الانقلابات العسكرية
حسين العودات
حدثت انقلابات عسكرية في جميع الجمهوريات العربية باستثناء لبنان منذ استقلال هذه البلدان حتى الآن وقد شهد بعضها أكثر من انقلاب، وربما كانت الانقلابات العسكرية العربية فاتحة عهد ومثالاً لبلدان العالم الثالث التي اقتبست النهج العربي في الانقلابات.
بل طاول الأمر اليونان وتركيا هذين البلدين الأوروبيين أو شبه الأوروبيين اللذين كانت بعض انقلاباتهما دموية، وتفشت ظاهرة الانقلابات حتى إن المرء لم يعد يندهش إذا ما استفاق صباحاً على حدوث انقلاب عسكري في بلد ما من بلدان العالم، وتتشابه هذه الانقلابات جميعها في ذكر الأسباب المعلنة للانقلاب (اتهام السلطة القائمة بالفساد أو الانحراف أو الخيانة، المحسوبية، الظلم، توزيع الامتيازات، عدم الاهتمام بالمصلحة الوطنية العليا).
كما تتشابه في الأسلوب (إصدار بلاغات متتالية تقضي بإلغاء أو وقف العمل بالدستور، إقالة الحكومة، منع التجول، تطبيق الأحكام العرفية، إطلاق الوعود بسخاء بديمقراطية قادمة واحترام آراء الشعب، تشكيل مجلس وطني أعلى للحكم أو للثورة تكون غالبيته من العسكريين، ثم تشكيل حكومة).
وتحدد الدوافع غالباً (بحب الوطن والعمل على إنقاذه، تقويم الانحراف، القضاء على الفساد، العمل لازدهار البلاد) وتعطي الانقلابات لنفسها المشروعية من خلال (إرادة جيشكم العظيم، وحرص قيادته على مصلحة الوطن).
ثم فيما بعد (من البرقيات والتأييد الشعبي الكاسح) أما الانتقال السلمي للسلطة وتداولها وصناديق الاقتراع والتوافق الوطني والدستور ومنظمات المجتمع المدني التي تمثل الشرائح الاجتماعية والرأي العام وكل ما في حكمها فلتذهب إلى الجحيم.
يصبح الانقلاب على السلطة القائمة ممكناً بل سهلاً عندما لا تحترم الحريات وتبتعد عن الحكم الديمقراطي وتزوّر الانتخابات أو لا تلجأ إليها من الأساس، وتمنع قيام الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية وتكتفي بحزب واحد هو حزب السلطة .
حيث يتحول هذا بسبب وحدانيته إلى حزب متهالك متآكل تنخره الانتهازية والامتيازات غير المشروعة وأحياناً تغشاه التناقضات وأغلبها بسبب اختلاف المصالح، وتستسهل السلطة فيه تبني القمع وتكممّ الأفواه وتمنع تأسيس الصحافة الحرة وتلغي الرقابة على الحكومة ومؤسسات الدولة وتماهي الحكومة مع الدولة.
مما يؤدي في النهاية إلى ضعف الرأي العام وربما اضمحلاله وضعف المجتمع وتنظيماته الحية السياسية والنقابية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ويصبح أقرب إلى المجتمع شبه الميت بسبب الخوف والقمع والفقر وتغيير سلم القيم ويبقى الجيش في هذه الحالة هو المؤسسة الأقوى في الدولة والمجتمع والأكثر تماسكاً وقدرة.
فيسهل عليه الانقلاب على السلطة القائمة، ويحل محلها ويقيم سلطته الخاصة. ونادراً ما تقع الانقلابات ضد الأنظمة الديمقراطية التي تحترم الحريات وتداول السلطة وتحتكم إلى صناديق الاقتراع كما تحترم الدستور والقانون وتعتد بمرجعية المواطنة وتكافؤ الفرص، لأنها تمتلك في هذه الحالة آلية العمل التي تؤهلها لإصلاح الاعوجاج والخطأ ذاتياً .
والتراجع عن الأخطاء أو تصحيحها ولهذا يلتف الشعب حولها في الملمات ويدافع عنها من حيث المبدأ ولا يقبل لها بديلاً وتؤهله منظماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية كي يصد أي انقلاب أو محاولة انقلاب ويفشلها في مهدها أو بعد حين.
عندما تكون الأوضاع السياسية والاجتماعية صحية في بلد ما يكون السياسيون هم الأقوى والأقدر لأنهم يمثلون الشعب وجاءوا نتيجة اختيار شعبي حر وتنبع قوتهم من مواطنيهم الذين اختاروهم لتمثيلهم، وعندها يضطر الجيش للخضوع للسياسيين أحزاباً وبرامج حتى لو لم يمتلك هؤلاء السلاح لأنهم حصلوا على الشرعية الشعبية وهذه أقوى من كل الأسلحة وأقدر.
ويضطر الجيش عندها إلى حصر مهمته بتنفيذ سياسات الحكومة وخاصة منها تلك المتعلقة بالدفاع عن البلاد ووحدة أراضيها، ولا يغامر في التدخل بالشؤون السياسية. أما إذا لم تكن الأوضاع السياسية سوية وسليمة فإن الجيش يعطي لنفسه الحق بأن ينوب عن الناس في تدبير شؤونهم وتقرير مصيرهم فيقوم بانقلابه.
ثم لا تلبث السلطة العسكرية أن تكتشف حجم الصعوبات الهائل مما يؤدي إلى اختلاف مواقف الانقلابيين منها ثم تناقضهم فتصادمهم فانقلاب جديد تفتقد البلاد بعده الأمن والاستقرار والرفاه الاجتماعي.
قد يكون الانقلاب بدوافع وطنية أو نوايا حسنة، ولكن ذلك لا يبرر بأي حال انتزاع السلطة بالقوة وبدون شرعية، ولم يكن أي انقلاب عسكري يوماً ضرورة مهما كانت أخطاء السلطة التي قام ضدها حتى لو كانت فاسدة أو خالفت الدستور أو استهانت بمصالح الناس، مادامت تلعب اللعبة الديمقراطية حسب معاييرها المعروفة والمتداولة.
ذلك لأن السلطة الديمقراطية تملك الآلية الذاتية التي تتيح لها تغيير مسارها أو على الأقل فإن مدتها محددة بسنوات أقرها الدستور الذي يتيح للشعب في نهايتها بعدها محاسبة ممثليه ومعاقبتهم إذا كانوا يستحقون العقاب بما في ذلك استبدالهم وانتخاب سلطة أخرى غيرهم بالاختيار الحر والسلمي وهذا شأن السلطات الديمقراطية في عالمنا المعاصر.
الملاحظ أن السلطات الانقلابية والسلطات الديكتاتورية تقمع مواطنيها وتستن قوانين استثنائية تسهل لها هذا القمع وترفض الحوار والرأي الآخر مهما كان سلمياً ومعادياً للعنف، بينما تسمح لنفسها أن تسيطر على السلطة كلها بالعنف وتعتبر ذلك عملاً وطنياً وربما تضحية من أجل الوطن، ويصاب رجالها بالغرور ويعتقدون أنهم حملة خشبة الخلاص ولا يتصورون أن شعوبهم يمكن أن تتغلب على مصاعبها بدونهم.
لحسن الحظ لم تعد الانقلابات مقبولة في عصرنا فقد نبذتها المجتمعات وأيقنت أنها بيت الداء ومارست الديمقراطية بديلاً عنها، وها نحن نشهد المجتمعات الإنسانية المعاصرة تتوجه نحو الديمقراطية وتتمسك بها، ومثلما مرت مرحلة تفشت فيها الانقلابات العسكرية فإننا نعيش مرحلة جديدة تزحف فيها الديمقراطية زحفاً ثابتاً ومتسارعاً، وربما سنشهد قريباً العهد الذي نقول فيه وداعاً للانقلابات.
البيان