغيير هو الوقت الكافي لدراسته وتحليله وفهم أبعاده جيداً. أمّا التسرّع أحياناً في تفسير النصّ، فقد يؤدي إلى تأويل خاطئ له، كما حدث، مثلاً، مع نص روسو السياسي «العقد الاجتماعي». إذ عمد بعض الثوّار الفرنسيين إلى اتخاذ النص رمزاً لثورتهم بما أنّه يدعو إلى تغيير نظام الحكم في فرنسا، وفسّروه على طريقتهم فأصبح مبرّراً للعنف لديهم، ولم تعد فلسفة روسو هي تلك التي يتّبعونها. إلاّ أنّ النص عاد ووُضع في مكانه الصحيح في القرن العشرين، وأصبح من أسس الفكر السياسي الحديث.
كل فترة زمنيّة ترسم لنفسها خطاً معاكساً للتيار. وفي بحثه عن نصوص الانشقاق في العصور القديمة، يتوقّف الملف عند كونفوشيوس وبودا وأفلاطون وأرسطو، مثلاً، كما عند الوصايا العشر التي دخلت التاريخ مرّتين: مرّة بصيغتها الدينيّة المعروفة، ومرّة ثانية في القرن الثامن عشر، بصيغتها «العلمانيّة»: أي من خلال شرعة حقوق الإنسان. وهناك «عظات الجبل» للمسيح، وهي النصوص التي تدعو إلى التوحيد وترسي أسس الأخلاق والتسامح والإنسانيّة. وفي العصور الوسطى، برز النص القرآني. أمّا العصر الحديث، فكان الأكثر سخاءً من ناحية إنتاج النصوص «التغييريّة»، نظراً إلى التطوّر السريع الذي لحق بالعالم على كلّ الأصعدة. فبدأ البحث عن أصول الإنسان خارج الإطار الديني مع داروين، وبرزت الفلسفة الليبراليّة مع آدامز، كما طبعت العصر نصوص لماركس وكانط وفرويد وآينشتاين وشومان الذي عرض عام 1950 أسس الاتحاد الأوروبي.