قصائد من الشاعر أمجد ناصر
مختارات من ديوان : ” مديح لمقهى آخر ”
1- مقهى آخر :
بوسعك،
أنت الذي لا يكل من الارتهان
بوسعك أن ترحل الآن:
لا وجهة
لا حقائبَ
لا ماء في جرة العُمر
لا زوجة في الثياب النظيفة
لا مطرا في المسالك
لا نجمة في الفضاء الذي يكسرُ الظَهر
منذ انحسار الرضا
صحيح!
ولكنه كفن واحد ثم ترتاح!
ـ أقمتُ طويلاً؟
ومقهى الجزيرة لم ينحنِ في المساء،
علي ركبتيه
لم يشته شارعا آخر
لم يضق بمساحته
وبأخشابه الشتوية،
بالزبن الدائمين
ولم يرتجل مشهدا للنساء المثيرات في المدن
الساحلية
لم ينته ضيقا كيديك،
ولم ينتشر كالدماء.
ـ وماذا تقول؟
ـ أحاول ان أهتدي لصباح
يلائم ترنيمتي وهوام الشعاب.
***
2- أبواب للسماء ولكنها.. ضيقة:
I
لن اغتصب ملامحي بدعوي التفاؤل
ولكني سأنشر ألواح صدري للطيور
القادمة من البحر أو الصحراء، وأنفثُ
حزمة من الدخان الحي، وأهدأ.
II
أرعن كان القلبُ،
صبياً طائشَ الشعر،
يعثرُ في غصون الليل المتهالكة
والمدينة لم تتحول بعد
الى حصان خاسر.
عادة يطلقون الرصاص الحار بين عيني
الحصان الخاسر، لم تطاوعني أصابعي
المتشنجة،
الممسكة بشبكة من الفراغ
أو بقبر خال من الجثة.
تلمست كفاً من الحديد المطاوع،
لم أطلق النار،
فالمدينة لما تزل غارقة في الصهيل.
III
أين تذهب الأحزان والسجائر،
إذا ارتحلت المقاهي الى غير عودة:
الشعراء الصغار
والرغوة،
والنقد غير الموضوعي،
والقصص التي تصلح للخواطر والبؤس ايضا!
أين تؤسس مملكتك الوهمية أيها الحلم.
…………..
…………..
ان المقاهي أكثر رسوخا من الأظافر،
فما الضير في ذلك؟
IV
القلبُ وهو مُضغة من الإسفنج النادرِ
لا يملك اتقاء العثرات القادمة من كل صوب.
والمدينة لم تتحول بعد الى سيف مرهف
والشقاء أوسع أبواب السماء الضيقة.
V
لن اغتصب ملامحي بدعوي التفاؤل
إرضاء للزوجة والجيران السبعة
فالحزن، الجواد المرشح للسبق
صادفني في الطريقِ
ومدّ لي يده الشاحبة المعروفة،
فمددت له يدي،
وضحكنا معاً:
ليل المدينة طويل،
بدون تلك الأجرام المضيئة
المكونة أصلا
من مزاج الفوسفات واللحم الآدمي،
والمقاهي برغم كونها سرادق للشعرِ
الخائب والنقد غير الموضوعي
والسجائر المدخنة أبدا،
الا أنها صخور واطئة
للطيور القادمة من البحرِ
أو من الصحراء.
VI
لعمّان رائحة الجياد
والقميص الوحيد المعلق في خزانة الأرملة.
لعمان رائحة الأجساد المرهقة.
أفكر الآن:
هل كان البنك العربي
قريباً من ماء السيل
قريبا من آخر ليل،
أم كان بعيدا عن قلبي (1)
ترتعش الأصابع المشيرة نحو الأفق.
لا.. كان صيفا لا سبيل الى إطفاء حرائقهِ
كان وقتاً مكرسا للانتكاسة.
VII
في المحطة يتشكل المشهدُ:
حقائبُ من جلود وأحجام ومحتويات
مختلفة،
وجوه تتطاولُ
وتشرئب،
ملامح تأخذ شكل التقلصات الحادة.
القطارُ يذهبُ الى الشمال أو الجنوبِ،
لا فرق.
المصفرات الطويلة
تصبح خيطاً رفيعاً
متوتراً
وينفرط المشهدُ.
آه أيتها المدن الأكثر بُعداً من الحلم.
لن يصلك الصفير أبداً.
بيروت ـ مطلع 1979
————-
(1) مقطع من قصيدة للشاعر الفلسطيني زكريا محمد .
***
3-نباتات الظلّ:
I
الحبُّ غيرُ ممكنٍ كالمرأةِ التي دشّنتْ حبيبَها بالتداعيات، كأزهار الفُلفل التي أعادتْ إلي
الحديقةِ فحولةَ الرائحةِ. عَطَسَ الرجل ُومضي بين الخيطِ الأبيضِ والخيطِ الأسودِ، ولم يقع
في الحبِّ.فالحبُّ غيرُ ممكنٍ، كالنوم في ضوء مصابيح المركبات الفضائية، كلغةٍ تقشّرتْ
في ظهيرةٍ استوائيةٍ، فاستوتْ علي عرشِ التنقيط.
II
وعندما مررنا، وكانوا يتجادلونَ في الحبِّ نَطّتْ امرأة ٌمن نافذةٍ واطئةٍ، وأعطتْ انطباعاً بأنّ الحربَ
ما زالت دائرةً في الرُّبعِ الملآن من الكأس.
في ذلك الوقتِ لم تكن الخلاخيلُ قد دَرَجَتْ كاحتمالٍ للغواية، ولكننا سمعنا، ونحنُ علي ظهور الجياد،
نشيجاً عالياً أقربَ إلي سكِّ الدراهم، ولم نبالِ بالرّجفة التي سرت في أعناق الخيول فلكزناها،
ولكن النّهار قد طَلَعَ، وظلَّ النشيجُ عالياً في الكتب.
قال لنا رجلٌ: انهم ثلاثةٌ ورابعُهم كلبُهم.
وقال آخرُ: أربعةٌ وخامسُهم كلبُهم.
وقالتْ امرأةٌ تفوحُ برائحة البابونج: المياهُ قريبةٌ من كتفِ الجبلِ فاغسلوا ثيابَكم، واذهبوا الى النوم.
وبعد قليل عادَ التيارُ الكهربائي وألقي السلامَ، ولم يعد الحبُّ ممكناً في ظلِّ نباتاتِ الظلِّ التي تحتلُ
أركانَ الغرفة.
نيقوسيا
***
4- ظلُّ الوردة:
(استلهاما من بورخيس)
هل الظاهرُ عكسُ الباطن؟
سَوْرَةُ الريح؟
الحياةُ الصامتةُ للأشجار؟
زنةُ لفظِ الجلالةِ علي لسان القانط من كلِّ رجاء؟
ذلك الجبلُ الذي صعدتُه لا أدري متى وكيف وقال لي راهبٌ
معمدانيٌ عندما علم أن أسمي يحيي أن موسي ألقي
عصاه هنا ولم تكن أفعى بل خشبةً منخورةً وتطلَّعَ
من هذه القمةِ الجرداءِ فرأي دماً يغمرُ الوادي؟
أهو قطعةُ النقدِ التي أرَّقتْ ليل الأعمى الذي لا يشبُهُ
نهارَه إلاّ في درجة الماء الأزرق؟
الخنجرُ
الصرخةُ
القميصُ الذي تتساقطُ أزرارهُ من الألم؟
اليدُ التي تلوِّحُ لمشاة يولدون من الغبار ويعودون إليه بوسومٍ
علي الجباه، نُدبٍ علي التراقي؟
هذه المدنُ التي لم يرها أحدٌ:
بوينس أيرس بورخيس
شيراز سعدي
فينيسيا إيتالو كالفينو
طنجةُ محمد شكري.
ظل ُ الوردة؛
خيطُ الدمِ الخاثرِ؛
فتقُ الحجاب؟
***
5- القلعة :
جسدُكِ قاطعٌ كالكلمة التي رميتِها فصار تفاحُ القبلةِ نردا،
كسكينٍ تقطعُ وتقطعُ ولا تتركُ أثرا.
جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ إلي درجة أشكُّ فيها بمصدر هذا الشميم الذي يمهد الطريق
إلي طيرانٍ بلا أجنحة، فكيف في هذه الأرض الضيّقة يمكنُ للخشخاش أن يذرّ بقرنه.
جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ كعين الحسود ولكنني بأطوال نايات أسلافي أدخل وأجد ريشا ملونا
وعظاما لينة ولا أصل إلي ما أخفاه أسمك عني عندما تقدم إلي بجرسه الآمر.
جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيق يصدُّ ويردُّ،
يقرّبُ خدما وأوباشا من جاهلي إعجازه ويغلق قلعته علي نفسه.
***
6- ماذا في القُبلة؟ :
لشدَّ ما حيَّره الموقعُ الإنطولوجيُّ للقُبلةِ في الحبِّ، أو ما يتصورُه حبَّاً.
مرةً قالتْ له بائعةُ هوي وهي تعدّدُ ثَمَنَ كلِّ فعلٍ يقومُ به معها (منفصلةً تماماً عن جسدِها أثناء شرحِ شُروطِ التعاقدِ.. والممارسةِ أيضاً) إنَّ لكلِّ شيءٍ ثمنَه.. وكلُّ شيءٍ ممكنٍ.. إلا القُبلةُ!
امرأةٌ مطلّقةٌ يعرفُها قبلَ الزواجِ وبعدِه تركتْ، في لحظةِ انسجامٍ كاملٍ، يدَه تصولُ وتجولُ في أنحائها البهيّةِ وشفتيه تطْبعانِ قُبلاً مُذَنَّبةً على نحرِ الصدرِ، العُنقِ، الخدينِ، ولما اقتربتا من الفمِ أدارتْ له خدَها.
استغربَ، طبعاً، هذا التمنعَ المفاجئ بعدَ أنْ قامَ بكلِّ ما يلزمُ للوصولِ الشفتين فقالتْ له: لستُ جاهزةً لتسليم مفتاحي!
لكنَّ الأغربَ من هذه وتلك الفتاةُ التي بالكاد يعرفُها ولم يكنْ في ذهنه لما دعاها إلي كأسٍ غيرُ تزجيةِ وقتٍ مرحٍ معاً.
الكؤوسُ المتلاحقةُ التي تجرعاها تحتَ قصفٍ مُتصلٍ من الضحكِ والهذرِ أدتْ إلي تلامس الأيدي، السيقانِ، تقاطعِ الأنفاسِ، فعزّزَ الإحتكاكَ بلمساتٍ اختباريةٍ للكتفِ، لوحِ الظَهرِ، تجويفِ الخصرِ أرادها عارضةً، كهذا اللقاءِ نفسِه، فتحولتْ، لدهشتهِ، ضماً وتقبيلاً علي الفم، وراحَ اللسانانِ يفتحانِ محاراً في الفمِ ويُقطّرانِ عنّاباً علي الشفاه.. وإذ حاولَ الإنتقالَ، سُفلاً، إلي الخطوةِ الأخرى أمسكتْ يدَه.
لدهشته أيضاً، بل لإحباطه، قالتْ له، بامتلاءٍ داخليٍّ لم يبلغْه: هذا يكفي!
لا بدَّ أنه احتارَ، لاحقاً، تحتَ أيِّ نجمٍ ماكرٍ يُصّنفُ أحوالَ القُبلةِ المُتَقلِّبة.
القُبلةُ..
القُبلةُ..
ماذا في القُبْلةِ؟
***
7- البيتُ بعدَها :
لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي.
فأخواتي الأربعُ، صورُها الجانبيةُ شابةً، يواصلنَ رفعَ النَّهارِ علي أثافيه الثلاثِ: الهالُ صباحاً، الكُرْكُمُ ظُهراً، النعْناعُ مساءً. ففي بيت أهلي لا حاجةَ بكَ إلي ساعةِ يدٍ أو حائطٍ يكفي أن تشمَّ الرائحةَ لتعرِفَ موقعَ الشَّمسِ في السّمتِ.
لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي.
فأيدي أخواتي منهمكةٌ في ترتيبِ غرفٍ غادرَها أشقاؤهن الخمسةُ إلي بيوت أخري لن يعرفوا
فيها الراحةَ رُغم أنهم لم يعودوا ينامون علي فرشاتِ الليفِ الممدودةِ علي الأرضِ ولا يرتجفونَ أمام شاي الصباحِ وخبزهِ كالمدمنين.
لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي.
حتى أننا كلما رأينا كوثرَ، كبري أخواتي، عاكفةً علي ضبطِ توازنِ الملْحِ في القمْحِ، ظننا أن أمي لم تبرحِ البيتَ الذي بنته لهفةً لهفةً بكفنٍ أبيضَ وجسدٍ أكلَه السّرطانُ قطعةً قطعةً إلي مقبرةٍ ستضمُ أولَ ميتٍ في العائلة.
لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي.
النَّهارُ بخطوطِ عرضهِ الثلاثةِ
الغرفُ المرتبةُ تنتظرُ أولادَها الغائبينَ
المارثونُ الأبديُّ لأبي بين إبريقِ الوضوءِ والجامعِ.
الحنينُ الذي لا يكلُّ لأيامِ الفاقةِ السعيدة.
كلُّ شيءٍ علي حالهِ.
إلا تلك اليدَ التي يخضرُّ لها التراب.
لندن
9/2002
***
8- سكة العاشقين :
I
وراءَ مريولِ سحر المقلَّمِ وشَعرِها الأشقرِ المتوهجِ تحتَ شمسٍ
تطبخ الرؤوسَ أمشي بخطي مدروسةٍ بالمنقلِ والفرجار.
المسافةُ بين خطوينا المرتبكينِ أمامَ محالَّ يَغُطُ أصحابُها في قيلولةٍ قاهرةٍ
فيما صبيانُهم يكْرعونَ المرطباتِ خلسةً، ضروريةٌ لدرءِ شهامةِ العابرين.
لفتاتُها للوراءِ المحسوبةِ بالضلعِ والنبضةِ، والأغنيةُ التي تنبعثُ من جانبيّ الطريقِ
تكفيان كي أمشي وراءَ مريولِها الُمقلّمِ وشَعرِِها الأشقر إلي الأبد.
لفتاتٌ لهفي تخشي افترارِ همةِ العاشقِ أو عدمَ وصولِ الرسالة:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحدٌ سواك!
وأغنيةٌ مغناةٌ لنا وحدَنا في فراغِ الدنيا العظيمِ تندبُ مصائرَ العشقِ رُغمَ أنني لم أجرحْ قلباً ولا هجرتُ بلداً بعدُ علي ما هو حالُ حبيبِ المغنيةِ الخؤون.
II
بعد سنينَ لم أعدْ أحصي تَكَسّرَ نصالِها وضعتُ شريطاً في مسجلِ سيارتي علي الطريقِ السريعةِ
من غرب لندنَ إلي وسَطِها (لا أدري بأيّ معجزةٍ نجا من تنقّلِ المنازلِ والقلوب) فانسابَ الصوتُ :
رندا فون تقدم
صوتَ القلوبِ الهامسة
صوتَ السحر: نجاة،
وكرَّ شريطٌ آخرُ مثقلٌ بالخدوشِ إلي الوراء.
…………….
…………….
في السنة التاليةِ ارتدتْ سحر مريولاً أطول.
شَعرُها الأشقرُ خفَّ تَوَهجُهُ تحتَ شمسٍ تواصلُ طبخَ الرؤوسِ
المسافةُ بين خطوينا تقلّصتْ حتى صرتُ أسمعُ نبضَها المتسارعَ
لكن النظراتِ أخذتْ تنحرفُ عن الهدفِ قليلاً
لم تعدْ تؤكدُ بلهفةٍ:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحدٌ سواك!
…………
في الإجازةِ الصيفيةِ علمتُ من كاتمةِ أسرارِها أنها تزوجتْ جندياً قريباً
لها ورحلتْ معه إلي معان .
غير أن الأغنيةَ التي كانت تنبعثُ من صناديقَ عظميةٍ مُجللةٍ بالأقمشةِ
وتعاويذَ عينِ الحسودِ علي طولِ شارع السعادة ظلتْ تندبُ مصائرَ العشقِ
والحبيبِ جارحِ القلوبِ الخؤون.
من معسكر الزرقاء
إلي قصر شبيب
وبالعكس،
الأغنيةُ التي تدندنُ لي وحديَ، الآنَ، تهوّنُ عليّ الطريق:
طويلة
طويلة
يا سكة العاشقين.
لندن
صيف 2003