شيء من مفارقات ملفتة .. عبد الكريم الجندي، وأحمد المير، وسواهما..
جلال / عقاب يحيى
لمن لا يعرف، فإن عديد العوائل، والأفراد في سلمية ليسوا من أتباع المذهب الإسماعيلي ، بل هم من أكثر المتشددين للمذهب السني ، حتى يقال : ان ما يقرب من نصف، أو ثلث البلدة، والقرى التابعة لها من السنة، وفقاً لحركة لا نشهدها في أيّ من المذاهب الأخرى، وأقصد : حركة الانزياح والانتقال، ومثلها التعايش بين الجميع، رغم أن الوضع لا يخلو من وجود تشاحنات ، وشيء من البغض لمن ( يترك دينه)، لكن عامل القبول بالآخر هو الأقوى . وستجد ضمن العائلة الواحدة، والبيت الواحد هذا الانقسام المذهبي بتداعياته، و( نقاراته)، وسخرياته.. لكنه لم يصل إلى العداء، والاقتتال .
وللعلم أيضاً، وخلافاً للسائد في عموم الحركات السنية المحسوبة على الوسط، واليمين( بشكل اصطلاحي)، فإن حركة( التسنين) في بداياتها، انخذت طابعاً رفضياً، أو تمردياً على السائد، عبر مقاومتها لسلطة ” الأمّار” الدينية والسياسية، وكان (الجندي محمد، والد الدكنور سامي الجندي) من أبرز تلك القيادات التي استطاعت تجنيد العديد من الشباب المتنوّر، الذين شكلوا الأرضية العامة، فيما بعد، للحركات القومية، واليسارية، وغيرها، في حين التحق البعض بحركة الإخوان المسلمين، أو بالدعوات السلفية .
ومن المعروف، أيضاً، أن من ينتقل من حالة إلى أخرى يصبح متشدداً بشكل ملفت، صدامياً، وعنيفاً أحياناً، مواظباً بنوع من حرفية على الفروض وأكثر، منافحاً عمّا يعتبره الخيار الأصح، وكأنه يريد إقناع نفسه، قبل الآخرين، والآخرين أيضاً، أنه صادق في اختياره، وأنه فوق شبهة الطعن به وبإيمانه.. ( وهذا حال معظم من ينتقل من حزب لآخر) .
مع كل ذلك التشدد، وما عاناه البعض في بيئته التي تعتبر تغيير المذهب ” ارتداداً”، وتطلق عليه باللهجة العامية ” مرتدّ “، وعاق، وقد يواجه بعض الضغوط، والنفور، خاصة من عائلته، إن لم تكن جميعها من المذهب ذاته..وقد يرفض بعض المتشددين في المذهب الآخر( وهم ليسوا كثرة) تزويجه من بناتهم، أو تزوّج بناته، وبعض التعاملات التجارية وغيرها..
والطريف، أو الملفت أن معاناة هؤلاء عندما يخرجون من البلدة إلى أماكن أخرى ستكون أشد، وأكثر مراراً، وينطبق عليهم المثل الشعبي ” لا طال عنب الشام ولا بلح اليمن “، بما يوضح حالة مجتمعية لم تتجاوز منعرجات التاريخ، وتعبئاته الطويلة، فهو وسط أكثرية مذهبية، سنية كانت أم غيرها، مشكوك بولائه ومذهبه، وقد يعيّر ” كلما دقّ الكوز بالجرة “، ولأتفه الأسباب ب” تاريخه”، أو نسبه الإسماعيلي، وكأنه سبّة، أو نقيصة من العيار الثقيل . وقد عانى الكثير منهم ( هذه الغربة) ومفاعلاتها، وكأنّ عليه أن يقدّم شهادات المصداقية كل يوم، والبعض أصيب بردّات فعل على شكل : المزيد من التشدد، والتصرف العدائي مع أبناء المذهب الإسماعيلي كي يثبت المرة تلو الأخرى أنه يعتنق المذهب عن إيمان وقناعة، وأنه مستعد لكل شيء في سبيله، حتى مقاطعة الأهل والأقارب والجوار، ومألوف الشائع والعادات، أو التمسك بجذوره الطائفية، أو محاولة إيجاد نوع من المصالحة الداخلية ، بينما عانى الأولاد نوعاً من ازدواجية التي تطال المكان، والجذور بآن، خاصة بعد فشل المشروع النهضوي، التحديثي، والعودة إلى جدران للاستناد : كان الدين، والمذهب، والعشيرة، والعائلة.. أبرز تجلياتها .
****
أفتتح الكلام بهذه الوضعية على غير مألوف ما أكتب، وما أومن.. لأقف عند بعض المفارقات التي تعجّ بها مواقع الأنترنيت المليئة بالمغالطات، والسطحية في المعلومات، والأخطاء، والقصدية ..
ولو اقتصر الأمر على هواة في السياسة، ومراهقين يحلمون بشغل مساحة ما في عالم الإعلام، وافتتاح مواقع لهم محشوة بكل شيء، لهان الأمر، لكن أن يأتي ذلك من ” قامات ” إعلامية، أو هكذا تعتبر نفسها، وسياسية.. فهو ما يدعو للوقوف، والسؤال، دفاعاً عن الموضوعية، وصيانة لألف باء الوحدة الوطنية.. التي كانت وستبقى حجر الرحى في حياتنا، ومسعانا لبناء وطن ديمقراطي، حرّ، يقر التعددية، ويساوي بين البشر على أساس المواطنية ، بغض النظر عن الجنس، والقومية، والدين، والمذهب ، وسواها . وعلى سبيل المثال ترد توصيفات متكررة عند محاولة ذكر حياة ودور عبد الكريم الجندي، وهي وإن اتصفت على العموم، بالسلبية، ومحاولة تشويه الرجل من كافة النواحي، وحتى الطعن بخصوصياته و( رجولته)، يتكرر مراراً توصيفه ب: الإسماعيلي، أو ذاك الإسماعيلي، أو الإسماعيلي المنضوي في حلف العلويين .. الخ ..ومثله على أحمد المير .
****
لم يكن عبد الكريم الجندي، لمن لا يعرفه، يوماً إسماعيلياً، لا في انتمائه، ولا في سلوكه، ولا في ممارساته ، وحساباته، ومواقفه منذ شبابه وحتى ” قصة ” انتحاره، أو مقتله .
وللمناسبة، فعائلة الجندي، المقيمة في سلمية، منذ إعمارها ، آخر مرة عام 1848 ، هي عائلة سنية في عمومها، ومنها العقيد عبد الكريم الجندي. وعلى هذه القاعدة خاض أحد أبرز وجهائها( الجندي محمد، والد الدكنور سامي الجندي، مؤسس البعث في سلمية، وعلي ، وخالد، وإنعام، وعاصم، والذين لم يتعاطوا يوماً بالدين، أو المذهبية) صراعاً مريراً ضدّ ( الأمار)، وترشّح باستمرار في مواجهتهم للانتخابات النيابية، ومثله فعل ابنه سامي، وإن على خلفية أخرى : بعثية، قومية .
الأهم من ذلك أن الشهيد عبد الكريم الجندي لم يتعامل يوماً، طيلة حياته الحزبية، وفي الجيش، ثم كمسؤول، على أنه ( سلموني) ناهيك عن صفة لم تكن له وفيه( إسماعيلي). على العكس، كان مشبعاً بالالتزام والإيمان حتى الاختناق( والانتحار، فيما لو صدقت رواية الانتحار وليس القتل)، ولم يعرف عنه أنه عمل واسطة لأحد أبناء بلدته، إلى درجة أن معظمهم كان عاتباً عليه لتلك الصفة( الجلفة) ، وعدم الاهتمام بالبلدة التي ظلت مهملة في جميع العهود، وعدم استقبال تلك الطوابير التي كانت تبحث عمّن يلبي حاجاتها بالطرق الشخصية، ومن وراء القرارات المتخذة بإلغاء الواسطة، والتدخلات في شؤون الوزارات، أو خرق الشروط الموضوعة للتوظيف، وللكليات الحربية، والبعثات، والإيفاد، وغيرها.. ناهيك عن الشعارات المرفوعة عن محاربة الجهوية، والعشائرية، والطائفية، وسواها.. مما يعتبر من معيقات التطور، والتثوير، والتقدم، وبناء المشروع الذي آمن به كثير من حملته، وكان عبد الكريم في مقدمهم، رغم معرفته الدقيقة بأن عديد المسؤولين لا يتقيدون مثله بتعاليم الحزب، وقرارات القيادة ، ويقومون بتجميع أبناء القرية، والجهة، والمدينة، والحي، والزاروب، والطائفة…..
ولئن كان من مجال لنقد هذا القائد البعثي، فليس من هذا الباب.. وإنما من موقعه ” كرئيس لمكتب الأمن القومي”، وما عرف عنه من تشدد في التنفيذ، ومن ممارسة قمعية كانت جزءاً من فلسفة النظام والحزب، والسائد في تلك الأيام.
رغم أن كثير المبالغات، والتلفيقات، والقصص قد ركّبت على الرجل لتصنع منه عنواناً لمرحلة يتم تناولها من أهم ثغراتها( الأحادية والشمولية، ورفض التعددية، والحياة الديمقراطية)، خاصة وأنها سقطت بتلك الطريقة، وارتحل الرجل في تلك الظروف الاستثنائية، وكان تشويهه أحد الأهداف الكبرى لتشويه المرحلة، وتسويد كافة صفحاتها، وما قامت به من إيجابيات .
نعم، كان الجندي مؤمناً حتى العظم بتحويل الانقلاب إلى ثورة، ولو بالفرض، والقوة، تكون لصالح الفقراء والضعفاء، وعلى أسس المساواة بين الناس، والتكافؤ في الفرص، ولعل إيمانه ذاك ، وطبيعته الاندفاعية يفسران حماسته التي لم تراع التركيبة السائدة، وشروط الانتقال الفعلية، وليست القسرية، أو المتأثرة بالتجرية الاشتراكية، وحرق المراحل، وتجاوز الموضوعي إلى توريم العامل الذاتي( الحزب والمنظمات التي تدور في فلكه) ، وقد ضرب ، وهو وزير للزراعة والإصلاح الزراعي، المثل الحي عن صدق إيمانه ، وقناعته بما هو مقرّ من قبل القيادة وهيئات الدولة ، ولم يلتفت يوماً إلى زاروب، أو عائلة، أو بلدة، ناهيك عن طائفة، وطائفية كان شديد القسوة والحرب عليها.
*****
أما أحمد المير.. الضابط، والبعثي القديم، وقائد الجبهة، وعضو القيادة القومية لفترة قصيرة.. فيمكن تحميله الكثير من المسؤولية( مع غيره من القادة العسكريين، خاصة وزير الدفاع آنذاك) في مسار، ونتائج حرب حزيران .
كما ويمكن الحديث طويلاً عن الكفاءات العسكرية، ودور التصفيات اللاحقة في إفراغ الجيش من كفاءات عسكرية مشهود لها.. وعن ” اللجنة العسكرية “، وصراعات أجنحة البعث.. وغيره كثير.. مما حاولنا تقدّم الصفوف في تناوله بعين نقدية شجاعة لا تخشى وضع الإصبع على الجرح، وإعلان الحصائل، ووعي، وتمثل البدائل .
أما أن يتم تناول المرحوم أحمد المير من خلفية انتمائه المذهبي، والجهل بذلك الانتماء.. فهذا لا يليق لا بقامة صحفية وسياسية كبيرة، ولا حتى متوسطة .
إن أحمد المير، ابن مصياف، حتى ولو فرضنا أنه مؤمن، ولا أعرف أنه كان كذلك..فإن مصياف، ومنذ عقود مديدة لا تدين بالمذهب الإسماعيلي على ( الطريقة الإمامية)، أي أنها لا تتبع( الإمام الحاضر)، وقد قطعت علاقتها بذلك منذ وقت طويل .
أبناء مصياف الذين يحسبون على الإسماعيلية ( نسباً) ومغالطة.. هم جعفريون، ينتهجون نهج جعفر الصادق الذي يعتبره عديد علماء السنة أنه بمثابة المذهب الخامس، وهم في حقيقة ممارساتهم أقرب إلى السنة منهم إلى الإسماعيلية .
***
الشيء الأهم : أن المشروع الوحدوي، النهضوي، شبه العلماني الذي آمن به عن صدق أولئك النفر من المنتمين، والذين دفع كثيرهم حياته ثمناً( بغض النظر عن كمّ الأخطاء، والسلبيات، والفجوات، والهزائم) لم يقم على أسس مذهبية تقسيمية، ولم يكن رواده من المتخندقين خلف حصون المذاهب والعشائر والحارات ، والجهوية.. على العكس، كانوا فوق تلك التركيبة، ومعظمهم يرفض التعاطي معها، أو الاعتراف بها، أو الانطلاق منها( هنا، ورغم إدراك حجم الاستخدام والتوظيف للظاهرة الطائفية، وحجم الموضعات لها في الحزب والجيش، أساساً، إلا أن المؤمنين بالبعث كانوا في الموقع الآخر، المقاتل ضد التسرب الطائفي، أو الاستناد إليه في الصراعات الداخلية، كما فعل البعض، خاصة الأسد وهو ما يزال قائداً للطيران والقوى الجوية، ومن ثم وزيراً للدفاع، فقائداً للانقلاب، والمرحلة ) .
ولعل واحدة من السلبيات التي تؤخذ على هؤلاء، أنهم، وتحت تأثير تكوينهم، وأحلامهم، عملوا على القفز فوق التركيبة الاجتماعية، حتى إذا ما داهمتهم بعض أمواجها المصنّعة، والقصدية ظلوا مستمرين في نهجهم الرافض للاعتراف بها.. حتى وإن كان الطوفان . وقد حلّ الطوفان بهم، وبالحزب، والبلد ..وما انساقوا في رمالها العاصفة، التي تعمي العيون والبصيرة .
أكثر من ذلك، كان عديد البعثيين المؤمنين بالمبادئ( كبغل الساقية، مع ما في المثل من إجحاف، وسذاجة )، إذ رغم ذكاء، ونباهة عديد القيادات والأطر لما يجري في السلطة، والجيش.. ولما يعانيه الحزب من اختناقات، وصراعات، وخروجات..فإن شدة التزامهم به، وعمق إيمانهم بالأهداف جعلهم يمضون قدماً دون الالتفات إلى تلك الممارسات التي بدت شاذّة، ثم راحت تتسلل وتفصح عن نفسها بأكثر من ثوب ولون .
إن نقد مرحلة هامة في تاريخنا، خاصة وأنها ارتبطت بحدث جلل : هزيمة حزيران، هو حق لكل الوطنيين والقوميين العرب، والمهتمين بالشأن العربي، ومصير هذه الأمة، بل هو واجب للفهم، والتوضيح، واستخلاص العبر، والتجاوز، وبناء البدائل .
وإذا كان أبناء البعث، المخلصين لقيمه، وللأمة.. أول المطالبين، والمعنيين بعمليات النقد الشجاع، وتسليط الأضواء على المناطق المعتمة، والمظلمة، ودخول حقول الألغام الحقيقية والمختلقة، ونشر الحقائق والوقائع، والتقديرات، كما عاشوها، وتعاملوا معها، وفقاً لرؤى تلك المرحلة، ومستوى الوعي السائد، والمقولات التي انتشرت عن بناء الثورات، أو تحويل الانقلابات إلى ثورات، وموقع المركزية، والشمولية، والأحادية فيها ..
فإن ألف باء النقد أن يكون ملماً بالمرحلة، مطلعاً على بعض الوقائع والمعطيات كي لا يقع في الذاتية، والسطحية، والفهلوية، والمطبات التي تخرجه عن تحقيق الهدف( إذا كان الهدف هو النقد وليس الحكم المسبق)، وأن يتسم بالموضوعية، لأنه ليس من السهل إصدار الأحكام لمجرد الشبهة، والتوقع، أو السماع نقلاً من فلان، عن فلان . ناهيك عن قيم الحق، والعدل التي يجب التمسك بها، والوحدة الوطنية التي تبقى الغاية والملجأ، والحصن الحصين .
للمناسبة، وشهية ( الأنترنيتيين) مفتوحة على ما هبّ ودبّ من الأسماء، والمقالات.. وكأنه التعويض عن فعلنا في الساحة الرئيس، أو التنفيس عن الاغتراب، وعقود التهميش، والأرصفة، والأرشفة..
كنت أتمنى منذ سنوات لو استطاعت الأحزاب والجماعات الإسلامية أن تتجاوز بنيتها الطائفية إلى عموم المسلمين، لتقديم النموذج، وربما الحل لإشكالية التوزع المذهبي بنوازع التذرية، والتقسيم فيه .
وتساءلت مراراً، وحزب الله يتصدّر قائمة المقاومين ، وتنتشر صور أمينه العام في ميادين ومناطق كثيرة، وقد صار محل خلاف، وتباين.. لو أنه كان مقاومة إسلامية بكل ما تعنيه الكلمة من تنوّع المذاهب، بل وأكثر من الاسم المرفوع بأن يكون الحاضن لمقاومة عامة تنخرط فيها كافة الفئات من مختلف التيارات، والأديان، والمذاهب، بما فيها القوى السياسية القومية واليسارية والعلمانية.. ولما لا !!..
كما تمنيّت لو أن حركة تاريخية كبيرة، كحركة الإخوان المسلمين، نجحت في اختراق حصون الطائفية( الحالة السنية) التي تموقعت فيها، وانطلقت إلى الطوائف الأخرى لتنظيم البعض منهم في صفوفها، من منطلق أن هؤلاء مسلمون أيضاً، ويشملهم العنوان المرفوع، وأن ( الإخوان المسلمون) أخوة فعلاً، ولو كانوا متعددي الانتماء المذهبي، مختلفين في التفاصيل، والاجتهاد. ذلك أنه من الحيوي البحث عن الصيغ الجامعة التي تصون الوحدة الوطنية بالعمل، والتجسيد، وليس بالأمنيات، والشعارات فقط ، خصوصاً وأن هذه الصراعات المغشوشة، المقحمة على شعبنا بألف لون، ووسيلة.. هي الأخطر على وحدتنا الوطنية، وعلى أوطاننا، وألف باء النسيج الاجتماعي المهدد بالتفسيخ ، وبالحروب الأهلية الكارثية، على هذه
كاتب وباحث / الجزائر
“الرأي / خاص”