في أن القضايا “المقدسة” مطايا مثالية!
ياسين الحاج صالح
هل يمكن إدراج التقاتل الفلسطيني في مخطط عام يضفي على وقائعه قيمة نسبية أو وقتية، فيحوز من ثم شيئا من الشرعية؟ هل يسعنا القول إن التقاتل هذا ضروري كي تكون للمقاومة اليد العليا، أو إن تصفية نفوذ فتح في غزة لا مناص منه كخطوة على الدرب الطويل إلى تصفية الكيان الإسرائيلي؟ الأرجح أنه على هذا النحو يفكر جماعة حماس. لكن ألم يسبق أن سمعنا طوال نحو جيلين كلاما مشابها؟ ألم يكن الطريق إلى فلسطين، يمر مرة بعمان، ومرة بجونيه، ومرة بالكويت؟ وهل لدينا ما يسوغ الاعتقاد بأن مقاومي اليوم، في فلسطين بخاصة، أفضل من مقاومي الأمس؟
وهل يستطيع من ينتقد حماس أن يستند إلى فتح؟ يصعب أن يمحض متعاطف مع الشعب الفلسطيني ثقته للخيارات السياسية لأبي مازن وفريقه. لكن حتى لو انحزنا إليها بالكامل، كيف نسكت على الفساد الهائل وأنانية النخبة السياسة وجشعها ورثاثتها؟ كيف نحترم فريقا ينعم بالثراء والوجاهة في محيط من العوز والبؤس والمذلة اليومية؟
لا نورد هذه الملاحظات من أجل أخذ “موقف متوازن” بين طرفي الاستقطاب الفلسطيني، ولا لنصح الفلسطينيين أن يفعلوا كذا ويجتبنوا كذا؛ فهم أدرى بأحوالهم، ويحسن أمثالنا إلى أنفسهم لو كانوا لأنفسهم ناصحين.
الغرض بالأحرى اقتراح تفسير لآلية الانكفاء عن القضايا العامة والانطواء على الشؤون الشخصية على نحو ما يفعل كثيرون بيننا. فحين يعسر عليك أن تتماهى مع أي من طرفي نزاع يهمك أمره، وهذه خبرة شائعة في مجتمعاتنا، فإن إدارة الظهر للأمر كله هي التصرف الحكيم. فهي تجنب المرء تجاذبا عاطفيا ووجدانيا مرهقا، يفسد حياته ويغمرها بالغم والبؤس، وقد يميت قلبه في النهاية فيكره الجميع والقضايا جميعا ونفسه أيضا.
هذا شائع في أوساطنا أيضا. إنه حصيلة تسمم بطيء بقضايا متحللة. نكرر ما سبق لنا قوله مرات: إن المشكلات التي لا تنحل تتحلل هي ذاتها، بل إن من لا يحل مشكلاته يتحلل هو أيضا.
الوقوف ضد الانحلال يقتضي وقوفا في مواجهة الذات. العدو هو نحن، طرق تفكيرنا وسلوكنا وأخلاقياتنا، وبالخصوص رفضنا التأمل في أنفسنا. ولعله ما من شعب وثني أكثر من نحن العرب. نعبد “القضايا” كثيرا وبصورة مباشرة، لا تأمل فيها ولا تفكير ولا روح. هذا يجعل منها قضايا مادية، اسمية، أصنام، لا أثر فيها للروح أو المعنى الذي يفترض أننا نعتنق القضايا هذه من أجله. لماذا نريد فلسطين؟ أليس من اجل الحرية؟ الاستقلال، العدالة؟ حين تتجاوز العداوات بين فلسطينيين عتبة عدائهم المشترك لإسرائيل، وحين يعتقل الفلسطيني ويعذب على يد فلسطينيين، هل يبقى من قضية فلسطين غير صنم ربما تدر عبادته مكاسب مادية وسياسية متنوعة على معتنقيها؟ ولماذا نريد توحد العرب؟ أليس من أجل أن ننهض ونتحضر ونساوي غيرنا؟ فماذا يبقى لقضية التوحد العربي حين لا يكف رافعيها عن إذلال مواطنيهم وتمزيق مجمعاتهم والتفظيع في من يحملون آراء مختلفة عن آرائهم؟ وأية قضية سامية هذه التي يكون صدام حسين شهيدها الخالد؟
والحال تتعدى صنمية القضايا فلسطين ووحدة العرب لتشمل الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية، وبالطبع الإسلام أو الشريعة. فالمسألة تتعلق بشرط تاريخي ثقافي عام، ينعكس على هذه القضايا جميعا فقدانا للروح والعقل والمقصد الأخلاقي الحي.
ولا تتعارض عبادة القضايا مع كونها في الواقع مطايا لأصناف من تنابل السياسة والثقافة نحو أصناف من العلياء تشبههم. وكلما كانت القضايا مقدسة أكثر كانت أنفع في “جلب الدنيا إلى الرؤساء” على قول أبي العلاء قبل أكثر من ألف عام.
ومن سمات العبادة هذه، عدا مادية القضايا أو صنميتها، توسل الأصنام لتعريف الأطراف والمعسكرات. فنحن لا نوالي قضايا لسمو معناها الأخلاقي، بل لأنها الأنسب لتعريفنا وتمييزنا عن غيرنا. نحن المسلمون الحقيقيون أو الوحيدون، أما هم فكفار؛ أو نحن القوميون الأصلاء، أما هم فخونة؛ أو نحن الشيوعيون الثابتون على المبدأ، أما هم فمرتدون؛ نحن منفتحون على الحداثة، أما هم فمتخلفون… ويفترض أننا تلقائيا أخيار وأبرار، جديرون تاليا بالقيادة والسلطة والمجد. أين المضمون، أين الروح؟ أين الأخلاقية؟ أين الثقافة؟ أين الإنسانية؟
ومن سمات عبادة القضايا أيضا التعصب. فهذا “علاقة اجتماعية” تربط المعتنقين بصنمهم، وتصنع منهم هوية أو “أمة” أو “ملة ناجية”، تنتصب ضد هويات وأمم وملل وطوائف وأحزاب تشبهها شبه التوائم.
وتقترن عبادة الأوثان في حاضرنا اليوم بما اقترنت به في ماضينا الجاهلي: القبلية والعنف الذي لا ينتهي.
تعصب مقابل إيمان، وأصنام مقابل روح، وعصبيات وقبائل مقابل تضامنات حية بين أنداد، وعنف منفلت مقابل سلام وأمن. هذا هو دستورنا.
فكيف لا يقتل حمساويون فتحاويون أو العكس؟ الشيء الصحيح في عالم كهذا أن يقتلوهم ويعذبوهم. ولا يستطيع المرء أن يعترض على ذلك بينما هو يعبد “القضية” ويزجي الثناء على “نهج المقاومة” وإيديولوجيته وتحالفاته.
السؤال هنا ماذا لو انتصر هذا النهج؟ قد يقول قائل إنه لا يمكن أن ينتصر. هذا ما نراه أيضا. غاية ما يمكن أن يتحقق له وعلى يديه تبديد حياة آلاف الناس طوال جيل أو أكثر من سؤدده الكالح. لكن لنفترض أنه انتصر؟ لنفترض أن حماس لم تسد في غزة فقط، بل واسترجعت كل حبة رمل من الضفة الغربية؟ بل لنفترض أنها حررت فلسطين “من البحر إلى النهر”؟ ثم ماذا؟ أية دولة سننال، وأية حقوق وأية ثقافة وأية حياة يومية؟ سنكون استرجعنا فلسطين الصنم، وقد نزفت آخر قطرة من روح التحرر والعدالة والمساواة بين الناس. هل يستحق هذا الصنم مقتل شخص واحد؟
الخروج من عبادة الأصنام تقتضي جهدا ثقافيا وروحيا، أوله الإقرار بأن العدو هو نحن في صورتنا الحالية، أو بأننا أسوأ حلفاء لأنفسنا وأفضل حلفاء لأعدائنا. بدلا من نفي العالم يتعين أن نتوجه إلى نفي ذاتنا الوثنية. والطاقة التي نستهلكها في رفض العالم قد يمكن تحويلها إلى أساس لأخلاقية إنسانية، تقر المساواة والحرية للناس جميعا.
خاص – صفحات سورية –