القضاء والإعلام في عالم جديد
بسيوني حمادة
ربما كانت أكثر العلاقات حساسية في مجتمعات الشرق هي تلك التي تجمع بين الإعلام والقضاء، حيث يندر للأسف أن توجد علاقات مستقرة واضحة تحكم أسس التعامل بين الطرفين، هذا علي الرغم مما يجمع بينهما من أهداف مشتركة، فرجال القضاء يسعون في نهاية المطاف إلي إقرار العدل والحق ومقاومة الفساد، ورجال الإعلام يسعون إلي نشر وترسيخ قيم العدل والحق ونبذ الرذيلة.
وكلا الهدفين لا يمكن بلوغهما إذا توترت العلاقة بين الطرفين أو إذا أسيئ فهم أحد الأطراف من قبل الآخر، أو إذا امتنع رجال القضاء أو حرموا من التعاون مع رجال الإعلام، أو إذا امتنع رجال الإعلام أو حرموا من حق الوصول للمعلومات والآراء ذات الصلة بالقضاء،
وما يترتب عليه من حرمان الرأي العام من التمتع بحق المعرفةRight to know بما يمس في واقع الأمر كيان الرسالة المنوط بها الإعلام والقضاء، ذلك أن القاضي يصدر أحكامه باسم الشعب ولا سلطان عليه إلا ضميره،
وهو يسعي إلي أن يكون مستقلا من كل سلطان إلا سلطان القانون من أجل أن يكون إقرار العدل والحق قائما وفق ميزان غير مختل لا يشوبه الهوي ولا يكتنفه الغموض، وهذا الذي يصدر منطوق الحكم باسمه حري به أن يكون علي اطلاع بما يجري داخل أروقة المحاكم، ومن حقه علي القضاء، بل من واجب القضاء نحوه أن يتيح له كامل الحرية لأن يباشر سلطته في التعليق علي الأحكام التي صدرت باسمه وأن يتسم هذا التعليق بالعلانية والعمومية والشفافية،
وهذه وتلك تنتفي في غياب تدخل وسائل الإعلام، وكأني أريد أن أؤكد علي أن تدخل وسائل الإعلام وتمكينها للرأي العام لتمحيص الأحكام والتعليق عليها هو من قبيل التدخل الوجوبي الذي يتمم عمل القضاء ويسمح له بأن يحيل سلطة الشعب أو الرأي العام من عالم التنظير إلي أرض الواقع، ولا يقل عن ذلك أهمية تحقيق درجة من النضج في العلاقة بين الطرفين تعزز من ترسيخ صورة ذهنية متميزة للقضاء ورجاله،
وتقاوم مصادر تشويه الصورة، فالرأي العام في ظل وفرة المعلومات ودقتها أقرب إلي تكوين صور ذهنية واقعية وأقوي من أن تؤثر فيه الشائعات. في كل الأحوال فإن ممارسة هذا الحق لا يجب بأي حال أن تكون علي حساب سمعة القاضي أو هيبته أو التعرض لشخصه، أو الإساءة لهيبة المحكمة وسلطتها، أما الحكم فبمجرد صدوره في صورته النهائية ودخوله الفضاء العام يصبح حقا لمن هو أهل للتعامل معه لتدارسه ومناقشته وتفنيده.
وامتدادا لهذا المنطق يبدو الأمر طبيعيا أن يتمتع القضاة بحرية التعبير باعتبارهم أولا ممن شملتهم النصوص الدولية والمحلية المعنية بحرية التعبير،
وباعتبارهم ثانيا من أكثر الفئات الاجتماعية التي تساهم في تكوين الرأي العام بنوع وكم المعلومات والآراء التي يستفاد منها في عمليات الإصلاح المجتمعي الشامل، وباعتبارهم ثالثا سوف يستفيدون من آراء غيرهم حينما يحدث التفاعل الاجتماعي الطبيعي بين الآراء والاتجاهات المختلفة،
ولا أظن أن في ذلك ممارسة للسياسة أو اشتغال بها، أو رغبة في الشهرة، أو طلبا للزعامة، بقدر ما هو اهتمام بالشأن العام، وممارسة لحق طبيعي تكفله الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، والقضية في ظني أيضا لا علاقة لها بهيبة القضاء علي النحو الذي عولجت به، فالهيبة لا تتأثر سلبا أو إيجابا لمجرد التعامل مع وسائل الإعلام، ولكن المهم هو ماذا يقول القاضي،
وكيف يقدم ما يقوله، وفي هذا أكاد أؤكد بأن تعامل القضاة مع الإعلام يمكن أن يضيف إلي رصيدهم الكثير. علي الجانب الآخر يصبح أداء الإعلامي منقوصا إن لم يكن مختلا ما لم يعمل جاهدا لتزويد الرأي العام بالحقيقة كاملة في إطار سياقها السياسي والاجتماعي الأوسع مع إتاحة الفرصة لعرض وجهات النظر القضائية المتباينة علي نحو متوازن.
وتبدو قوة العلاقة بين الطرفين – رجال الإعلام ورجال القضاء- إذا استبان أن استقلالهما معا عن كل المؤثرات التي تحول دون الأداء الموضوعي لهما رهن بالتعاون والتكامل لا التنافس والصراع، ما يتطلب أكبر قدر ممكن من الانفتاح والشفافية،
فالاستقلال الذي تنشده السلطة القضائية رهن إلي حد كبير بضغوط يمارسها الإعلام في هذا الاتجاه وهي ضغوط محمودة طالما كان القصد منها صالح المجتمع، كما أن حرية الإعلام واستقلاله وقدرته علي سبر أغوار القضايا الشائكة في المجتمع موقوف علي وجود ضمانة قانونية وقضائية تكفل حرية التعبير قولا وفعلا.
والقضاء قرين الإعلام من حيث المدلول اللفظي، فالقضاء يطلق وقد يراد به الإعلام، فكل أمر أعلم فقد قضي، قال الله تعالي ( وقضينا إليه ذلك الأمر) أي أبلغناه وأعلمناه. والقضاء من الناحية الفقهية هو الإخبار عن حكم شرعي علي سبيل الإلزام، إلي هذا الحد تتكشف العلاقة العضوية بين الإعلام والقضاء،
لأنهما فضاءان يتمم بعضهما البعض، فنشر الأحكام والتعليق عليها يجعل من وسائل الإعلام منتدي أوسع يطلع فيه القضاة وغيرهم علي خبرات ومهارات بعضهم البعض مما يساهم في سيادة أنماط أفضل للتقاضي والترافع حيث تتداخل خبرات الأجيال من شيوخ القضاة الأجلاء مع غيرهم من الأجيال الجديدة الأمر الذي لا يمكن بلوغه بمنأي عن تعاون وسائل الإعلام.
إن مجتمع القرن الحادي والعشرين لن نحياه حقا، وسنظل علي هامشه غير قادرين علي التعامل معه ناهيك عن التأثير فيه مالم تتأسس العلاقة بين القضاء والإعلام وفقا لأعلي درجة من الشفافية والحرية والمسؤولية.
المصري اليوم