صفحات ثقافية

أكثر من أزمة لغة: »حسن ومرقص« مدخلاً

null
حسام عيتاني
حسن العطار هو الاسم الذي اختاره مدير الأمن لرجل الدين القبطي بولس (عادل إمام) بعدما تعرض لمحاولة اغتيال على أيدي متطرفين من الأقباط لم تعجبهم دعوته الى الاعتدال. ومرقص وليام عبد الشهيد هو الاسم الذي منحه مدير الامن ذاته للشيخ محمود (عمر الشريف) الذي يتعرض متجره الى حريق متعمد لرفضه تولي إمارة الجماعة الإسلامية التي كان شقيقه أسامة يقودها.
وللصدفة، يتضح أن اسم حسن العطار يعود الى داعية إسلامي شهير، يلجأ حامله القبطي بعد سلسلة من المفارقات الى منزل يملكه صديق له ليكتشف المشاهد أن الصدفة جعلت باب منزل بولس ـ حسن العطار مقابلاً لباب المنزل الذي استأجره محمود ـ مرقص وليام عبد الشهيد، وتنشأ صداقة وشراكة تجارية بين الرجلين الى أن يضطرا الى الرحيل عن المبنى الذي يقطنان فيه لأسباب عاطفية ـ طائفية. الصدف والمفارقات تتوالى من خلال قصة حب بين الفتاة المسلمة ابنة محمود ـ مرقص والشاب المسيحي ابن بولس ـ حسن. وفي لحظة مصارحة، يكتشف العاشقان أنهما خدعا بعضهما فتنهار الكذبة التي حاكها الأبوان والعائلتان في الوقت الذي تندلع فيه مواجهة إسلامية ـ مسيحية جديدة في الشارع الذي تكون العائلتان قد لجأتا اليه. ويخرج أبطال الفيلم في المشهد الأخير ممسكين بأيدي بعضهم بعضاً، فيما يتقاتل المسلمون والمسيحيون من حولهم، ولا يفت من تماسك الأيدي ضربة يتلقاها حسن ولكمة تصيب مرقص على وجهيهما.
يغرق الفيلم منذ مشاهده الأولى في لعبة التناظر: ما يفعله المسيحي أو يتعرض له من مخاطر، يصادف المسلم أخواتها التوائم. الطقوس التي يقيمها المسلمون لا تختلف أبدا عن تلك الموجودة عند المسيحيين. عناصر التطرف موجودة في الجهتين، كذلك العوامل الداعية الى المحبة والتهدئة. وسط كمية من الصور النمطية تجعل زوجة الأسقف القبطي لا تستطيع لفظ ثلاث كلمات من دون أن تقول »باسم الصليب«.
بيد أن لعبة من هذا المستوى لا تتأخر في الكشف عن ضحالتها بمجرد الاقتراب من المقارنة المتلمسة للواقع: ان دولة مثل مصر تتألف من أكثرية ساحقة من المسلمين الذين يسيطرون على السياسة والإعلام والاقتصاد، والذين يتصاعد في أوساطهم نفوذ الإسلام السياسي الحركي، لا يمكن أن يقال إن عنصريها، المسلم والمسيحي، يشكل كل منهما نصف المجتمع، وبالتالي ان كل نصف منهما يهدد الآخر أو يمثل مصدر خطر وجودي عليه.
التناظر الغبي الذي يقوم الفيلم عليه، ينتفي اذاً عند إدراك الفوارق الواقعية بين الطائفتين. والمسلمون والمسيحيون في مصر وفي غيرها من دول المشرق العربي، ليسوا سواسية، في حقيقة الامر، ولا يتقاسمون السلطة والحيز العام مناصفة. عليه، لا تستقيم معالجة فنية على هذا القدر من التسطيح لواقع أكثر تعقيدا بكثير مما أراد كاتب السيناريو والمخرج والممثلون لنا ان نظن. الاكثرية الطائفية أو الدينية، ليست أقلية من بين الاقليات الاخرى. ثمة ثقافة وتاريخ وأشكال من العلاقات بين الاقليات والاكثريات السياسية والعرقية والدينية، وثمة حروب وصراعات وقعت وخيضت في طول العالم وعرضه، يريد الفيلم القفز من فوقها كلها للخروج برسالة ساذجة قوامها أن أحبوا بعضكم بعضا ولا تصغوا الى المتطرفين من بينكم. ولسائل ان يسأل مؤلف قصة الفيلم والمسؤولين عنه: اذا كان المسلمون والمسيحيون على هذه الدرجة من التشابه، فلماذا وجدت الطائفتان في المقام الاول. لا يستطيع المشاهد ان يدرك ما الذي يحول دون ان يكون المسلمون والمسيحيون طائفة واحدة ما داموا متشابهين الى هذا الحد.
غني عن البيان أن فيلما من طراز »حسن ومرقص« تنتجه سلطة (سياسية وثقافية) مأزومة وحائرة أمام انفلات حبل الصراع الطائفي من بين يديها. وان الفئات الاجتماعية التي ترى نفسها معنية بتحقيق الاستقرار، بالمعنى الذي تقصده عادة أنظمة الحكم العربية بما يمكن اختصاره بتعميم الركود السياسي ونقله الى كل الفئات الاجتماعية ومنع التعبيرات العنيفة أو الاحتجاجية على التردي اللاحق بالاقليات أو بالشرائح المتضررة من الحكم القائم، نقول ان هذه الفئات أفقر الى الخيال والى الشجاعة من أن تقدم معالجة فنية صادقة لمسألة الطائفية، أو لغيرها من المسائل التي تغلي في العالم العربي. بل ليس من المبالغة في شيء القول ان وعيا طفوليا بائسا يقف وراء هذا النوع من الانتاج الفني، عاجزا عن رؤية الأبعاد الحقيقية لعلاقات الطوائف وتاريخها.
تدفع سذاجة تناول الفيلم المذكور لموضوع الطائفية الى طرح سؤال آخر عن اللغة الفنية أو الادبية المعاصرة في العالم العربي، خلاصته: هل قضايانا من السخف والركاكة بحيث لا يستطيع عمل فني أو أدبي الإحاطة بها وتقديم أشكال مناسبة من التعبير عنها؟ اذا كان الجواب يذهب الى التقليل من شأن القضايا التي يعيشها الانسان العربي أو اللبناني، فإن في ذلك مبرراً لسؤال آخر: ما الدافع الى هذا العنف الخرافي الأبعاد إذاً عند كل محطة ومنعطف من تاريخنا؟ أليس في العنف علامة على انسداد طرق التغيير السياسي والاجتماعي الأخرى؟ هل المشكلة هي حصرا مشكلة لغة أدبية وقصور في التعبير؟
سؤال آخر يكتسي أهمية في المجال هنا: ماذا يقول الإفلاس الفني والأدبي عن أحوال المجتمعات والسياسة في العالم العربي؟ يتعين في محاولة الاجابة عن السؤال هذا الانتباه الى ان الشكوى من الانحطاط السائد يتشارك فيها كل المعنيين بالشأن العام، حتى ليكاد المرء يعتقد أن الانحطاط وباء مجهول المصدر ليس من مسؤول عنه سوى سوء الطالع أو المؤامرة نفسها.
وليس أدل على غرابة الموقف من أن بعضا من كتّاب الصحف والمجلات الصفراء بات يقدم نفسه ناقداً سياسياً وثقافياً، معطياً نفسه الحق في منح صفات الوطنية أو الخيانة لجهات وقوى سياسية ومثقفين ممن لا يحتاجون أصلا الى شهادته. واذا كانت ظاهرة انتشار الكتابات الصحافية والاعمال الادبية والفنية السطحية والتافهة التي تعج فوق ذلك بكمية مخجلة من الأخطاء في المعلومات البسيطة، تدل، في العمق، على ضحالة أصحابها وقرّائهم ومشاهديهم وعلى ضآلة حظوظ القائمين على وسائل الاعلام التي تنشر وتبث لهم من الاطلاع والمتابعة، إلا انها تبرز في المقابل البون الشاسع بين أعمال عربية لا تنقصها الجدية والدقة وبين ما يقبل عليه الجمهور العريض.
وليس صحيحا أن المكتبة العربية تخلو من الإصدارات الجديدة القيمة والمهمة. استعراض لعناوين الكتب الصادرة في عام واحد يشير الى عدد لا بأس به من الاعمال الرصينة. غير ان المفارقة تكمن في نقطتين: الاولى تتمثل في تقلص تأثير هذه الاعمال على المستوى العربي العام، والثاني ان الكثير من الكتب المحتوية على مقاربات يفترض ان تثير جدالات كبيرة وتؤدي الى تحريك المستنقع الآسن الذي يقبع العرب فيه، لا تلاقي الصدى اللازم. وفي أحسن الأحوال، تظل النقاشات محصورة في دائرة ضيقة من المعنيين مباشرة بها. ما هو عدد المهتمين اليوم بمضمون النقاش الذي يخوضه جورج طرابيشي مع محمد عابد الجابري على سبيل المثال، على الرغم من أن الرجلين قدما طروحات في غاية الاهمية في الموقف من التراث والدين والعقل والمعرفة الخ… ولعل في بعض ما قاله طرابيشي في ردوده على الجابري ما يكفي لتغيير مسار الثقافة العربية المعاصرة لو ان هذه قابلة للتغيير.
والأدعى الى الاستغراب ان »النجوم« من المثقفين العرب سرعان ما يتحولون بعد وفاتهم أو قبلها الى أيقونات غير قابلة للنقاش النقدي، فينقسم الرأي العام حيالها الى شطرين متحاربين، فيما النقد هو ما يعطي القيمة الحقيقية لأي عمل ذي صفة فكرية أو ثقافية تعنى بشؤون المجتمع ككل أو موقع هذا الشعب في العالم. وليس نادرا في عالم الانحيازات العربية الاقرب الى اتخاذ أشكال الولاءات العصبية والقبلية، ان تخرج مجموعة من حواريي المثقف الراحل لتلبسه الرداء الذي كان يرفضه وهو على قيد الحياة، ولتضع على لسانه ما لم يقل، أو ما قال لكنه عاد وتراجع عنه أو بدّل فيه. ولنا في إدوارد سعيد، وخصوصا في كتابه »الاستشراق«، نموذج على هذه الظاهرة.
هل لنا ان نميز تمييزا اعتباطيا بين ثقافة عربية نخبوية وأخرى للعامة؟ الفصل هذا موجود في الوعي العربي منذ قرون، ربما من قبل أن يدعو ابن رشد الى عدم إطلاع العامة على حقائق الحكمة والشريعة لعجزها عن اكتناه المعاني العميقة لهما. لكن من المنصف تماما القول ان السير على درب النصيحة هذه أفضى بنا الى حال صرنا معها نفضل ذكاء الواقع الطائفي على غباء الوحدة الوطنية وفق ما يقدمها لنا »حسن ومرقص«.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى