الشـغف الكبيـر الـذي يمـوت فينـا
اسكندر حبش
أميركا ليست بلدا فقط. إنها حلم بنى نفسه انطلاقا من تطلعات وآمال أولئك الذين غادروا مساقط رؤوسهم ليذهبوا إليها. بالتأكيد، تطلّب ذلك إبادة شعب كامل، وما تبقى منه يوضع اليوم في »محميات«، كأنه لا يمت إلى هذه الأرض ـ التي هي أرضه ـ بأي صلة. ومع ذلك كله، تشكل هذه الأرض، أرض العالم الحديث الموعودة. أضف إلى ذلك، أنها عبر الهوى والشغف هذين اللذين يصاب بهما الجميع تجاهها ـ أكان ذلك بطريقة سلبية أم ايجابية ـ، تلعب دورا كبيرا في المتخيّل السياسي: مفاوضات السلام، الجدل حول العولمة، شتائم الجميع ضدها في الخطاب السياسي، صرخات جوزيه بوفيه ـ التي حدثت منذ سنوات ـ ضد ماكدونالد على سبيل المثال… الخ. لكن ما تغيّر اليوم هو أن أميركا التي كانت تمثل »الحرية« ضد المعسكر الاشتراكي، لكن بعد انحلال هذه الكتلة، أصبحت الولايات المتحدة القوة المسيطرة (سيطرة خطرة ربما).
هذا »العصر الأميركي« (أو الميثاق) الذي يفرض نفسه اليوم، لا يشبه بالتأكيد »العصر الروماني« ولا هو من طبيعته. مع العلم بأن الحضارة التي اعتمدها أهل روما للسيطرة على الشعوب، لم تكن حضارة تعتمد على العدالة والقانون، إنما على القوة أيضا. من هنا، قد يكون الحلم الأميركي مختلفاً بدوره لو لم يعتمد على القوة. لذلك ثمة سؤال: ممّ هو مصنوع هذا الحلم؟
كل عصر كان يلتفت نحو بلد يجسّد المثال المتحضر. بعد الإغريق، وبعد روما، وبعد بيزنطة وبعد الحضارة العربية، ربما لعبت فرنسا هذا الدور قبل أن تنافسها انكلترا. لم تفقد فرنسا معركة القرن الثامن عشر على المستوى البحري فقط، إنما على مستوى الأفكار. إن موسوعة ديدرو وفولتير وروسو، أدارت نظرها نحو الأفكار السياسية الانكليزية، نحو العادات وحتى نحو الحساسية الجديدة التي كان يجسدها ريتشاردسون. كانت انكلترا همزة الوصل ما بين العالمين القديم والجديد. وبعدما رأى في الولايات المتحدة المختبر السياسي للديموقراطية المعاصرة، كان توكفيل العميل الأكثر فاعلية لصالح »الامركة«.
منذ القرن التاسع عشر، شكلت الولايات المتحدة بلد الحرية، بالرغم من الأوضاع التي لم ترغب فيها، العبودية التي عاثت فسادا والتي حلّ مكانها التمييز العنصري الذي لم يصب السود فقط، إنما كل الأقليات العرقية.
بيد أن الدينامكية التكنولوجية الهائلة، الصناعية والاقتصادية المدعومة بالهيمنة السياسية، شيّدت الحلم الأميركي للأوروبيين وغيرهم، مع العلم بأن الكتّاب الأميركيين هم أنفسهم من رفض هذا الوجه كما رفضوا هذه الحدود: جاك لندن كشف اللاعدالة الاجتماعية، هنري ميلر تحدث عن الفقر الثقافي… وما هرب منه العديد من الكتّاب الأميركيين، حين غادروا الولايات المتحدة. كانت هذه »الطريقة الأميركية في العيش«، هربوا من هذه المادية، من أسلوب الحياة هذا، المؤسس على القيم التجارية، على تفوق أميركا التي تعتبر آلة للإنتاج وللسيطرة. لذلك، استمرّ هؤلاء الكتّاب في نقد مساوئ وطنهم الأم كستايرون ونورمان مايلر اللذين أصبحا من أعنف النقاد ضد حرب كوسوفو.
هل نحن إذاً في لحظة تاريخية تتبدى فيها أميركا كأنها استنفدت كل إمكانيات فتنتها الثقافية، بعد أن ظهرت، وبخاصة بعد ١٩٤٥ بمثابة ذراع للديموقراطية والحرية ضد الكتلة الشيوعية؟
لم نعد نرى اليوم سوى المظاهر السلبية: مظاهر العولمة وآلة التأحيد، حتى أنها آلة تدمير الثقافات الأخرى كلها. هل نحن في حقبة فاصلة، سيكون فيها الحلم الأميركي موضع السؤال والتساؤل؟
ثمة نقطة مشتركة في الشغف الكبير الذي يموت فينا، بالنسبة إلى امرأة كما بالنسبة إلى بلد ما، إذ اعتقدنا أنهما يستطيعان حمل السعادة، بيد أننا فجأة لم نعد نصدّق ذلك.
السفير