سجون عائمة.. يا لها من رومانسية
عبد الحسين شعبان
هل ضاقت الأرض بالسجناء، ليتحول الفضاء والبحر مؤخراً إلى سجون طائرة وأخرى عائمة؟ فبعد الكشف عن فضيحة السجون السرية الطائرة التي استخدمتها وكالة الاستخبارات الأمريكية لاحتجاز عدد من المتهمين بالإرهاب، قامت بنقلهم عبر طائرات ومطارات في أوروبا، لاسيما في كل من بولونيا ورومانيا، واتجهت النية حسبما يبدو هذه المرة إلى البحر، لإخفاء أماكن اعتقال المتهمين بالإرهاب وذلك في سجون سرية عائمة بعد تحويل عدد من السفن إلى سجون وسط البحر.
صحيفة “الغارديان” البريطانية (مطلع يونيو/ حزيران) الجاري ذكرت أن منظمة حقوقية بريطانية تُدعى “ربريف” أقدمت على نشر تقرير، عن السجون العائمة تلك، يتضمن معلومات عن نحو 200 سجين قام الأمريكان بتسليمهم إلى جهة ثالثة عن طريق ما يُعرف بالرحلات الاستثنائية، وذلك منذ إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش وقف مثل هذه الممارسات (العام 2006 ). وقد أثار خبر “الغارديان” قلقاً لدى أوساط واسعة من الرأي العام، لاسيما المدافعون عن حقوق الإنسان في الغرب، أما عالمنا العربي والإسلامي فللأسف الشديد كان رد الفعل إزاءها خافتاً، إن لم يلتزم الصمت.
ولعل مثل تلك الأخبار والمعلومات تستلزم إجراء تحقيق واسع مع جميع الجهات التي تحوم حولها الشبهات بشأن مشاركتها في تلك الارتكابات ولمعرفة حقيقة الضرر الواقع على المتهمين، ناهيكم عن الانتهاك السافر والصارخ لحقوق الإنسان وللشرعية الدولية، فضلاً عن المعاهدات والاتفاقيات التي وقعت عليها الولايات المتحدة، إضافة إلى القواعد الدستورية والقانونية بخصوص المعتقلين والأسرى.
وحسب المعلومات التي تم تسريبها ونقلتها صحيفة “الغارديان” فقد استخدمت واشنطن أكثر من 17 سفينة لتحولها إلى سجون عائمة منذ الحرب على أفغانستان في العام ،2001 وكانت أغلبية هذه السفن قريبة من سواحل جزيرة دييغوا غارسيا في المحيط الهادي، حيث توجد أكبر القواعد العسكرية الأمريكية.
إن السرية المحكمة لإخفاء أعداد المعتقلين وأماكن اعتقالهم تثير علامات استفهام كبيرة بشأن انتهاك الولايات المتحدة للقواعد واللوائح والمدونات القانونية الدولية والدستورية الداخلية، بخصوص معاملة السجناء أو المحتجزين، لا سيما إذا كانوا يُحتسبون على ملاك الأسرى الذين تحكمهم قواعد القانون الدولي الإنساني، وبخاصة اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولين الملحقين بها لعام ،1977 إضافة إلى توفر عنصر سوء النية المبيتة إزاء هؤلاء الأسرى، حيث تتوجه الأنظار إلى تعرضهم للتعذيب، خصوصاً بإخفاء عددهم وأماكن أسرهم ومنع عوائلهم من الاتصال بهم وقطع علاقتهم بالعالم الخارجي.
لقد استخدمت السفن بمثابة معتقلات سرية عائمة يُستجوب فيها المتهمون لكي يتم إرسالهم إلى جهات مجهولة، ويعتبر مثل هذا الإجراء بحد ذاته انتهاكاً سافراً لحقوق المتهم الذي ينبغي أن يعرف تهمته وأن يُفسح له في المجال لتوكيل محام، وأن تُحسم قضيته بأسرع وقت ممكن وألا يتعرض للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية الحاطة بالكرامة، وأن يحظى بحقه في محاكمة عادلة بغض النظر عن التهمة الموجهة إليه. وحتى إذا افترضنا تورط بعض المتهمين بالإرهاب، فإن اللوائح القانونية الدولية لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، إضافة إلى الدساتير والقوانين والأعراف والشرائع الدينية كلها لا تجيز إخفاء أماكن الاعتقال ومنع أهلهم وذويهم من الاتصال بهم وحرمانهم من حق توكيل محام، ناهيكم عن الامتناع عن تعريضهم للتعذيب الجسدي أو النفسي أو إجراء تجارب عليهم أو تشغيلهم في أعمال سخرة أو غير ذلك. لقد أمضت سفينة “يو إس إس اشلاند” الأمريكية فترة قرب السواحل الصومالية في أوائل العام 2007 وقامت بعمليات أمنية استهدفت، حسب صحيفة “الغارديان” نقلاً عن تقرير المنظمة الحقوقية الخيرية ريبريف، عناصر من تنظيمات “القاعدة”، حيث تزامن اختفاء كثيرين في عمليات منظمة وتعرض بعضهم إلى استجواب وتحقيق من قبل أشخاص حامت الشبهات حولهم باعتبارهم من جهاز ال CIA وFBI، وذلك بتداخل مع قوات أثيوبية وصومالية وكينية، حيث اختفى قسرياً نحو 100 معتقل، وجرى الاعتقاد ولا يزال، أنهم أرسلوا إلى سجون في كينيا والصومال وأثيوبيا وجيبوتي وجوانتانامو.
يقول مدير منظمة “ربريف” المحامي البريطاني كليف ستافورد إن الولايات المتحدة اختارت السفن في محاولة لإخفاء انتهاكاتها لحقوق الانسان، لا سيما المعتقلون، حيث جرى إبعادهم عن نظر جمعيات حقوق الإنسان والمحامين والإعلاميين. ودعا ستافورد واشنطن إلى إظهار التزامها بحقوق الإنسان عبر الكشف الفوري عن أسماء المعتقلين وما تعرضوا له.
وإذا كانت المطالبة بالكشف عن المعتقلين والأسرى وإجلاء مصيرهم أمراً تدعو إليه الأمم المتحدة، لاسيما عندما أقرت الإعلان العالمي للدفاع عن المختفين قسرياً، فإن ما يتبعه هو نشر الأسماء وكشف أماكن الاعتقال، وبالتالي محاسبة المسؤولين عن إصدار الأوامر والذين قاموا بتنفيذها، خصوصاً وهم يدركون مخالفة تلك الأعمال للقانون الدولي الإنساني.
ولعل الأمر لا يتعلق بحالة واحدة من الحالات وإن كان الأمر سيان فهو يشكل خرقاً سافراً وصارخاً للشرعية الدولية لحقوق الإنسان، فما بالكم إذا كان الأمر يتعلق بحالة نحو 80000 (ثمانين ألفاً) مروا عبر هذا النظام من عام 2001 حتى الآن، فالمسألة ستكون في غاية الخطورة، وتعترف واشنطن بأنها تحتجز نحو 26000 (ستة وعشرين ألف معتقل) من دون محاكمة وفي سجون سرية.
لقد ظلت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” تنفي وجود انتهاكات لحقوق الإنسان في سجن جوانتانامو وسجن أبو غريب والسجون السرية الطائرة، الأمر الذي أثاره العديد من الإعلاميين وشهادات عدد من المعتقلين وبعض أعضاء البرلمانات بما فيها الأوروبية، لكنها عادت واعترفت بأن ثمة خروقات قد حصلت حيث قدمت بعض المرتكبين إلى محاكمات اعتبرت ضمن حجم الأضرار والجرائم الواقعة، محاكمات شكلية أو صورية، وحتى هذه اللحظة فإن وزارة الدفاع الأمريكية وحسب وكالة فرانس بريس نفت وجود سفن للاعتقال، وبررت ذلك بأنه ثمة عمليات نقل أو انتقال قد تمت ولا توجد منشأت سرية للاعتقال، وكان تبرير واشنطن ان عملية النقل اعتبرت “ترتيباً مؤقتاً للاحتجاز” إلى حين نقلهم إلى مناطق مخصصة لهم.
ومن الأسماء الشهيرة التي يتم تداولها ضمن المحتجزين في السجون العائمة هو جون ووكر ليند الملقب ب”طالبان الأمريكي” الذي احتجز على ظهر سفينة “يو إس إس بيليوم” في أواخر العام ،2001 ثم تم نقله إلى سفينة “يو إس إس باتان” حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2002.
يبدو ان عدوى “السجون المتراصة”، حسب قول الشاعر الكبير مظفر النواب انتقلت إلى الغرب ووجدت ضالتها في حملة للأحكام العرفية على المستوى العالمي والحروب الاستباقية وحجة مكافحة الإرهاب الدولي، لكن لم يدر بخلد أحد أن الفضاء والبحر سيتحولان إلى سجون طائرة وعائمة على يد بلد الحريات والرخاء. وإن كانت نظرته وممارسته إلى العالم الثالث وعالمنا العربي والإسلامي مختلفة، فإن يده تمتد هذه المرة إلى الداخل الأمريكي حيث تعرضت الحريات والحقوق المدنية إلى المضايقة.
أيكون للعسف والاستلاب رومانسية أيضاً؟ فماذا نسمي السجون السرية العائمة بعد السجون السرية الطائرة؟
باحث ومفكر عراقي