صفحات ثقافية

“تاريخ لبنان الحديث” لفواز طرابلسي: قراءة علمية أم وجهة نظر أخرى؟

null
رامي الأمين
هناك الكثير من اللبس حول تاريخ لبنان الحديث، البلد الصغير الذي تعود بداياته الأولى إلى إمارة جبل لبنان التي تكونت في كنف السلطنة العثمانية. ما وصلنا من كتابات منذ ذلك الحين حتى أيامنا لا يزيل الإلتباس الحاصل حول هوية لبنان التاريخية. فالبلد هذا لطالما تميّز بالتناقضات التي قام عليها، وخصوصاً بين جماعاته التي هي اقرب إلى التنافر منها إلى التقارب. وما كتب في تاريخ لبنان كان يخضع دائماً، حتى ذلك التاريخ الذي يدرّسوننا إياه في المدارس والجامعات، يخضع لوجهات نظر مختلفة، يوحدها كتاب واحد يتبنى وجهة نظر وسطية ترضي معظم الأطراف ولا تفسد بينهم في الود قضية. والحال أن التاريخ لا يُكتب من وجهة نظر أو من خلفية معينة، وهو ليس اقتراحاً للحقيقة، بل يجب أن يكون الحقيقة بذاتها، أو ما يعادلها. وما يعادل الحقيقة ليس الرأي الذي يتبنى الحقيقة، بل الحوادث والروايات والصور التي تقترب من التجرد وتبتعد عن التحليل. تعلمنا، نحن اللبنانيين من التجارب، أن لا تاريخ حقيقياً لنا، طالما أن هذا التاريخ يشبه الحاضر، ويتماهى معه المستقبل. لا تاريخ حينما يكرر التاريخ نفسه بلا كلل ولا رحمة. هكذا لا يعود اللبنانيون هذه الأيام، يشبهون حاضرهم، أكثر من آبائهم، كما يقول المثل العربي الذي يستشهد به مارك بلوك في كتابه “دفاعاً عن التاريخ”، والذي يضعه فواز طرابلسي بدوره في بداية الفصل الأول من كتابه “تاريخ لبنان الحديث – من الإمارة إلى اتفاق الطائف” الصادر لدى “دار رياض الريس للنشر”، والذي “يقترح” بدوره رواية جديدة، منقّحة، وجامعة، حول تاريخ لبنان الحديث، الذي يتفق اللبنانيون على بعضه، ويختلفون على بعضه الآخر. الكتاب يأتي في 471 صفحة، ويحوي ثلاثة عشرة فصلاً، و”خاتمة موقتة” هي عبارة عن شرح لإتفاق الطائف والتباساته وتناقضاته، كما يصفها طرابلسي.
يحاول الكتاب أن يحيط بمرحلة طويلة من تاريخ لبنان الحديث من عام 1528 حتى عام 1990، وهي المرحلة التي تأسس فيها لبنان وتطور وتوسّع ليصير البلد الذي نحن في صدده اليوم. يبدأ طرابلسي بتفنيد الحوادث والوثائق والتواريخ منذ بدايات لبنان، “بما هو كيان سياسي”، كما يقول، أي يربط طرابلسي في كتابه، بين التاريخ والكيانية السياسية، ويتعاطى مع التاريخ بوصفه حالة سياسية، وليس حالة تقترن بها السياسة والإجتماع واللغة والدين والثقافة والإقتصاد… كلها مجتمعة. مع أن طرابلسي يكتب منذ البداية عن كل هذه العوامل المؤثرة في الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في إمارة لبنان وتطورها، لا في اصل تكوينها وسببه. فهو لا يعطينا حجة وسبب وجود الإمارة، واستقلالها عن السلطنة، بل يعرض لواقع الإمارة وحالها في تلك الفترة، ويأتي تالياً على نظام الحكم فيها، وعلى علاقة الإمارة بالسلطنة لجهة استقلالها النسبي المترافقة مع ولائها الكامل للسلطنة. لكن الكتاب، مع إغفاله للعوامل التي أدت إلى تكوين السلطة ووجودها، يعرض بشكل مفصل وواضح للكثير من تفاصيل العيش في هذه السلطة ويربط بشكل متسلسل بين الحوادث، عبر تواريخ واضحة ومحددة، كما يعرض لواقع العائلات والجماعات والطوائف والمذاهب في إمارة جبل لبنان، وما أدت إليه النزاعات بينها على هوية الإمارة، بعد نهايتها، واحتضار النظام المقاطعجي، وتقسيم إمارة لبنان بين الدروز والمسيحيين، نزولاً عند التسوية التي اقترحها المستشار النمسوي ميترنيخ بين البريطانيين والعثمانيين، وقيام نظام القائم مقاميتين، الذي يصفه طرابلسي بأنه “نظام من الفتنة”.
كان الصراع على هوية لبنان في ذلك الحين بين المسيحيين والدروز، الذين يتمتعون بامتيازات. ويستلّ طرابلسي أجمل الأمثلة من كتابات الأقدمين وأساطيرهم حول صراع “الأخوة – الأعداء”، حين ينقل شهادة اسكندر ابكاريوس، الذي يقول فيها: “وكان في وقت المعركة قد قبض درزي على أحد النصارى وأخذا في الصراع والمقاومة. وما زالا في المجادلة والملازمة حتى وصلا إلى شاطئ البحر فسقطا في الماء وهما يتعاركان. وبينما هما كذلك أتت موجة عظيمة فسحبتهما إلى العمق واختنق الإثنان. وعند الصباح وُجدا على الشاطئ ميتين. وهما لم يزالا متقابضين”. ينهي بهذا المقطع الفصل الثاني، وهو مقطع يلخص الصراع بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان، والذي سيدوم ويتكرر في فترات لاحقة من تاريخ لبنان، وفي فصول آتية من كتاب طرابلسي.
في الفصل الثالث، يحدثنا طرابلسي عن متصرفية جبل لبنان، وهنا، على عكس الفصل الأول، يضعنا أمام تاريخ تأسيس المتصرفية وكيفية ذلك، بالإضافة إلى جغرافيا المتصرفية التي هي “أول وحدة إدارية عثمانية تلي الولاية ويحكمها متصرّف”. وتضم زحلة، التي اعيدت إلى جبل لبنان بعدما كانت جزءاً من ولاية دمشق زمن القائم مقاميتين. “وتوسعت المتصرفية غرباً لتشمل ساحل البحر المتوسط باستثناء المدن الرئيسية (طرابلس وبيروت وصيدا) التي ظلت جزءاً من ولاية دمشق ومعها سهل البقاع.
بيروت المدينة هي محور الفصل الرابع من الكتاب، الذي يتضمن عرضاً جميلا وسلسا للحياة الثقافية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية في بيروت بين 1820 و1915. فهو يكتب عن ازدهار المدينة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتطور هذه المدينة على صعد التجارة والخدمات والسياحة، فيصفها وأحوالها، من مبانيها إلى أبنائها وطرقها، وصولاً إلى الترمواي والسكك الحديد والعربات التي تسيّر رحلاتها بين بيروت ودمشق وحوران. ويعطي احصاءات محددة لعدد سكان هذه المدينة، الذي وصل إلى 120 ألفاً عشية انشاء “لبنان الكبير” عام 1920. كما يروي انشاء المجلس البلدي في بيروت، وتزويدها الكهرباء، وحركة النزوح إليها، والتنوع الإثني والطائفي فيها: “وبين أحد عشر تاجراً للقطن تاجر مسلم واحد. المصارف المحلية تملكها أسر مسيحية، بإستثناء إثنين لأسرتين يهوديتين”. هنا يتحدث عن رجوح “كفة القوة الإقتصادية للتجار المسيحيين الذين سيطروا على تجارة الإستيراد الدولية فيما اضطر التجار المسلمون إلى الإكتفاء بالتجارة بين مرافئ السلطنة”. كما يؤرخ في هذا الفصل إلى بداية “التعليم الجامعي في بيروت عام 1866 مع تأسيس “الكلية السورية الأميركية البروتستانتية” (لاحقاً الجامعة الأميركية في بيروت)”.
يتطرق طرابلسي في الفصل الخامس إلى العلاقات بين كيان لبنان الذي لم تقم له قائمة قبل أيلول 1925، والكيان السوري الذي يقول البعض بأن لبنان جزء من سوريا الطبيعية. لهذا يضع طرابلسي قولاً ليوسف السودا في مقدمة هذا الفصل الذي يحمل عنوان “جدليات الإتصال والإنفصال”: “لبنان الصغير موت اقتصادي، الإتحاد مع سوريا موت سياسي”، وهو خير تعبير عن العلاقات اللبنانية – السورية منذ تكوين الكيان حتى ايامنا هذه التي تشهد جدالاً حول هذه العلاقات التي شهدت قبولاً سورياً بإنشاء علاقات ديبلوماسية بين البلدين. ثم ينتقل في الفصل اللاحق إلى الحديث عن مرحلة الإنتداب التي انتهت إلى استقلال لبنان عام 1943، ويأتي على مرحلة الإستقلال التي يسمّيها بـ”جمهورية التجار” وامتدت من عام 1943 إلى عام 1952، ويمر بالمرحلة الشمعونية، ثم الشهابية، والأوضاع التي شاعت في تلك الفترة، الإقتصادية منها (قضية بنك إنترا)، والسياسية والإجتماعية (الفلسطينيون ومنظمة التحرير)، وصولاً إلى الحرب عام 1975. هنا تبدأ فصول أخرى من رواية التاريخ اللبناني الحديث، عايشها فواز طرابلسي وكان طرفاً فيها، فتارة ينجح في عرض الحقيقة المجردة، وطوراً يقع في فخ إبداء وجهة نظره الخاصة والمنحازة إلى طرف دون آخر، ويظهر هذا في وصفه لميشال عون بأنه “بشير جميل رقم 2″، وبأن “النزعة الشعبوية التي كانت تحرك ميشال عون وحيدة الجانب واختزالية إلى حد كبير”. وفي هذا الوصف ما يشبه وصف الحركة الوطنية للمسيحيين بأنهم “إنعزاليون”، طبعاً بعد عزلهم. لكن مع ذلك يمكن الاستفادة كثيراً من المعلومات والوثائق والروايات والتواريخ التي جمعها فواز طرابلسي في كتابه، ويمكن أيضاً الإستفادة من وجهة النظر الأخرى هذه لقراءة التاريخ اللبناني المتعدد الوجه.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى