العمارة المعاصرة من النزعة السلفية إلى الحداثة المنسجمة
د.آزاد أحمد علي
يشكل التراث العمراني والمعماري لمدننا أحد أهم مواضيع السجال الذي يدور في اطار اشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة، وبين الهوية المحلية والحداثة المعولمة. و يتطلب البحث في جماليات العمارة وشخصيتها الخاصة أيضا عوامل وأسباب أخرى. فالتطرق الى جماليات العمارة والبيئة الاصطناعية وعلاقتهما بالمجتمع تبدو ضرورية اليوم امام هذا الكم الهائل من الانتاج المعماري والتوسع العمراني الاصطناعي السريع، بشقيه الحضري والريفي. ولاغناء الموضوع، وتسليط الضوء على الكثير من مسائله واشكالاته ذات الطابع الثقافي ـ المعرفي الجمالي وبالتالي الاجتماعي، لابد من التذكير من جديد ببعض مفاهيمه و اشكاليات دراسته.
وان تكررت بعض جوانب السجال فهي ضرورية لأن الثقافة العربية تفتقر الى جانب تخصصي هام وهو ما يمكن تسميته بالمعرفة المعمارية والعمرانية. فالوعي العمراني المديني والثقافة المعمارية فقيرة ومتوارثة في مجتمعاتنا. وهذا يعود الى عاملين رئسين، الأول هو إنشغال أهل المهنة (المهندسون المعماريون والإنشائيون) بالعمل اليومي الروتيني والسير خلف لقمة العيش وملىء أوقات الفراغ ـ إن وجدت ـ بلعب الورق في أندية “نقابات المهندسين”، أما العامل الثاني فهو مرتبط بمعالجة موضوع العمارة وجمالياتها من قبل بعض المهتمين من غير المختصين وذلك لملىء عدد من الصفحات “الثقافية والفنية” لبعض الصحف والمجلات. وغالباً ما يكون هذا التناول غير التخصصي شكليا يفتقر إلى سعة الاطلاع ولا يرتكز إلى أساس علمي, وفي أحسن الأحوال يكون التناول شاعرياً وعاطفياً. وقبل كل ذلك نعاني جميعا من قلة المعلومات التاريخية وضحالة المعرفة التاريخية بالتراث العمراني وعلاقته الجدلية مع المجتمع، فضلا عن قلة الاطلاع على الفكر المعماري العالمي بتنوعه وتشعب مدارسه.
وفي المحصلة تم تناول مواضيع التراث والمعاصرة والحداثة في مجال العمارة والعمران تناولا لايرتكز على العلم والمعرفة بقدر ما يستمد أدواته من العاطفة والايديولوجيا، وتم دفع الموضوع بإتجاه حصره ضمن مسألة الهوية الثقافية وحمايتها..
وبناءً على ما سبق يبدو لنا أن اثارة هذا الموضوع الذي يمس الجميع، ويعنيهم حياتيا وثقافيا، هي في الوقت نفسه فرصة للتذكير بحقل معرفي في غاية الأهمية، حقل ملاصق لحياتنا المعاشية ومؤطر له فيزيائيا. ومؤهل للقيام بصقل حسنا الجمالي والتأثير فيه. كما أن موضوع البيئة الإصطناعية بخطوطها الأساسية يستحق المزيد من الراي والسجال وبالتالي النقد، لأن هذه البيئة العمرانية التي ينتجها الانسان تقوم بإحتضانه والتأثير فيه بشكل مستمر. وهذه البيئة تتسع لتطغى على البيئة الطبيعية.
أول ما نعانيه في حقل المعرفة الجمالية بالعمارة والمشيدات المدنية الأخرى هو الالتباس الحاصل بين ماهو تراث فني من مباني تاريخية شيدت بطرائق فنية بأيدي حرفيين مهرة على أسس عملية وبطرائق الإنشاء الحرفي ـ التقليدي، وبين العمارة الحديثة كمنتج صنعي، شيدت أجزاءه ومفرداته على أساس علمي ـ فيزيائي. ان تطور علوم البناء دفعت بالعمارة إلى التحول التدريجي والتفاعل والتلاقح مع علوم الإنشاء والتشييد المستنتجة من خلاصات علوم الميكانيكا ومقاومة المواد وخواصها.
ان اشكالية العلاقة القيمية بين التراث المعماري والعمارة المعاصرة مازالت كبيرة ولم تفكك وتقيم هذه العلاقة بشكل موضوعي بعد، ومازال الموضوع بحاجة إلى حسن ادارة ومعالجة موضوعية تاريخية.
فالعمارة بوصفها منتج بصري وفراغي يؤثر على مجموع المشاهدين والمتلقين بقوة، وتحرض أشكاله على توليد الكثير من ردود الفعل الناتجة من تصادم القيم والمعايير الجمالية. لذلك برزت تيارات تدعو الى الحداثة وتلقي النموذج الصنعي الأروربي للعمارة في مواجهة تيار آخر يعاكسه عن طريق التمسك بالتراث المعماري المحلي والتشبث بحرفيتة، لدرجة أن اعتبرت العمارة الحديثة غزوا واستمرارا لتيارات فكرية ومدارس حداثوية غازية وفي حالات أخرى متآمرة!
وان كان الترابط والعلاقة بين العمارة والمدارس الفكرية ـ الفنية التي ظهرت في الغرب الرأسمالي ليست مباشرة, ولم تكن بالصورة التي روجت لها نظرياً. اذ كانت حالات التفاعل والتطبيق العملي على نطاق ضيق نسبياً, وليس حالة ونموذج لوكوربوزية والحركة التكعيبية إلا صدفة تاريخية, ساهمت في نجاحها الواقعي جملة من العوامل والمحفزات العملية. لقد كانت استثناء وليست قاعدة. وبالتالي ليس كل بناء حديث هو نتاج تنظير ومن ثمار الحركات الفكرية والسياسية الغربية.
فمن الخطأ اعتبار التطورات التي طرأت على العمارة العالمية والتي تجسدت أكثر في الأشكال والمدارس الغربية, انتاجاً فظا للرسمالية واللاهوية كما يدعي بعض المعماريين, فقد نبتعد بالتمسك بهذا الرأي عن الموضوعية والرؤية العلمية ونتخندق في موقع محافظ بل سلفي و متحجر. لأن ما حدث من تطور في الخط العام للعمارة الغربية هو خلاصة التطور العلمي العالمي, وحصيلة التراكم في الخبرات من علوم: البناء, مقاومة المواد, الميكانيكا, نظريات المرونة, الخرسانة, تكنولوجية التعدين، وكذلك تطور صناعة البللور والسيراميك. وهي بالتالي إ ستجابة لبعض نظريات العمارة المتفاعلة مع خصائص وامكانانت هذه المواد الحديثة.
فنمط البناء الشاقولي ارتبط عضوياً بتطور وتوسع المدن الصناعية, والتمركز الشديد للحياة المدنية، بالترابط مع تشكل الطبقة العاملة والعائلات الصغيرة العدد. كما كان للدور الصحي وزيادة السكان في المدن، ولضيق مساحة أراضي البناء تأثيرا كبير على بروز واستمرار العمارة البرجية.
من جهة أخرى نجد أن حركة البناء والعمران تتصاعد في أغلب البلدان النامية عمرانيا حسب معايير وتصاميم حديثة ومقتبسة تماما.
فالاتجاه الحداثوي يخطأ عندما يصر على نقل حصيلة تطور عدة قرون من الغرب مباشرةً الى مدننا وتقليد العمارة الغربية دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في المناخ ونوعية مواد البناء وسوية التطور الاجتماعي – الاقتصادي في مجتمعاتنا، إضافة الى الوعي المديني والثقافي الأولي. فهذا الاتجاه الحداثوي المتحمس للأشكال الغربية والذي يعتمد استنساخ العمارة الغربية ونقلها يمكن تصنيفه موضوعيا ضمن خانة التقليد والتبعية وربما الجهل. وعلى أية حال فثمة اختلافات جوهرية بين المهتمين والمنظرين المعماريين في فهم المسألة الجمالية للعمارة المعاصرة ودرجة تصادمها القيمي مع التراث المعماري المحلي، أو استمداد مواصفاتها وجمالياتها من المعاير العالمية السائدة.
وعلى الأرجح سينال الرأي المتمسك بالابداع المحلي الاحترام والتأييد، فلا يمكن للحداثة المنسجمة إلا أن تكون جميلة, ولا يمكن لها إلا أن تكون منتمية في الوقت نفسه, لأنها ثمرة لتطور المجتمعات البشرية ولديالكتيك تجدد بعدها الحضاري لمواكبة متطلبات العصر والانتماء إلى الزمن الحقيقي، وعدم الانصياع للحنين الماضوي. فالحداثة العمرانية والمعمارية لابد لها أن تكون وليدة المكان وابنة الثقافة المحلية وبالتالي ستكون متداخلة ومتفاعلة مع التراث المعماري المحلي ومنبثقة عن روحه.
وعلى المنحى الآخر يبدو أن النقل المباشر والسريع لنماذج الأبنية الحديثة الموشورية البلورية وزرعها داخل نسيج مدن الشرق وعمارتها الهادئة الرصينة, تخلق انطباعات وأحاسيس تكون أقرب الى النفور والتصادم والدهشة واللاإنسجام، منها الى القبول والتفاعل والارتياح.
إن نقل حصيلة تطور عدة قرون وتكثيفه بعدة سنوات وغرسها في جسد مدننا التي عانت من قطيعة تاريخية وتجمد في أوصالها الحضرية – العمرانية, لها انعكاسات نفسية واجتماعية وخدمية غير ملائمة.
ولكن لابد من التهيأ والعمل لتطوير عمراننا على اسس ابداعية. وينبغي لذلك أولا فصل موضوع المدن القديمة وحماية تراثها المعماري عن عملية الإنتاج المعماري المعاصر وبناء مدن جديدة ذات سمات وخصائص ابداعية، وبهوية منتمية إلى البيئتين الطبيعية والاجتماعية، هوية لاتستنسخ تجارب الآخرين ولاتعتمد على التراث بشكل كبير. فالصراع والاحتكاك بين ماهو قديم وتراثي وما هو جديد، جاري منذ أمد بعيد وقد حسمت بصورة دراماتيكية لصالح الحديث خاصة في مجالات الأزياء والآليات وغيرها من مناحي الحياة المعاصرة…
فلماذا تم القبول بالسيارة وهي بصيغة ما “عمارة متحركة”، ولماذا حسمت معركة الحداثة لصالح التحديث والتغريب والعصرنة في مجال الأزياء. ألم تدر يوماً ما معركة طاحنة في الشرق بسبب غزو النمط الغربي للثياب لمعاقل عماماتنا وطرابيشنا الشرقية، والتي تعتبر بصيغة ما “عمارة صغيرة” ملتصقة بجسم الإنسان، فثمة روابط جنينية وأنتروبولوجية بين العمارة والرداء.
ويستحسن أن نحيل موضوع العلاقة بين التراث والمعاصرة إلى العلاقة بين التقليد والابداع والابتكار، فالابداع سمة كل مرحلة والدعوة للتمسك بالهوية ينبغي ان تكون دعوة ذات محتوى ابداعي. بما معناه ان ننتج عمارة معاصرة منسجمة مع واقعنا، وتساهم في اغناء تجارب العالم.
فليس السلف الصالح وحده كان قادرا على إبداع عمارة جملية واصيلة ومنتمية إلى المكان. ولايجوز الحكم بالجمود والتبعية على المهندس المعاصر، فباب الابداع في العمارة والعمران مازال مشرعا، ولابد من الاجتهاد والا حكمنا على واقعنا الفني المعماري ـ العمراني بالموت، واسلمنا بأن التاريخ قد توقف ابداعيا على الأقل، عند بوابة هذه القلعة أو ذاك القصر التاريخي.
أكاديمي وباحث-سوريا-قامشلي
pesar@hotmail.com
خاص – صفحات سورية –
