ساركوزي وتعليم الهولوكوست: مَن يجرؤ علي فتح بوّابات الذاكرة؟
صبحي حديدي
قبل أسابيع قليلة من الانتخابات، خلال واحدة من ذري التعصّب القومي الشعبوي في خطابه السياسي، بدا المرشّح للرئاسة نيكولا ساركوزي وكأنه يبرئ الأمّة الفرنسية من كلّ الآثام الكبري التي شهدتها أوروبا علي امتداد القرن العشرين: أنا من الذين يعتقدون أنّ فرنسا ليس لديها ما تخجل منه في تاريخها. إنها لم ترتكب الإبادة. إنها لم تبتكر الحلّ النهائي.
إنها ابتكرت حقوق الإنسان، وهي البلد الذي ناضل أكثر من الجميع دفاعاً عن الحرّية . اليوم، وهو الرئيس، لا يبدو وكأنه يلقي باللائمة علي الشعب الفرنسي بأسره جرّاء قسط المسؤولية الذي تتحمّله فرنسا إزاء المحرقة فحسب؛ بل يخصّ أطفال فرنسا، تلاميذ المدارس الإبتدائية والمتوسطة، بعبء مسؤولية من طراز خاصّ، ثقيل، رهيب: إلزام كلّ طفل حيّ بإحياء ذكري طفل قضي في المحرقة، علي نحو أقرب إلي تقمّص الحيّ للميت.
كان ساركوزي يتحدّث أمام العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية، الـ CRIF، والذي يتسابق كبار ساسة فرنسا علي حضوره والخطابة فيه، للتقرّب من هذه المؤسسة الأهمّ علي صعيد تنظيم حياة، واستثمار قوي وطاقات، نُخَب الفرنسيين اليهود. وبين أبرز هؤلاء كانت السيدة سيمون فاي (81 سنة)، الناجية من المحرقة، والتي يراها الكثيرون أيقونة حيّة ترمز إلي الهولوكوست، وربما إلي معظم عذابات اليهود الفرنسيين، فضلاً عن كونها وزيرة سابقة في أكثر من حكومة، وصاحبة القانون الشهير الذي يجيز الإجهاض. للوهلة الأولي تجمّد الدم في عروقي ، هكذا وصفت فاي ردّ فعلها الغريزي حين استمعت إلي اقتراح ساركوزي، وكانت تتصدّر الصفوف في ذلك الاجتماع بالطبع، قبل أن تضيف نّ الاقتراح لا يُحتمل، دراماتيكي، وغير عادل في المقام الأول (…) لا نستطيع أن نلقي بهذا العبء علي كاهل أطفال صغار في سنّ العاشرة. هذه الذاكرة أثقل من أن يحملها أحد. حتي نحن، الذين كنّا في عداد المرحّلين للمحرقة، واجهنا بعد الحرب صعوبات كبيرة في الكلام، حتي مع أقربائنا، عمّا شهدناه . صحيح أنّ الدراما، لا غواية إطلاق الأثر الدراماتيكي وحدها، صارت ديدن الرئيس الفرنسي، فلا يمرّ أسبوع دون أن يثير، أو تُثار من حوله، حكاية صاخبة من نوع ما. لكنه هذه المرّة ذهب أبعد ممّا ينبغي في مسألة بالغة الحساسية عند مشاع الفرنسيين من جهة (شاهد كبير من أهل عائلة ساركوزي السياسية، رئيس الوزراء السابق دومنيك دوفيلبان، قال: لا نستطيع مطالبة أطفال اليوم بحمل ذاكرة جرائم ارتُكبت بحقّ أطفال الأمس )؛ ومسألة مربكة عند بعض اليهود أنفسهم، لأسباب شتي بعضها تربوي وثقافي حسن النيّة، وبعضها الآخر سياسي دعاوي ينطلق من أجندات صناعة الهولوكوست ، حسب التعبير الشهير للمؤرّخ الأمريكي اليهودي نورمان فنكلشتاين.
لهذا سارعت مؤسسة الـ CRIF ذاتها إلي إطراء الإقتراح علي استحياء، ثمّ الدعوة صراحة إلي تشذيبه وتطويره وتعديله، قبل المطالبة ـ دونما استحياء، هذه المرّة! ـ بطيّ كلّ نقاش زائف بصدد هذه الإشكالية: نحن نعتقد أنّ الإنتقادات التي وُجّهت إلي هذا الإقتراح كانت، عند البعض، مفرطة لأنّ الأمر لا يتصل بالتماهي مع الموت بل التوعية، خصوصاً بالنسبة إلي أصحاب الآراء المقزّزة ممّن يرفضون الإقرار بالطابع الكوني للمحرقة، ويركزون علي خلط الأمور وإثارة المنافسات بين الضحايا .
والحال أنّ الكثير من بيت القصيد يكمن ها هنا تحديداً: هل يخدم اقتراح ساركوزي في إحياء ذاكرة المحرقة، أم يساعد علي تحويلها إلي حدث تاريخي في متناول االيافعة، ممّا يهدّد تالياً بتجريده من هالة القداسة والفرادة والكونية المطلقة من جانب أوّل؛ كما يهدّد بنزع احتكار اليهود لصورة الضحية الكونية المطلقة، عن طريق رميها في كراريس تلاميذ المدارس، بدل المتاحف والنُصُب التذكارية؟ ذلك لأنّ فرنسا تحظي بمكانة خاصة في قلوب الصهاينة، إسوة بيهود العالم أجمع: هنا انقلبت قضية الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس إلي شرارة أولي أشعلت لهيب فكرة الدولة اليهودية في قلب وعقل صحافي نمساوي يهودي يدعي تيودور هرتزل، كان آنذاك في باريس مراسلاً صحافياً. صحيح أنّه لن يشهد تبرئة دريفوس لأنه توفي قبلها، ولكنّ هرتزل شاهد بأمّ عينيه، وأصاخ السمع عميقاً للحناجر الفرنسية وهي تهتف: الموت لليهود! علي خلفية محاكمة الضابط البريء.
والمفارقة المتمثلة في أن دريفوس نفسه كان بعيداً تماماً عن أي تفكير صهيوني، وهكذا ظلّ حتي وفاته عام 1935، لا تغيّر كثيراً من طبيعة الجدل الديناميكي الذي أطلق الحركة الصهيونية. كذلك فإنّ التصريح الذي أطلقه، ذات يوم غير بعيد، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق ميكائيل ملكيور، والذي اتهم فرنسا بأنها اليوم البلد الغربي الأسوأ في ميدان العداء للسامية ، لا يغيّر من طبيعة وحجم النفوذ الكبير الذي تتمتّع به الأوساط الصهيونية في مختلف ميادين الحياة الفرنسية، السياسية والإقتصادية والثقافية. وهكذا شهدت وسائل الإعلام الفرنسية سجالات محتدمة حول ما إذا كان المرء يستطيع معاداة سياسات إسرائيل دون أن يقع في محظور العداء للسامية، أو ما إذا كان في وسع يهودي ـ كاتب أو مؤرّخ أو صحافي أو مواطن عادي ـ أن يعترض علي بربرية شمعون بيريس أو بنيامين نتنياهو أو إيهود باراك أو أرييل شارون أو إيهود أولمرت… دون أن يُتّهم، وهو اليهودي كابراً عن كابر، بالعداء للسامية.
والمرء هنا يتذكّر عبارة شهيرة أطلقها روجيه كوكيرمان، الرئيس السابق للـ CRIF، تعليقاً علي أحلام السلام الفلسطيني ـ الإسرائيلي التي أعرب عنها يهودي فرنسي آخر هو تيو كلاين، كان رئيس المجلس ذاته: قد نرغب في رسم الذئب بألوان وردية. لكنه يظلّ ذئباً ! وكان كوكيرمان يتساءل عن (ويشكك في) حقّ أيّ يهودي في انتقاد الحكومة الإسرائيلية، الآن بالذات. وبالطبع، ولمن فاته إدراك طرفَي الإستعارة، كان ياسر عرفات هو الذئب الذي يمكن رسمه باللون الوردي دون أن يتغيّر باطنه الذئبي. ثمّ تابع حملة تأثيم أعداء إسرائيل في فرنسا، فكتب مقالة في صحيفة لوموند ، شنّ فيها الهجوم علي قادة هذا البلد ممّن يقللون من أثر الأفعال المعادية لليهود ؛ وعلي السلطات التي يحلو لها أن تري في الهجوم علي كنيس مجرّد عمل من أعمال العنف وليس فعلاً معادياً للسامية ؛ وعلي بعض اليهود الذين فقدوا الصلة بالواقع اليهودي ؛ وعلي وسائل الإعلام التي يطيب لها إعطاء أكبر صدي ممكن للأصوات التي تنتقد إسرائيل واليهود، خصوصاً حين تكون تلك الأصوات يهودية …
مضبطة كوكيرمان الإتهامية هذه لم يكن لها أن تنتهي قبل تأثيم القضاء الفرنسي ذاته، في مجمله، دون تمييز: يطيب للعدالة أن لا تعاقب بطريقة مُثلي علي هذا العنف المعادي لليهود، حتي حين يُعتقل مرتكبوه بالجرم المشهود: السجن ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ، أي لا شيء بالنسبة إلي اعتداء علي مكان عبادة يهودي، مقابل السجن سنة كاملة بسبب اعتداء علي كوخ من قشّ ، في إشارة إلي قضية شهيرة سياسية ـ أمنية قيل إنّ محافظ كورسيكا نفسه تورّط فيها. والحال أنّ الفرنسيين لا يحبّون مَن يشكك في نزاهة قضائهم، فكيف إذا ذهب الإتهام هذا المذهب البغيض والجائر في آن؟ لكنّ كوكيرمان مضي أبعد حين ردّ تهاون القضاء الفرنسي إلي سلسلة طويلة من الأسباب السياسية والسوسيولوجية: أنّ العنف (ضدّ اليهود، من جانب واحد كما يقول) مرتبط بالصراع في الشرق الأوسط؛ ولأنه يجري غالباً الخلط بين اليهودي والإسرائيلي؛ ولأنه لا يأتي من اليمين المتطرف، بل من الضواحي المغاربية؛ ولأنّ فرنسا الجمهورية تتردد في الإقرار بأنها فشلت في الدمج التعليمي والإجتماعي للشبيبة المغاربية؛ ولأننا نسامح تماماً كلّ ذنوب الذين نشعر إزاءهم بعقدة الذنب؛ ولأنّ الجالية المسلمة مهمّة في كلّ اعتبار.
الطريف أنّ نمطاً مماثلاً من أشغال الذاكرة، هذه التي يقترحها ساركوزي ويمتدحها الـ CRIF وطائفة لا حصر لها من مؤرّخي اليهود هنا وهناك في العالم، تبدو رجيمة تماماً في ناظر هؤلاء إذا جرت في ألمانيا مثلاً. فما الذي يضير في قيام الأمّة الألمانية بتكريم ضحاياها (من المدنيين العزّل الأبرياء، وليس الساسة أو القادة العسكريين النازيين) الذين سقطوا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية؟ وأيّ إثم في تأسيس مركز توثيق ومتحف تاريخي، لحفظ تفاصيل تلك الوقائع الرهيبة، وجعلها في متناول الذاكرة الجَمْعية؟ ألا يندرج إنجاز مشروع كهذا في صلب الحقوق الوطنية لأيّ شعب من الشعوب، بل يشكّل جزءاً لا يتجزأ من واجبات الشعوب تجاه تاريخها؟
لم يكن هذا رأي الأوساط الصهيونية العالمية التي شنّت، قبل سنوات قليلة، حملة شعواء ضدّ مشروع السيدة إريكا شتاينباخ، السياسية الألمانية البارزة ورئيسة رابطة المطرودين التي تُعني بشؤون ملايين المطرودين من ديارهم، ليس في ألمانيا وحدها بل في مختلف أرجاء العالم. وليس عسيراً أن يتكهن المرء بأنّ السبب في الغضبة الصهيونية لم يكن سوي الحكاية القديمة إياها: احتكار عقدة الضحية الكونية، والانفراد بها تماماً، وتهميش وتقزيم كلّ وأيّ ضحية أخري، بل والحطّ من عذاباتها إنْ أمكن. والحال أنّ الوقائع التاريخية تقول إنّ الأعداد التالية من المواطنين ذوي الأصول الألمانية طُردوا بعد الحرب العالمية الثانية من البلدان التي كانوا يقيمون فيها ويتمتعون بجنسيتها: ـ 3.5 مليون من بولندا، 2.3 من تشيكوسلوفاكيا، قرابة مليون من الإتحاد السوفييتي، 400 ألف من هنغاريا، 300 ألف من رومانيا، إضافة إلي قرابة مليون من مختلف مناطق أوروبا الشرقية. هذه هي الأعداد في تقديراتها المخفّضة، وأمّا العدد الذي تسوقه رابطة المبعدين فهو 15 مليون ألماني! ألا يستحقّ هؤلاء الذكري، لكي لا نتحدّث عن التعويضات وردّ الإعتبار، كما هي حال اليهود؟ المؤرّخ الإسرائيلي جلعاد مرغاليت، الذي يُحتسب علي المعتدلين، لا يوافق علي هذه البديهة البسيطة، ويرتاب دائماً في أنّ نوايا شتاينباخ الحقيقية هي إضعاف ذاكرة الهولوكوست أكثر من تقوية ذاكرة الضحية الألمانية، حتي إذا كان المشروع يضع اليهود في رأس الضحايا.
غير أنّ ثقافة استذكار المحرقة ليست ملكاً خالصاً للضحايا وحدهم من جانب أوّل، وهي من جانب ثانٍ لم تعد رهينة الذاكرة وحدها وباتت تاريخاً تجب دراسته واستخلاص الدروس منه، وهي من جانب ثالث ليست حكراً علي الدولة العبرية وحدها لأنّ تراث الهولوكوست ـ وعلي نقيض من التبشير الصهيوني ـ يخصّ الإنسانية جمعاء. ولهذا فإنّ مؤلفات مثل الموت والأمّة: التاريخ، الذاكرة، السياسة للمؤرّخة الإسرائيلية إديث زيرتال، و في ظلّ الهولوكوست: الصراع بين اليهود والصهاينة في أعقاب الحرب العالمية الثانية لأستاذ الألسنيات في جامعة تل أبيب يوسيف غرودزنسكي، إنما تنصف ضحايا الهولوكوست من زاوية غير مألوفة أبداً: دور المؤسسة الصهيونية ذاتها في صناعة الهولوكوست، وكيف انطوي ذلك الدور علي تواطؤ مباشر صريح بين بعض القيادات الصهيونية وكبار ضبّاط الرايخ الثالث المسؤولين عن تصميم وتنفيذ ما عُرف باسم الحلّ النهائي لإبادة اليهود.
ولعلّ هذا بعض السبب الذي جعل الدم يتجمد في عروق سيمون فاي وهي تصغي إلي نيكولا ساركوزي، فالذاكرة إمّا أن تُفتح علي مصراعيها، فتتكشّف وتنكشف وتكشف، أو تظلّ مغلقة محرّمة ميتافيزيقية مقدّسة!
ہ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
29/02/2008