أسلمة العلم.. هل تقوي الدين أم تضعفه؟
د.رشيد الحاج صالح
ينتشر اليوم في الثقافة العربية توجه شعبي واسع يفسر الاكتشافات العلمية المعاصرة -كلما ظهرت- بالعودة إلى النصوص الدينية الإسلامية، وإيجاد أساس لها ضمن تلك النصوص، بحيث يبدو الأمر وكأن تلك النصوص تحتوي على مستودع كبير يضم المفاتيح السرية لكل اكتشاف علمي قد يظهر في أي زمان أو مكان.
ولقد أدت مثل هذه الطريقة في النظر إلى الاكتشافات العلمية لظهور ما يسمى بـ«الإعجاز العلمي» للنصوص الدينية.. وكأن تلك النصوص وقبل زمن طويل تحتوي على كل الشيفرات الخاصة بكل اكتشاف علمي. ويصل الأمر بهذا التيار إلى حد التأكيد بأن كل اكتشاف في المستقبل يمكن أن نجد له إيحاءات في النصوص الدينية، وأن أبناء الأمة لو تأملوا في تلك النصوص جيداً وبروح علمية يمكن أن يتوصلوا إلى الكثير من الاكتشافات بكل يسر، ولما انتظرت البشرية كل هذا الوقت الطويل حتى تكتشف النظريات المعاصرة في الفلك والبيولوجيا والفيزياء والطب.. الخ.
إن هذه الطريقة في أسلمة العلوم وبرغم مداعبتها لعواطف عدد كبير من المسلمين إلا أنها تحمل في داخلها عدة مغالطات يمكن إيجازها بالآتي:
أولاً- إن النصوص الاسلامية، وبالرغم من إلحاحها المتكرر على طلب العلم والاستفادة منه، إلا أنها ليست نصوصا علمية بالدرجة الأولى، وليست هذه مهمتها أصلاً. إنها نصوص أخلاقية حضارية تدعو الناس إلى مكارم الأخلاق والعيش وفق مبادئ العدل والمساواة واحترام الحقوق.. فالنصوص الاسلامية عندما تحث الناس على طلب العلم فإنها لا تقدم نفسها كبديل عنه.
والاكتشاف العلمي جهد بشري يقوم على عدد هائل من التجارب والملاحظات للظواهر المادية.. وعلى معادلات وقوانين رياضية وتراكم معرفي تاريخي طويل، والنصوص الدينية ليس لها مثل هذه الاهتمامات.. وهي إن تناولت بعض القضايا العلمية فإنها تناولتها في سياق الوعظ والتأمل في خلق الخالق، ولم تتناولها كظواهر علمية يتم البحث في أسبابها الفيزيائية.
ثانياً- إن مثل هذه الطريقة في التفكير بالعلم أدت إلى ظهور «الغائية الدينية» التي تؤكد وجود أسباب غائية تتلبس الظواهر الطبيعية والاجتماعية.. بحيث يُنظر إلى هذه الظواهر على أنها «ظواهر دينية» لها غايات معينة وليست ظواهر طبيعية واجتماعية تنتظمه بموجب قوانين وأسباب من الطبيعة، وليس من وراء الطبيعة. ويضاف إلى ذلك أن فكرة الغائية أخذت أصلاً من الأساطير القديمة التي اعتقدت بوجود غايات معينة للظواهر الطبيعية كالفيضانات والزلازل، ولذلك فإن مثل تلك الطريقة الغائية في التفكير تسحب الدين باتجاه الأساطير وغاياتها وليس باتجاه العلم وقوانينه.
ففكرة الغائية هي إحدى الأفكار التي حاربها العلم وتخلص منها في كثير من المجالات، ولا يجوز اليوم اتخاذ الدين كحجة لإعادة الاعتبار لها. والقائلون اليوم بالغائية يجازفون بالقول بوجود تعارض بين العلم التجريدي الاستقرائي والدين.. وهو تعارض يعود في حقيقته إلى تعارض بين أنصار التفكير الغائي وأنصار التفكير العلمي.. وليس بين الدين والعلم. فالعلم الغائي حارب التفسيرات الغائية لأنها أخرته وأبقته غارقاً ببحور الأوهام والخرافات لقرون طويلة.
ثالثاً- إن النظريات والاكتشافات العلمية تتغير وتتطور، وقد يتبين خطأ بعضها فيما بعد، وبالتالي كيف نسند معرفة تجريبية نسبية إلى نصوص دينية سماوية.. وماذا سيقول أنصار أسلمة العلوم فيما لو تبين خطأ نظرية ما كانوا فسروها مسبقاً بالعودة إلى النصوص الدينية؟ إن مثل هذا التناقض يعكس أزمة التأسيس الثقافي للمعرفة العلمية في العالم العربي، وهو تأسيس وجداني عاطفي أكثر منه تأسيس عقلاني موضوعي. فإذا كان الإسلام مصدر اعتزازنا لما له من تجربة حضارية شامخة استمرت مئات السنين، وإذا كانت العلوم في الحضارة الاسلامية ازدهرت وحققت انجازات عالمية مهمة، فإن هذا لا يعني أن ننسب إلى النصوص الاسلامية اليوم كل اكتشاف علمي معاصر، لأن هذا النسب وجداني وليس له أي أساس واقعي أو علمي.
أزمة الحداثة العقلية
رابعاً- إن أسلمة العلم تؤكد وجود أزمة في التحديث العلمي في العالم العربي.. فنحن اليوم وبالرغم من استفادتنا من «التحديث التقني» في مختلف مجالات الحياة المعاصرة، إلا أن هذا التحديث التقني لم يقترن بـ «الحداثة العقلية». ذلك أننا استوردنا الآلات والمصانع ومختلف منتجات التكنولوجيا وتعلمنا كيف نستخدمها ونصنعها أيضاً.. ولكننا لم نتعلم العقلية العلمية القابعة خلف تلك المنجزات والمتمثلة بالإيمان بالحرية الإنسانية والسببية الطبيعية والعقلانية الاجتماعية. ولذلك فإن البحث عن أساس للمكتشفات العلمية في أوراق النصوص الدينية أمر يؤكد تراجع الثقافة العربية وعدم استيعابها الحداثة العلمية.. كما يؤكد ازدياد وتائرها للإجابة عن أسئلة الحاضر والمستقبل بعقل الماضي.
والسؤال الذي نود طرحه في النهاية هو: هل أسلمة العلوم أمر يقوي الدين في المجتمع أم يضعفه؟ إن الإجابة تختلف باختلاف الدين الذي نريده للمجتمع. فأسلمة العلم تقوي النظرة الغائية المنغلقة الجاهلة للدين.. ومن وراء ذلك تزيد في شعبية رجال الدين المنغلقين والمتعصبين الذين يفصلوا الدين على مقاس وعيهم وربما مصالحهم. وبالمقابل فإن أسلمة العلوم تضعف الدين المتنور العقلاني المنفتح المهموم بمشاكل الحياة المعاصرة، وتغرق في عالم الغايات والعنتريات الخالية من أي معنى.
كاتب من سورية